هنا يُصنع التاريخ، وتُبنى الحضارة الراقية بالقيم والأخلاق وتطبيق شريعة الرَّب سبحانه بكل حذافيرها ولا يُستثنى منها أحد لا الحاكم ولا المحكوم فالكل بالحق سواء، فالعدل فسطاط الحضارة الإنسانية والظلم والجور برميل بارود وضعه الطغاة في أساسها ربما ينفجر في أي لحظة فيأتي عليها، لأن الظلم ظلمات، والظالم...
مقدمة قيادية
القيادة مسألة في غاية الأهمية في الحياة البشرية، إذ لولا القيادة لكانت الحياة فوضى مدمِّرة فالذي يضبط المسيرة الإنسانية، وينظم الحياة البشرية هو المدير الناجح، والذي يطورها ويتقدَّم بها هو القائد الشجاع المبدع، وهنا يكمن الفرق بين القائد والمدير، إذ المدير هو الذي يحافظ على الجماعة، وأما القائد فهو الذي يصنع الجماعة ثم يدفعها في طريق تحقيق الأهداف المرسومة، وكلما كانت الأهداف عظيمة كلما كان القائد قدوة، والمدير وسيلة للوصول إليها.
فالقيادة في كل عمل ذا خطر يجب أن يكون هو الذي يؤلف فريق العمل له، وهو الذي يحدد الأهداف، ويدفع الجميع باتجاه تحقيقها، ويراقب التنفيذ في كل المراحل وكلما انحرف الفريق، أو ضعف أو توانى عن المضي قدماً في الاتجاه الصحيح والعمل السليم كان القائد هو الذي يقوِّم الانحراف، ويشجع على العمل ويصحح المسيرة لتلك الجماعة النشيطة العاملة.
فالقائد كالعقل المدبِّر، والمدير كالجسد المنفِّذ لأوامر العقل، والعقل هذه الهبة الرَّبانية التي أعطاها الله للإنسان من عالم الخلق، وهو المسكة والنور الإلهي الذي كرَّم الله الإنسان به، إذ أن العقل هو ما يميِّز الإنسان عن بقية المخلوقات الحيَّة، كما أنه عزز العقل -القائد- بالإرادة -المدير- المنفذ لتكتمل نعم الله على الإنسان ويكون أهلاً لتلقي التكليف الإلهي، ويتشرف بتحمل المسؤولية عن أفعاله وأعماله التي سيحاسب عليها في الدنيا والآخرة.
حقيقة العقل الإنساني
والإنسان حقيقته ليس بجسده الترابي أبداً، بل حقيقته تكمن في روحه، التي هي تلك النفخة الربانية التي منَّ الله بها عليه منذ أن خلق أبينا آدم (ع) من كتلة تراب صلصالية جامدة ميِّتة، ولكن عندما جاءتها تلك النفخة دبَّت فيها الحياة، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ) (الحجر/29)
فالنفخة الروحية، والنفحة الرحمانية هي التي أعطت لهذا المخلوق الحياة، والقيمة، والكرامة، والفضيلة، وإلا فما هو إلا كتلة من التراب المهين، وأوله نطفة صغيرة لا ترى بالعين، وآخره جيفة تأباها النفس، وكما قال عنه حكيم الإنسانية، وأمير المؤمنين فيها: (عَجِبْتُ لاِبْنِ آدَمَ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ وَآخِرُهُ جِيفَةٌ وَهُوَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وِعَاءً لِلْغَائِطِ ثُمَّ يَتَكَبَّرُ). (علل الشرایع: ج۱ ص۲۷۵)
أو قوله الحكيم الأكثر بياناً وتفصيلاً الذي يقول فيه: (مَا لاِبْنِ آدَمَ وَاَلْعُجْبَ، وَأَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرُهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ يَحْمِلُ اَلْعَذَرَةَ) (غرر الحكم: ج۱ ص696)
أو قوله (عليه السَّلام): (اِعْجَبُوا لِهَذَا اَلْإِنْسَانِ يَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَيَتَكَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَيَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَيَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ)! (نهج البلاغة: ج۱ ص4۷۰)
هذا هو الإنسان وهذه حقيقته التي يريد ويرغب أن يخفيها ويُظهر منها تلك الشخصية المريضة التي تقول له: أنت فرعون فتفرعن، أو نمرود فتنمرد وتمرَّد، وظن بنفسه أنه إله أو نصفه أو أنه يستطيع أن يفعل ما يفعله الإله وهو يرى ويعرف ضعفه وهوانه وقلَّة حيلته بنفسه إذ لو انحبس نَفَسَه دقيقة لمات، أو لو أصابته شوكة صغيرة في ظهرة لشلَّته وأصبح كالخرقة البالية بلا نفع ولا فائدة، ومهما طال به الزمن فنهايته إلى الموت بلا شك ولا ريب، فأين هو من كل ما يدَّعيه من قوى وطاقات وهو من أضعف المخلوقات حيث قال عنه خالقه: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) (النساء/28)، وما عسى أن يحتمل الضعيف؟
فالإنسان إنما صار إنساناً بعقله وإرادته، ولذا ورد في العقل هذا النور الرَّباني الموهوب له بأنه مخلوق من مخلوقات الله المفضَّلة حيث خلقه وخاطبه وشرَّفه وكرَّمه ثم أعطاه للإنسان ليكون ميزاناً فيه وله في حياته وعليه يحاسب في حياته وبعد مماته أيضاً ولذا ورد في حديث نبوي قاله لوصيه وربيبه أمير المؤمنين (ع): (يَا عَلِيُّ؛ إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اَللَّهُ اَلْعَقْلُ فَقَالَ لَهُ: أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ، فَقَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، بِكَ آخُذُ وَبِكَ أُعْطِي وَبِكَ أُثِيبُ وَبِكَ أُعَاقِبُ). (الفقيه للصدوق: ج4 ص369)
والإمام محمد الباقر (ع) قال فيه: (لَمَّا خَلَقَ اللهُ الْعَقْلَ اسْتَنْطَقَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَقْبِلْ، فَأَقْبَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أَدْبِرْ، فَأَدْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقَاً هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْكَ، وَلَا أَكْمَلْتُكَ إِلاَّ فِي مَنْ أُحِبُّ، أَمَا إِنِّي إِيَّاكَ آمُرُ وَإِيَّاكَ أَنْهى، وَإِيَّاكَ أُثِيبُ وَإِيَّاكَ أُعَاقِبُ) (الكافي: ج1 ص24)
وهذا العقل الشريف جعله الله في الإنسان ليكون لائقاً بعبادة الله وتشريفه بالتكاليف الإلهية المختلفة، ولذا قال عنه أئمة الهدى وسادة العقلاء: (مَا عُبِدَ بِهِ الرَّحْمنُ، وَاكْتُسِبَ بِهِ الْجِنَانُ)، قَالَ: قُلْتُ: فَالَّذِي كَانَ فِي مُعَاوِيَةَ؟ فَقَالَ: (تِلْكَ النَّكْرَاءُ، تِلْكَ الشَّيْطَنَةُ، وَهِيَ شَبِيهَةٌ بِالْعَقْلِ وَلَيْسَتْ بِالْعَقْلِ)، أو قوله (صلوات الله عليه وآله): (يَا عَلِيُّ الْعَقْلُ مَا اكْتُسِبَتْ بِهِ الْجَنَّةُ وَطُلِبَ بِهِ رِضَا الرَّحْمَنِ)، فالذي يطيع الشيطان، أو هوى نفسه ليس له من العقل اسم ولا رسم بل هو مطية للشيطان يأخذه حيث يشاء كمعاوية الداهية وأمثاله من شياطين الإنس.
القائد صانع التاريخ
القادة في التاريخ البشري أنواع منها: نوع وراثي، لأن النجابة تتوارث كما البلادة كذلك، وآخر واقعي أي تصنعه الظروف الواقعية حيث تُجبر أحدهم على تولي القيادة في الوقت الحرج فيثبت جدارته بها لا سيما على مستوى القادة العسكريين في ساحات المعارك والقتال، فهؤلاء تصنعهم الضرورة والظروف الاستثنائية، ومنهم مَنْ تصنعه أمته قائداً والناس من حوله يدفعونه للقيادة ويطيعونه طاعة عمياء فيصنع بهم ولهم تاريخ وربما حضارة مادية كما فعل هتلر بألمانيا، أو ستالين في روسيا، أو ماوتسي تونغ في الصين، أو نابليون في فرنسا، أو معاوية في الشام، فهؤلاء ليديهم ذكاء ودهاء وشيطنة استخدموها لتجميع الناس حولهم وإجبارهم على المسير خلفهم.
ولكن هناك قادة ليس من هذه الأقمشة البشرية المختلفة بل هم من قماش إلهي مختلف تماماً، فهم ليسوا من صناعة البشر بل هل صناعة ربانية بامتياز ولذا تراهم يصنعون ويربون الإنسان المؤمن التقي الحضاري، والأمة الصالحة والتاريخ، ويبنون الحضارة الإنسانية الراقية، فهؤلاء من صناعة السماء في الأرض لا من نبت الأرض، ولذا تكون مهمتهم لرفع أهل الأرض إلى السماء إذا ما استجابوا لهم وآمنوا به وسلَّموا لهم قيادتهم، وعلى رأس هؤلاء العظام من قادة الأمم يأتي الأنبياء والرسل الكرام (صلوات الله عليهم).
فمنذ أبو البشرية الثاني نبي الله ورسوله نوح (ع) شيخ الأنبياء وأطول الناس عمراً كما قال له جبرائيل (ع)، والتاريخ يصنعه هؤلاء العظماء، والحضارة تقوم على تعاليمهم، والناس يسيرون على نهجهم وطريقتهم ولكن كان الشيطان لهم بالمرصاد ليحرفهم عن ذلك الطريق المستقيم، والطغاة ينقلبون عليهم ليقودونهم في متاهات الضلال والضياع إلى أن يزداد الانحراف ويغوص الناس في لجَّة الضلال فيبعث الله إليهم مَنْ ينقذهم ويرفعهم من ذلك المستنقع الآسن، فجاء أبو الأنبياء وبطل التوحيد إبراهيم الخليل وأسس للحضارة الإنسانية حيث مهبط الحضارة في أرض الرافدين والعراق العريق، ولكنه هاجر بلاد يحكمها الطاغوت نمرود وانطلق إلى الأرض المقدسة والمباركة ليبدأ من هناك رحلة الحضارة البشرية التي انقسمت ما بين فرعين من فروعه الأصيلة.
الفرع الإسحاقي ثم اليعقوبي (الإسرائيلي) في بلاد الشام وما يعرف في بلاد كنعان، والفرع الإسماعيلي العدناني وما يعرف في العرب من أرض فاران ومدينة مكة المكرمة حيث وضع سارة وولدها إسحاق في فلسطين، وعند بيت المقدس، وهاجر وولدها إسماعيل في مكة المكرمة عند البيت الحرام، ومن هناك بدأت مسيرة التاريخ الحضاري للبشر تسير على خطى إبراهيم ونسله، وبدأت حضارة السماء تنموا وحضارة الأشقياء تعارضها، والأنبياء يبنون الإنسان المؤمن والمدنية الصالحة، فينقلب عليهم أتباع الشيطان فيذلون الإنسان ويهدمون ما يبنيه الأنبياء ويحاولون بناء حضارة مادية تليق بهم بعيدة عن السماء وتعاليم الأنبياء.
الله مشرِّع القوانين
الحقيقة التي يجهلها معظم الناس هي أن التشريع وسن القوانين بيد الله وبأمره وليس لأحد أن يشرِّع من تلقاء نفسه -إلا الرسول الأكرم فله بعض الصلاحيات والخصوصيات بإذن الله تعالى- وإلا فلا الملك ولا الرئيس ولا الشعب ومجالسه النيابية، ولا كل هؤلاء الذين يحاولون معارضة الخالق في تشريعاته الحكيمة فيشرِّعوا لأنفسهم ما يناسبهم من قوانين عليهم إثمها وإثم مَنْ يعمل بها، وذلك لأن الله تعالى حصر مسألة التشريع بذاته المقدسة لأنه عالم بالإنسان وأحواله وبالزمان وتقلباته وتصرفاته والمصلحة في كل ذلك ولكن البشر محدود ومقيد في الزمان والمكان والظروف فلا يمكن أن يشرع قوانين صحيحة، ولذا قال مبيناً هذه الحقيقة في كتابه الحكيم: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) (الشورى: 15)
أي بيَّن معالم الدِّين لكم حتى لا يجهله أحد منكم، والدِّين واضح المعالم معروف الحدود وهو واحد من عهد نوح وكل مَنْ جاء من بعده من الأنبياء الكرام، فجوهره التوحيد، وخلاصته الاستقامة والتقوى واتباع التشريع الإلهي وعدم اتباع الهوى النفسي والتشريعات البشرية الباطلة والتي يسنُّها البشر للمحافظة على مصالحهم وليس المصلحة العامة والدائمة والمستمرة، ولذا ورد في الحديث الشريف: (حَلَالُ مُحَمَّدٍ حَلَالٌ أَبَداً إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَحَرَامُهُ حَرَامٌ أَبَداً إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، لَا يَكُونُ غَيْرُهُ وَلَا يَجِيءُ غَيْرُهُ). (الكافي: ج1 ص148)
وأمير المؤمنين الإمام علي (ع) يقول: (مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ لِلْقِيَاسِ، لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي الْتِبَاسٍ، وَمَنْ دَانَ اللهَ بِالرَّأْيِ، لَمْ يَزَلْ دَهْرَهُ فِي ارْتِمَاسٍ)، فدين الله لا يعرف بعقول الناس الناقصة، كما شرح ووضَّح وبيَّن الإمام السجاد عَلِيُّ بْنُ اَلْحُسَيْنِ (عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ) بقوله: (إِنَّ دِينَ اَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لاَ يُصَابُ بِالْعُقُولِ اَلنَّاقِصَةِ وَاَلْآرَاءِ اَلْبَاطِلَةِ وَاَلْمَقَايِيسِ اَلْفَاسِدَةِ وَلاَ يُصَابُ إِلاَّ بِالتَّسْلِيمِ فَمَنْ سَلَّمَ لَنَا سَلِمَ وَمَنِ اِقْتَدَى بِنَا هُدِيَ وَمَنْ كَانَ يَعْمَلُ بِالْقِيَاسِ وَاَلرَّأْيِ هَلَكَ وَمَنْ وَجَدَ فِي نَفْسِهِ شَيْئاً مِمَّا نَقُولُهُ أَوْ نَقْضِي بِهِ حَرَجاً كَفَرَ بِالَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّبْعَ اَلْمَثَانِيَ وَاَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ وَهُوَ لاَ يَعْلَمُ). (كمال الدين: ج۱ ص۳۲4)
وهنا تكمن عظمة الإمام علي بن أبي طالب (ع) الذي سلَّم نفسه وأمره لرسول الله (ص) منذ نعومة أظفاره، ولم يتحدَّث التاريخ كله عند الموالي والمعادي بأنه ردَّ أو اعترض أو تقاعس عن تنفيذ ما يأمره به رسول الله (ص) بل كان كله تسليم وطاعة واتباع وانقياد طوعي لله ورسوله، وكان في قمَّة العبودية لله بحيث أن حفيده الذي عرفته الأمة بزين العابدين والسَّجاد وذي الثفنات من كثرة عبادته وسجوده لله، حيث يُرى أنه (دَخَلَ أَبُو جَعْفَرٍ اِبْنُهُ (عَلَيْهِمَا اَلسَّلاَمُ) عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ بَلَغَ مِنَ اَلْعِبَادَةِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ أَحَدٌ فَرَآهُ قَدِ اِصْفَرَّ لَوْنُهُ مِنَ اَلسَّهَرِ، وَرَمِصَتْ عَيْنَاهُ مِنَ اَلْبُكَاءِ، وَدَبِرَتْ جَبْهَتُهُ وَاِنْخَرَمَ أَنْفُهُ مِنَ اَلسُّجُودِ، وَوَرِمَتْ سَاقَاهُ وَقَدَمَاهُ مِنَ اَلْقِيَامِ فِي اَلصَّلاَةِ، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ): فَلَمْ أَمْلِكْ حِينَ رَأَيْتُهُ بِتِلْكَ اَلْحَالِ اَلْبُكَاءَ فَبَكَيْتُ رَحْمَةً لَهُ، وَإِذَا هُوَ يُفَكِّرُ فَالْتَفَتَ إِلَيَّ بَعْدَ هُنَيْهَةٍ مِنْ دُخُولِي فَقَالَ: يَا بُنَيَّ أَعْطِنِي بَعْضَ تِلْكَ اَلصُّحُفِ اَلَّتِي فِيهَا عِبَادَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ) فَأَعْطَيْتُهُ فَقَرَأَ فِيهَا شَيْئاً يَسِيراً ثُمَّ تَرَكَهَا مِنْ يَدِهِ تَضَجُّراً وَقَالَ: مَنْ يَقْوَى عَلَى عِبَادَةِ عَلِيٍّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ). (الإرشاد للمفيد: ج۲ ص۱4۱)
هذا علي بن أبي طالب (ع) الذي إذا قرأت عن عبادته تظن أنك تقرأ عن شخص قضى حياته في كهف من كهوف الجبال وصدق ما جاد به الشريف الرضي بقوله: (ومن عجائبه (عليه السلام) التي انفرد بها، وأمن المشاركة فيها، أن كلامه الوارد في الزهد والمواعظ، والتذكير والزواجر، إذا تأمله المتأمل وفكر فيه المتفكر، وخلع من قلبه أنه كلام مثله، ممَّن عظم قدره ونفذ أمره، وأحاط بالرِّقاب ملكه، لم يعترضه الشك، في أنه كلام مَنْ لاحظ له في غير الزَّهادة، ولا شغل له بغير العبادة، قد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسَّه ولا يرى إلا نفسه، ولا يكاد يوقن بأنه كلام مَنْ ينغمس في الحرب، مصلتا سيفه فيقط الرِّقاب، ويجدِّل الأبطال، ويعود به ينطف دماً ويقطر مهجاً، وهو مع تلك الحال زاهد الزهاد وبدل الأبدال، وهذه من فضائله العجيبة وخصائصه اللطيفة، التي جمع بها بين الأضداد وألَّف بين الأشتات). (مقدمة النهج).. صنائع ربانية
والله تعالى حاشا أن يختبرنا ويمتحننا بذاته القدوسية فمَنْ نحن حتى نطيق ذلك الامتحان بل امتحننا بطاعة رسوله الكريم محمد بن عبد الله (ص) والالتزام بأمره والتسليم له في كل شيء ولم يستطع أن يلتزم بذلك كل الالتزام إلا ذلك الفتى الذي رباه منذ صغره وآخاه في كبره، وشاركه في رسالته لأن الرسول أدَّبه الله بآدابه وخلَّقه بأخلاقه فكان خُلقه القرآن الحكيم، كما وصفه الإمام علي بن أبي طالب في قاصعته فقال: (وقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّه (صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ والْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ) وَضَعَنِي فِي حِجْرِه وأَنَا وَلَدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِه، ويَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِه ويُمِسُّنِي جَسَدَه، ويُشِمُّنِي عَرْفَه، وكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيه، ومَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ ولَا خَطْلَةً فِي فِعْلٍ).
والرسول الأكرم صناعة ربانية بامتياز، فهو ككليم الله موسى الذي قال له: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) (طه/39)، ورسوله الكريم صُنع على عينه التي لا تنام، (ولَقَدْ قَرَنَ اللَّه بِه (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلَائِكَتِه، يَسْلُكُ بِه طَرِيقَ الْمَكَارِمِ، ومَحَاسِنَ أَخْلَاقِ الْعَالَمِ لَيْلَه ونَهَارَه، ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِه عَلَماً ويَأْمُرُنِي بِالِاقْتِدَاءِ بِه)، وأمير المؤمنين صُنع بيد الرسول وبعين الله تعالى ولذا هو يقول في وصيته لكميل بن زياد: (يَا كُمَيْلُ إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) أَدَّبَهُ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَدَّبَنِي، وَأَنَا أُؤَدِّبُ اَلْمُؤْمِنِينَ، وَأُوَرِّثُ اَلْأَدَبَ اَلْمُكَرَّمِينَ).
فالرسول وأهل بيته الأطهار وأئمة المسلمين من صنائع الله تعالى، كما قال أمير المؤمنين (ع): (فَإِنَّا صَنَائِعُ رَبِّنَا، والنَّاسُ بَعْدُ صَنَائِعُ لَنَا)، وجميل ما يقوله ابن أبي الحديد في شرحه لها: "هذا كلام عظيم، عال على الكلام، ومعناه عال على المعاني، وصنيعة الملك مَنْ يصطنعه الملك ويرفع قدره.. يقول: ليس لأحد من البشر علينا نعمة، بل الله تعالى هو الذي أنعم علينا، فليس بيننا وبينه واسطة، والناس بأسرهم صنائعنا، فنحن الواسطة بينهم وبين الله تعالى، وهذا مقام جليل ظاهره ما سمعت، وباطنه أنهم عبيد الله، وأن الناس عبيدهم"، فهؤلاء العظماء امتحنوا برسول الله ففازوا، والأمة امتحنت بهم وبطاعتهم ففشلت وتقاعست للأسف الشديد.
صانع الحضارة الإنسانية
ولذا قلنا بأن الإمام علي (ع) الذي هو صناعة الله تعالى، وتربية وتأديب رسوله الكريم، يصنع التاريخ الإنساني والحضارة الربانية التي يرضاها الله والعقل السليم لأنه يصنعها ليس بهواه ورأيه وإنما بشريعة الله والعدل في الحكم والقسط في المجتمع ولذا تجد البشرية وبعد أربعة عشر قرناً وفي قمَّة الحضارة الرقمية بينما يبحثون عن دستور راقي للدولة الحضارية فلم يجدوا إلا عهد الإمام علي لمالك الأشتر حينما ولاه على مصر فدرسوه واعتمدوه كوثيقة عالمية للحكم الصالح.
كما أنهم بحثوا عن حاكم مثال وقدوة في عدله وحكمته وقسطه بين الجماهير فلم يجدوا إلا ذلك العملاق الكبير رأس الإسلام العالي، وإمامه الغالي، وحاكمه السامي علي بن أبي طالب (ع) ففي عام 2002 م أصدرت سكرتارية الأُمَــم المتحدة، لجنة حقوق الإنْسَان، في نيويورك برئاسة أمينها العام السابق كوفي عنان، قراراً تاريخياً باختيار أمير المؤمنين الإِمَــامِ عَلِيٍّ بن أبي طالب (عَلَيْـهِ السَّـلَامُ) أعدل حاكم في تأريخ البشرية، الذي نصه: إن "خليفة المسلمين علي بن أبي طالب يعتبر أعدل حاكم ظهر في تأريخ البشر"، مستندة لوثائق شملت 160 صفحة باللغة الإنكليزية.
هنا يُصنع التاريخ، وتُبنى الحضارة الراقية بالقيم والأخلاق وتطبيق شريعة الرَّب سبحانه بكل حذافيرها ولا يُستثنى منها أحد لا الحاكم ولا المحكوم فالكل بالحق سواء، كما قال عندما تسلَّم مقاليد الحكم: (فَإِنَّ فِي الْعَدْلِ سَعَةً، ومَنْ ضَاقَ عَلَيْه الْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْه أَضْيَقُ)، فالعدل فسطاط الحضارة الإنسانية والظلم والجور برميل بارود وضعه الطغاة في أساسها ربما ينفجر في أي لحظة فيأتي عليها، لأن الظلم ظلمات، والظالم عدو الله وعدو شعبه بل وعدو البشرية والحضارة الإنسانية، فلا وجود له في فكر ودولة وحكومة الإمام علي (ع).
فالقائد العظيم إذا كان مثل الإمام علي (ع) فإنه يصنع الإنسان المؤمن، كمالك الأشتر، ثم يكتب له دستوراً راقياً جداً ويوليه دولة، ويوصيه بأن يستثمر كل طاقاته وإمكانيات دولته في بناء الحضارة الإنسانية على أساس تلك القيم التي يرسخها في نفسه ويتمثلها في سيرته وحياته ثم يعكسها على مجتمعه ودولته وحكومته، وبذلك يصنع التاريخ والحضارة الإنسانية الراقية التي نتطلع إليها جميعاً.
ما أجمل الحضارة إذا كانت على قيم الحق، ويرأسها ويقودها شخص صناعة السماء، فينشر العدل بين البشر والقسط بين الناس فيعيشون كأنهم في الجنة، وهو الذي كان يقول: (لَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، ولُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ ويَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الأَطْعِمَةِ ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَه فِي الْقُرْصِ، ولَا عَهْدَ لَه بِالشِّبَعِ، أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وأَكْبَادٌ حَرَّى.. أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: هَذَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، ولَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِه الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ..) (نهج البلاغة: ك45)
السلام على عَلَم الهداية، وراية العدالة، وصوت الحق والإنسانية الراقي، في يوم شهادته المفجعة.
اضف تعليق