شخصيَّة الإمام علي ليست مجرَّد سيرة تُروى أو تاريخ يُحكى، بل هي مدرسة متكاملة في الإيمان والولاء، وفي البذل والعطاء، وفي العدل والتقوى؛ وحريٌّ بكلِّ من ينشد الهداية والرشاد أن يقتفي أثره، ويتمسَّك بولايته. فما أحوج الأمة اليوم إلى الرجوع إلى هذا النبع الصافي، واستلهام العبر من حياته المباركة...
من نعم الله (تعالى) على المؤمنين إذ أرسل إليهم رسولًا منقذًا؛ ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور؛ قال (سبحانه): (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)(1)، وجعل له من بعده أوصياء أوَّلهم عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) وهو ابن عمه، ووصيُّه وخليفته من بعده، وحامل لوائه، وهو كما وصفه الإمام زين العابدين (عليه السلام) في خطبته: «... أنا ابن مَن ضرَبَ خَراطيمَ الخَلْق حتَّى قالوا: لا إله إلَّا الله، أنا ابن مَن ضرب بين يدَي رسول اللهِ بسيفَين، وطعن برمحَين، وهاجَرَ الهجرتين، وبايع البيعتين، وقاتَلَ ببدرٍ وحُنَين، ولم يكفر بالله طَرْفةَ عين، أنا ابنُ صالحِ المؤمنين، ووارثِ النبيِّين، وقامعِ الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزينِ العابدين، وتاجِ البكَّائين، وأصبر الصَّابرين، وأفضل القائمين مِن آل ياسينَ...»(2).
لقد تميَّز (عليه السلام) بمناقب وفضائل لم تكن لأحدٍ قبله ولا بعده، وكان الصّحابة يتمنون ولو واحدة منها (3)؛ ومن هذه الخصائص التي انفرد بها، وحاز فيها الفضل والكرامة من الله (عزَّ وجلَّ)، وسنقسِّمها على أربعة محاور:
المحور الأوَّل: النَّشأة والتَّكريم الإلهي
1. ولادته في جوف الكعبة.
فضيلة طفحت بها الكتب وتضافر على نقلها كبار المحدِّثين والمؤرِّخين؛ فقد تشرَّفت الكعبة بولادة الإمام الهمام عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فيها؛ قال يزيد بن قعنب: «كُنْتُ جَالِسًا مَعَ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمطَّلِبِ وفَرِيقٍ مِنْ عَبْدِ الْعُزَّى بِإِزَاءِ بَيْتِ الله الحَرَامِ؛ إِذْ أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَسَدٍ أُمُّ أَمِيرِ الْمؤْمِنِينَ (عليه السلام)، وَكَانَتْ حَامِلَةً بِهِ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَقَدْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ فَقَالَتْ: رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنَةٌ بِكَ وَبِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِكَ مِنْ رُسُلٍ وَكُتُبٍ وَإنِّي مُصَدِّقَةٌ بِكَلَامِ جَدِّي إِبْرَاهِيمَ الخَلِيلِ (عليه السلام)، وَأَنَّهُ بَنَى الْبَيْتَ الْعَتِيقَ فَبِحَقِّ الَّذِي بَنَى هَذَا الْبَيْتَ، وَبِحَقِّ المَوْلُودِ الَّذِي فِي بَطْنِي لمَّا يَسَّرْتَ عَلَيَّ وِلَادَتِي.
قَالَ يَزِيدُ بْنُ قَعْنَبٍ: فَرَأَيْنَا الْبَيْتَ وَقَدِ انْفَتَحَ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَخَلَتْ فَاطِمَةُ فِيهِ، وَغَابَتْ عَنْ أَبْصَارِنَا، وَالْتَزَقَ الحَائِطُ، فَرُمْنَا أَنْ يَنْفَتِحَ لَنَا قُفْلُ الْبَابِ، فَلَمْ يَنْفَتِحْ، فَعَلِمْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ مِنْ أَمْرِ الله (عَزَّ وَجَلَّ)، ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ الرَّابِعِ وَبِيَدِهَا أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام)، ثُمَ قَالَتْ: إِنِّي فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ تَقَدَّمَنِي مِنَ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّ آسِيَةَ بِنْتَ مُزَاحِمٍ عَبَدَتِ اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) سِرًّا فِي مَوْضِعٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يُعْبَدَ الله فِيهِ إِلَّا اضْطِرَارًا، وَأَنَّ مَرْيَمَ بِنْتَ عِمْرَانَ هَزَّتِ النَّخْلَةَ الْيَابِسَةَ بِيَدِهَا حَتَّى أَكَلَتْ مِنْهَا رُطَبًا جَنِيًّا، وَأَنِّي دَخَلْتُ بَيْتَ الله الحَرَامَ فَأَكَلْتُ مِنْ ثِمَارِ الجَنَّةِ وَأَوْرَاقِهَا، فَلَمَّا أَرَدْتُ أَنْ أَخْرُجَ هَتَفَ بِي هَاتِفٌ: يَا فَاطِمَةُ سَمِّيهِ عَلِيًّا؛ فَهُوَ عَلِيٌّ وَالله الْعَلِيُّ الْأَعْلَى يَقُولُ: إِنِّي شَقَقْتُ اسْمَهُ مِنِ اسْمِي، وَأَدَّبْتُهُ بِأَدَبِي، وَوَقَفْتُهُ عَلَى غَامِضِ عِلْمِي، وَهُوَ الَّذِي يَكْسِرُ الْأَصْنَامَ فِي بَيْتِي، وَهُوَ الَّذِي يُؤَذِّنُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِي وَيُقَدِّسُنِي وَيُمَجِّدُنِي، فَطُوبَى لِمَنْ أَحَبَّهُ وَأَطَاعَهُ، وَوَيْلٌ لِمَنْ أَبْغَضَهُ وَعَصَاهُ»(4).
ويصف السيِّد الحِميري هذه الحادثة في أبياتٍ من الشّعر؛ وهي من أروع ما قيل في حقِّ أمير المؤمنين وأمّه الطَّاهرة (عليهما السلام):
ولــــدتْهُ في حَـرَمِ الإلهِ وأمنِــــه --- والبيت حيثُ فناؤه والمسجدُ
بــيـضـاءُ طـــاهرةُ الثِّيابِ كريمةٌ --- طابتْ وطابَ وليدُها والمولــدُ
في ليلةٍ غابتْ نحوسُ نجومـِهــا --- وبدتْ مع القمرِ المنيرِ الأسعدُ
مـــا لُفَّ في خِرَقِ القوابلِ مثـلُه --- إلَّا ابـــنُ آمنــةَ النَّبيُّ محـــمَّدُ (5).
إنَّ ولادته (عليه السلام)، في الكعبة المشرَّفة أمر صنعه الله (تعالى) له؛ لأنَّه يريد أن تكون هذه الولادة رحمة للأُمَّة، وسببًا من أسباب هدايتها، وقد جرى هذا الصُّنع الإلهي له (عليه السلام)؛ إذ كان لايزال في طور الخلق والنُّشوء في هذا العالم الجديد؛ ليدلَّ دلالة واضحة على اصطفائه (تعالى) له، وعنايته به؛ وذلك من شأنه أن يجعل أمر الاهتداء إلى نور ولايته أيسر، ويكون الإنسان في إمامته أبصر.
2. احتضان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) له منذ صغره (عليه السلام).
لقد تربَّى الإمام عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) في حجر الرِّسالة وتحت رعاية أشرف الخلق أجمعين؛ الرَّسول الكريم محمَّد (صلى الله عليه وآله)، وقد أشار إلى ذلك إمامنا عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) في إحدى خطبه قائلًا:
«وَقَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ، وَالمَنْزِلَةِ الخَصِيصَةِ: وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ، وَيُمِسُّنِي جَسَدَهُ، وَيُشِمُّنِي عَرْفَهُ، وَكَانَ يَمْضَغُ الشَّيْءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَمَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْل، وَلاَ خَطْلَةً فِي فِعْل.
وَلَقَدْ قَرَنَ اللهُ (تَعَالَى) بِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ [أَنْ] كَانَ فَطِيمًا أَعْظَمَ مَلَك مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ المَكَارِمِ، وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ الْعَالَمِ، لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ، وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لي فِي كُلِّ يَوْم عَلَمًا مِنْ أخْلاقِهِ، وَيَأْمُرُني بِالاقْتِدَاءِ بِهِ. وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَّة بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي، وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذ فِي الإسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله)، وَخَدِيجَةَ، وَأَنَا ثَالِثُهُمَا» (6).
3. سبْقُه الجميع في الإسلام.
لقد كان الإمام عليُّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو السبَّاق في كلِّ شيءٍ؛ فقد كان أوَّل المسلمين إسلامًا وإيمانًا؛ عن العبَّاس بن عبد المطلب قال: «سمعت عمر بن الخطاب وهو يقول:...إنِّي سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: في عليٍّ ثلاث خصال، وددت أن يكون لي واحدة منهنَّ، فواحدة منهنَّ أحبُّ إليَّ مما طلعت عليه الشَّمس: كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجراح ونفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله)؛ إذ ضرب النَّبيُّ (صلى الله عليه وآله) على كتف عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقال: «يَا عَلِيُّ أَنْتَ أَوَّلُ المُسْلِمِينَ إِسْلَامًا، وَأَنْتَ أَوَّلُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا، وَأَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، كَذَبَ يَا عَلِيُّ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ يُحِبُّنِي وَيُبْغِضُك»(7).
المحور الثَّاني: مكانته عند النَّبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وآله).
1. مؤاخاة النَّبيِِّ (صلى الله عليه وآله) له من دون باقي الصحابة.
المؤاخاة هي من أروع المواقف التي جمعت بين الرسول الكريم محمَّد (صلى الله عليه وآله) وبين الإمام علي (عليه السلام)؛ إذ اختاره من دون باقي الصحابة؛ عن الإمام الرضا (عليه السلام)، عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قَالَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ أَنْتَ أَخِي وَوَزِيرِي، وَصَاحِبُ لِوَائِي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَنْتَ صَاحِبُ حَوْضِي، مَنْ أَحَبَّكَ أَحَبَّنِي وَمَنْ أَبْغَضَكَ أَبْغَضَنِي» (8).
2. حمله من قبل النَّبيِِّ (صلى الله عليه وآله) على كتفه لطرح الأصنام الموضوعة في الكعبة.
لقد انحنى الشِّرك أمام المرتضى عليٍّ (عليه السلام)، وهو يحطِّم بيديه الكريمتين أصنام الكفر والضَّلال؛ عن الإمام عليِّ (عليه السلام)؛ قال: «دَعَانِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) وَهُوَ بِمَنْزِلِ خَدِيجَةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ فَلَمَّا صِرْتُ إِلَيْهِ؛ قَالَ: اتَّبِعْنِي يَا عَلِيُّ فَمَا زَالَ يَمْشِي وَأَنَا خَلْفَهُ وَنَحْنُ نَخْرِقُ دُرُوبَ مَكَّةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ وَقَدْ أَنَامَ الله (تَعَالَى) كُلَّ عَيْنٍ، فَقَالَ لِي رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله): يَا عَلِيُّ. قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله. قَالَ: اصْعَدْ عَلَى كَتِفِيَ، ثُمَّ انْحَنَى النَّبِيُّ فَصَعِدْتُ عَلَى كَتِفِهِ فَقَلَبْتُ الْأَصْنَامَ عَلَى رؤوسها، وَنَزَلْتُ وَخَرَجْنَا مِنَ الْكَعْبَةِ حَتَّى أَتَيْنَا مَنْزِلَ خَدِيجَةَ، فَقَالَ لِي: أَوَّلُ مَنْ كَسَّرَ الْأَصْنَامَ جَدُّكَ إِبْرَاهِيمُ (عليه السلام)، ثُمَّ أَنْتَ يَا عَلِيُّ آخِرُ مَنْ كَسَّرَ الْأَصْنَامَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَهْلُ مَكَّةَ وَجَدُوا الْأَصْنَامَ مَنْكُوسَةً مَكْبُوبَةً عَلَى رؤوسها، فَقَالُوا مَا فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِلَّا مُحَمَّدٌ وَابْنُ عَمِّهِ، ثُمَّ لَمْ يُقَمْ فِي الْكَعْبَةِ صَنَم»(9).
3. استمرار ذريَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من صلبه.
من الخصائص المهمَّة التي خصَّ الله (تعالى) بها الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أن جعل استمرار ذريَّة المصطفى (صلى الله عليه وآله) من صلبه؛ عن الإمام الصَّادق عن آبائه (عليهم السلام)، قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إِنَّ الله (تَعَالَى) جَعَلَ ذُرِّيَّةَ كُلِّ نَبِيٍّ مِنْ صُلْبِهِ، وَجَعَلَ ذُرِّيَّتِي مِنْ صُلْبِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) وَإِنَّ الله اصْطَفَاهُمْ كَمَا اصْطَفى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ، فَاتَّبِعُوهُمْ يَهْدُوكُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَقَدِّمُوهُمْ وَلَا تَتَقَدَّمُوا عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ أَحْلَمُكُمْ صِغَارًا وَأَعْلَمُكُمْ كِبَارًا، فَاتَّبِعُوهُمْ لَا يُدْخِلُونَكُمْ فِي ضَلَالٍ، وَلَا يُخْرِجُونَكُمْ مِنْ هُدًى»(10).
4. دعاء النبيِّ (صلى الله عليه وآله) له يوم خيبر بأن لا يصيبه حرٌّ ولا برد.
روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى أنَّ النَّاس قالوا له: «أنَّ النَّاس قالوا له: قد أنكرنا من أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه يخرج في البرد في الثَّوبين الخفيفين وفي الصَّيف في الثَّوب الثَّقيل والمحشوّ، فهل سمعت أباك يذكر أنَّه سمع من أمير المؤمنين (عليه السلام) في ذلك شيئًا؟
قال: لا، قال: وكان أبي يسمر مع علي بالليل، فسألته قال: فسأله عن ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ النَّاس قد أنكروا، وأخبره بالذي قالوا.
فقال: «أو ما كنت معنا بخيبر؟» قال: بلى.
قال: «فإنَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) بعث أبا بكر، وعقد له لواء، فرجع وقد انهزم هو وأصحابه، ثمَّ عقد لعمر، فرجع منهزمًا بالنَّاس.
فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): والذي نفسي بيده لأعطينَّ الرَّاية غدًا رجلًا يحبُّ الله ورسوله، ويحبُّه الله ورسوله، ليس بفرَّار، يفتح الله على يده، فأرسل إليَّ وأنا أرمد فتفل في عيني، وقال: اللهمَّ اكفه أذى الحرِّ والبرد، فما وجدت حرًّا بعد ولا بردًا» (11).
المحور الثَّالث: فضائله (عليه السلام) ومواقفه العظيمة.
1. إنَّ حبَّه إيمان وبغضه نفاق.
من أحبَّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقد رفعت درجته، وأوتي الإيمان وأحبَّه الله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ لأنَّ عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام) هو الإيمان، وهو القرآن الناطق، ومن أبغضه فقد أبغض الله (تعالى) ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ عن سهل بن سعد قال: «بَيْنَا أَبُو ذَرٍّ قَاعِدٌ مَعَ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وَكُنْتُ يَوْمَئِذٍ فِيهِمْ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) فَرَمَاهُ أَبُو ذَرٍّ بِنَظَرِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: مَنْ لَكُمْ بِرَجُلٍ مَحَبَّتُهُ تُسَاقِطُ الذُّنُوبَ عَنْ مُحِبِّيهِ كَمَا يُسَاقِطُ الرِّيحُ الْعَاصِفُ الهَشِيمَ مِنَ الْوَرَقِ عَنِ الشَّجَرِ؟
سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ ذَلِكَ لَهُ.
قَالُوا: مَنْ هُوَ يَا أَبَا ذَرٍّ؟
قَالَ: هُوَ الرَّجُلُ الْمُقْبِلُ إِلَيْكُمْ ابْنُ عَمِّ نَبِيِّكُمْ (صلى الله عليه وآله)، يَحْتَاجُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) إِلَيْهِ، وَلَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِمْ.
سَمِعْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) يَقُولُ: عَلِيٌّ بَابُ عِلْمِي، وَمُبَيِّنٌ لِأُمَّتِي مَا أُرْسِلْتُ بِهِ مِنْ بَعْدِي، حُبُّهُ إِيمَانٌ، وَبُغْضُهُ نِفَاقٌ، وَالنَّظَرُ إِلَيْهِ بِرَأْفَةٍ وَمَوَدَّةٍ عِبَادَةٌ.
وَسَمِعْتُ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) نَبِيَّكُمْ يَقُولُ: مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي فِي أُمَّتِي مَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ رَغِبَ عَنْهَا هَلَكَ، وَمَثَلُ بَابِ حِطَّةٍ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا مُؤْمِنًا وَمَنْ تَرَكَهُ كَفَرَ، ثُمَّ إِنَّ عَلِيًّا (عليه السلام) جَاءَ فَوَقَفَ فَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ مَنْ عَمِلَ لآِخِرَتِهِ كَفَاهُ الله أَمْرَ دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله كَفَاهُ الله الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَمن أَحْسَنَ سَرِيرَتَهُ أَحْسَنَ الله عَلَانِيَتَهُ، إِنَّ لُقْمَانَ الْحَكِيمَ قَالَ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ: يَا بُنَيَّ مَنِ الَّذِي ابْتَغَى اللهَ (عَزَّ وَجَلَّ) فَلَمْ يَجِدْهُ، وَمَنْ ذَا الَّذِي لَجَأَ إِلَى الله فَلَمْ يُدَافِعْ عَنْهُ، أَمَّنْ ذَا الَّذِي تَوَكَّلَ عَلَى الله فَلَمْ يَكْفِهِ، ثُمَّ مَضَى؛ يَعْنِي عَلِيًّا (عليه السلام)، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ (رَحِمَهُ الله): وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي ذَرٍّ بِيَدِهِ مَا مِنْ أُمَّةٍ ائْتَمَّتْ أَوْ قَالَ: اتَّبَعَتْ رَجُلًا وَفِيهِمْ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِالله وَدِينِهِ مِنْهُ إِلَّا ذَهَبَ أَمْرُهُمْ سَفَالاً»(12).
2. إنَّ النَّبيَّ محمَّد (صلى الله عليه وآله) بَاهَل النَّصارى به وبزوجته وأولاده (عليهم السلام) دون سائر الأصحاب.
لقد كان حول الرَّسول الكريم (صلى الله عليه وآله) أهل بيتٍ لو سألوا الله (تعالى) أن يُزيل جبلًا من مكانه لأزاله؛ لِفضلهم وكرامتهم ومنزلتهم الرفيعة عند الخالق (تبارك وتعالى)؛ وهم علي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام)؛ فهم أصحاب الكساء الذين قال الله (تعالى) فيهم: (إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (13).
قال الشَّيخ المفيد (رحمه الله) في كتاب الفصول: «قَالَ المَأْمُونُ يَوْمًا لِلرِّضَا (عليه السلام) أَخْبِرْنِي بِأَكْبَرِ فَضِيلَةٍ لِأَمِيرِ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) يَدُلُّ عَلَيْهَا الْقُرْآنُ؟
قَالَ: فَقَالَ لَهُ الرِّضَا (عليه السلام) فَضِيلَتُهُ فِي المُبَاهَلَةِ قَالَ الله (جَلَّ جَلَالُه): (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ)(14)، فَدَعَا رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ (عليه السلام) فَكَانَا ابْنَيْهِ، وَدَعَا فَاطِمَةَ (عليه السلام) فَكَانَتْ فِي هَذَا المَوْضِعِ نِسَاءَهُ، وَدَعَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (عليه السلام) فَكَانَ نَفْسَهُ بِحُكْمِ الله (عَزَّ وَجَلَّ)، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله (سُبْحَانَهُ) أَجَلَّ مِنْ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) وَأَفْضَلَ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْ نَفْسِ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) بِحُكْمِ الله (عَزَّ وَجَل)»(15).
3. تبليغه سورة براءة عن النَّبيِّ (صلى الله عليه وآله).
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) هو اليد اليمنى للرَّسول الكريم (صلى الله عليه وآله)، وهو مستودع سرِّه وأمينه الذي يأتمنه وثقته فكان (عليه السلام) صاحب المهمَّات الصَّعبة، لا أحد غيره من الصّحابة.
عن الحسين بن زيد قال: حدثني جعفر بن محمَّد، عن أبيه (عليهما السلام) قال: «لمَّا سَرَّحَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله) أَبَا بَكْرٍ بِأَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَتَاهُ جَبْرَئِيلُ (عليه السلام)، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّ الله يَأْمُرُكَ أَنْ لَا تَبْعَثَ هَذَا، وَأَنْ تَبْعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَنْ [أَنَّهُ] لَا يُؤَدِّيَهَا عَنْكَ غَيْرُهُ فَأَمَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله) عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، فَلَحِقَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ، وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: أَبُو بَكْرٍ: هَلْ حَدَثَ فِيَّ شَيْءٌ؟
فَقَالَ عَلِيٌّ (عليه السلام): سَيُخْبِرُكَ رَسُولُ الله (صلى الله عليه وآله)، فَرَجَعَ أَبُو بَكْرٍ إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله مَا كُنْتَ تَرَى أَنِّي مُؤَدٍّ عَنْكَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ؟
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): أَبَى الله أَنْ يُؤَدِّيَهَا إِلَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَأَكْثَرَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ مِنَ الْكَلَامِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله): كَيْفَ تُؤَدِّيهَا وَأَنْتَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ.
قَالَ: فَانْطَلَقَ عَلِيٌّ (عليه السلام) حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ ثُمَّ وَافَى عَرَفَاتٍ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى جَمْعٍ ثُمَّ إِلَى مِنَى وَ[ثُمَ] ذَبَحَ وَحَلَقَ وصَعِدَ عَلَى الْجَبَلِ المُشْرِفِ المَعْرُوفِ بِالشِّعْبِ فَأَذَّنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَلَا تَسْمَعُونَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي رَسُولُ رَسُولِ الله (صلى الله عليه وآله) إِلَيْكُمْ، ثُمَّ قَالَ: (بَراءَةٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله وَأَنَّ الله مُخْزِي الْكافِرِينَ وَأَذانٌ مِنَ الله وَرَسُولِهِ)(16) إِلَى قَوْلِهِ: (إِنَّ الله غَفُورٌ رَحِيمٌ)(17) تِسْعُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا ثُمَّ بَلَّغَ [لَمَعَ] بِسَيْفِهِ وَأَسْمَعَ [فَأَسْمَعَ] النَّاسَ وَكَرَّرَهَا فَقَالَ النَّاسُ: مَنْ هَذَا الَّذِي يُنَادِي فِي النَّاسِ؟
فَقَالُوا: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَقَالَ مَنْ عَرَفَهُ مِنَ النَّاسِ: هَذَا ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدٍ وَمَا كَانَ يَجْتَرِئُ [لِيَجْتَرِئَ] عَلَى هَذَا غَيْرُ عَشِيرَةِ مُحَمَّدٍ، فَأَقَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ ثَلَاثَةً يُنَادِي بِذَلِكَ، وَيَقْرَأُ عَلَى النَّاسِ غُدْوَةً، وَعَشِيَّةً فَنَادَتْهُ النَّاسُ مِنَ المُشْرِكِينَ: أَبْلِغْ ابْنَ عَمِّكَ أَنْ لَيْسَ لَهُ عِنْدَنَا إِلَّا ضَرْبًا بِالسَّيْفِ وَطَعْنًا بِالرِّمَاحِ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) وَيَقْصِدُ فِي السَّيْرِ»(18).
وينبأ عن إطباق الصحابة الأوَّلين على هذه المأثرة لأمير المؤمنين استشهاده (عليه السلام) بها أصحاب الشُّورى يوم ذاك بقوله: «أفيكم من اؤتمن على سورة براءة، وقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله) إنَّه لا يؤدِّي عنِّي إلَّا أنا، أو رجل منِّي غيري؟ قالوا: لا» (19).
4. إنَّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) خصَّه يوم غدير خم (20) بالولاية.
يوم الغدير هو يوم كمال الدِّين وتمام النِّعمة؛ ففي ذلك اليوم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله) «بيد علي فرفعها... وعرفه القوم أجمعون، فقال: أيُّها النَّاس من أولى النَّاس بالمؤمنين من أنفسهم؟
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: إنَّ الله مولاي وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم فمن كنت مولاه فعلي مولاه، يقولها ثلاث مرَّات.
وفي لفظ أحمد إمام الحنابلة: أربع مرَّات، ثمّ قال: أللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وأحب من أحبَّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقَّ معه حيث دار، ألا فليبلِّغ الشَّاهد الغائب، ثمَّ لم يتفرَّقوا حتَّى نزل أمين وحي الله بقوله: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)(21)، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «الله أَكْبَرُ عَلَى إِكْمَالِ الدِّينِ، وَإِتْمَامِ النِّعْمَةِ، وَرِضَى الرَّبِّ بِرِسَالَتِي وَبِالْوَلَايَةِ لِعَلِيٍّ مِنْ بَعْدِي [ثُمَ] قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاهُ فَعَلِيٌّ مَوْلَاهُ، اللهمَّ وَالِ مَنْ وَالاهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَانْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَاخْذُلْ مَنْ خَذَلَه»، ثمَّ طفق القوم يُهنِّئون أمير المؤمنين (عليه السلام) وممن هنَّأه في مقدم الصّحابة: الشيخان أبو بكر وعمر كلٌّ يقول: بخٍ بخٍ لك يا بن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلِّ مؤمن ومؤمنة، وقال ابن عباس: وجبت والله في أعناق القوم»(22).
المحور الرَّابع: علمه وخلوده في التَّاريخ
1. إنَّه القائل: سلوني قبل أن تفقدوني.
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقد حوى العلوم جميعها، ومن أراد العلم فليدخل من بابه.
وهو القائل: «سَلُونِي عَمَّا شِئْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَ الله إِنِّي بِطُرُقِ السَّمَاءِ أَعْلَمُ مِنِّي بِطُرُقِ الْأَرْضِ.
أَنَا يَعْسُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَأَوَّلُ السَّابِقِينَ، وَإِمَامُ المُتَّقِينَ، وَخَاتَمُ الْوَصِيِّينَ، وَوَارِثُ النَّبِيِّينَ وَخَلِيفَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَا دَيَّانُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقَسِيمُ الله بَيْنَ أَهْلِ الجَنَّةِ وَالنَّار، وَأَنَا الصِّدِّيقُ الْأَكْبَرُ، وَالْفَارُوقُ الَّذِي أُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَإِنَّ عِنْدِي عِلْمَ المَنَايَا وَالْبَلَايَا وَفَصْلَ الْخِطَابِ، وَمَا مِنْ آيَةٍ نَزَلَتْ إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُ فِيمَا نَزَلَتْ، وَعَلَى مَنْ نَزَلَتْ؛ وذلك قول الله (تبارك وتعالى): (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ)(23)»(24).
قال السّيد الشريف الرَّضي (رحمه الله): «كَان أمير المؤمنين (عليه السلام) مشرِّعُ الفصاحة ومُورِدُها، ومُنشأ البلاغة ومُولِدُها، ومنه (عليه السلام) ظهر مَكنونها، وعنه أخذت قوانينها، وعلى أمثلته حذا كلُّ قائل خطيب، وبكلامه استعان كلُّ واعظ بليغ، ومع ذلك فقد سَبَقَ فَقَصَرُوا، وتَقَدَّمَ وتَأَخَّرُوا؛ لأنَّ كلامه (عليه السلام) الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي، وفيه عبقة من الكلام النَّبويّ...» (25).
وقال السيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله): «إنَّ تصديق علي (عليه السلام) وهو ما عليه من البراعة في البلاغة هو بنفسه دليل على أنَّ القرآن وحي إلهي، كيف وهو ربُّ الفصاحة والبلاغة، وهو المثل الأعلى في المعارف» (26).
2. إنّ النبيَّ (صلى الله عليه وآله) خصَّه بتغسيله وتجهيزه والصَّلاة عليه.
بعد رحيل المصطفى (صلى الله عليه وآله) من الدنيا تكفَّل الإمام علي (عليه السلام) بتغسيله وتجهيزه والصَّلاة عليه، وكانت تلك خصيصة اختص بها أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ قال الإمام الرضا (عليه السلام): «إِنَّ رَسُولَ الله (صلى الله عليه وآله) أَوْصَى إِلَى عَلِيّ (عليه السلام) أَلَّا يُغَسِّلَنِي غَيْرُك...» (27).
3. أعظم رجل عرفه التّاريخ بعد الرسول الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله).
إنَّ التَّاريخ قد عرف الكثير من العظماء؛ لكنه لم يعرف رجلًا جمع بين العلم والشجاعة، وبين الزُّهد والحكمة، وبين العدل والإيمان، كما عرف في الإمام عليّ (عليه السلام). فهو بحقٍّ أعظم رجل عرفته الإنسانيَّة بعد الرسول الأعظم محمَّد (صلى الله عليه وآله)، ولن تجد الأجيال القادمة إلَّا أن تنحني إجلالًا أمام هذا الاسم الذي بقي خالدًا في ضمير الزَّمان.
وبعد معرفة هذه الخصائص الاستثنائيَّة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، نجد أنفسنا أمام شخصيَّة فريدة صنعها الله (تعالى) لتكون ميزان الحقِّ، وسيف العدل، ومشكاة العلم.
إنَّ شخصيَّة الإمام علي (عليه السلام) ليست مجرَّد سيرة تُروى أو تاريخ يُحكى، بل هي مدرسة متكاملة في الإيمان والولاء، وفي البذل والعطاء، وفي العدل والتقوى؛ وحريٌّ بكلِّ من ينشد الهداية والرشاد أن يقتفي أثره، ويتمسَّك بولايته.
فما أحوج الأمة اليوم إلى الرجوع إلى هذا النبع الصافي، واستلهام العبر من حياته المباركة، لتعيد إلى الإسلام مجده، وإلى القيم نورها، وإلى الإنسانيَّة كرامتها، فهو بحقٍّ إمام المتقين وسيِّد الوصيين، وقائد الغرِّ المحجَّلين.
اضف تعليق