ليس من السهل تصور امرأة تعيش حياة الترف والدلال في شبابها، ثم تكون نهاية عمرها؛ الجوع والمرض في ظل حصار اقتصادي ظالم من قوى الشرك في شعب أبي طالب، وكل هذا بملء ارادتها، فهي دفعت حياتها ثمن إيمانها الخالص بالله –تعالى- وبنبوة زوجها، وبجهاده المرير لنشر تعاليم وقيم السماء...

"آمنت بي حين كفر بي الناس، وصدقتني حين كذبني الناس، وأشركتني في مالها حين حرمني الناس، ورزقني الله ولده، وحرمني ولد غيرها".

رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم

يبدو لي أن البحث عن القدوة الناجحة والصالحة بين النساء هو أكثر بكثير من الرجال لما تواجهه من صعوبة في تحديد الهوية، والتماس الطريق المستقيم نحو الفلاح والنجاح منذ بزوغ فجر الدعوة وحتى اليوم، كما لو أن ظلال الثقافة الجاهلية تخيم علينا، من تهميش، وتحقير، واستغلال للمرأة بأشكال مختلفة نلاحظ الجديد منه في عصر السرعة والتقدم العلمي، مما جعلها تتأخر كثيراً في حسم أمرها النهائي رغم وجود قدوات عظيمة حفرت اسمائها في التاريخ وماتزال تضيئ لواقع الأمة ما يؤكد مصداقية نجاحها، مثل السيدة خديجة، أم المؤمنين، ومن ثم؛ ابنتها الصديقة الزهراء، وحفيدتها العقيلة زينب.  

في ذكرى وفاتها الأليمة، نتوقف عند محطات في حياة هذه السيدة العظيمة علّنا نقتبس من نور سيرتها الوضاء ما ينفعنا في حياتنا المأزومة، فهي لم تتزوج نبياً، ولا ثرياً، ولا أميراً، إنما تزوجت انساناً عادياً، ومن أفقر أهل مكة آنذاك، بينما كانت هي تمتلك الثراء والوجاهة الاجتماعية، وهي بحد ذاتها مفارقة ملفتة، بما يعني أنها بدأت مشوارها في الوصول الى السعادة الحقيقية من الصفر الى جانب محمد بن عبد الله؛ ذلك الشاب الذي لم يكن يملك بين افراد مجتمعه سوى الأخلاق الحميدة، والعزّة والكرامة. 

مواصفات الزوج الحَسِن

عندما تكون المرأة ثرية يفترض ان يقترن بها رجلٌ ثري، او من الطبقة المتوسطة على الأقل، ولا يكون فقيراً معدماً، كما أن المرأة المتعلمة صاحبة الشهادة العليا، كأن تكون الدكتوراه –مثلاً- من المفترض ان تقترن برجل من ذوي الشهادات الجامعية ايضاً، وربما تكون ثمة حالات نادرة باقتران امرأة طبيبة برجل كاسب –مثلاً- بيد أن القوانين والاعراف التي يتشبث بها المجتمع تفرض هكذا نوع من الزواج، بينما السيدة خديجة بنت خويلد، تلك المرأة المعروفة في حسبها ونسبها، وثرائها كانت مثل نجمة متألقة بين نساء قريش، مما دفع الكثير من الأعيان والأثرياء التقدم لخطبتها طمعاً بمالها، فكان الرفض نصيبهم لا غير. 

فما كانت تبحث عنه خديجة غير ما يدور في اذهان أبناء المجتمع المكّي آنذاك، وهذا هو نقطة الانطلاق نحو التفوق، فقد كانت تتطلع الى ما ينمو في هذه الحياة بشكل يشبه ما نصطلح عليه اليوم "بالتنمية المستدامة"، فكانت ترى ظهور الأثرياء والأبطال في الساحة الاجتماعية، ثم ترى بعد فترة أفولهم واضمحلالهم بين عجلة الحياة، فضلاً عما كانت تلاحظه من فوضى الأخلاق، وانعدام القيم الإنسانية، والاستغلال البشع للمرأة.

الروايات مختلفة حول كيفية تعرف خديجة على النبي الأكرم، أكثرها رواجاً في التاريخ؛ حملة التجارة التي أرسلتها الى الشام برفقة النبي الأكرم، ثم عودته والتعرف على أمانته وخلقه، وهو ما تنفيه رواية عمار بن ياسر التي لا نخوض فيها تجنباً للإطالة، ولمن يريد التفصيل يمكنه مراجعة كتب السيرة، ثم الرواية الاخرى التي تتحدث عن ارسالها بعض النساء لاستجلاء رأيه بالزواج لما سمعته وعرفته من خصاله وصفاته الرفيعة، ومع صحة وعدم صحّة هذه الروايات يبقى اختيار خديجة بنفسها الزوج المناسب ذو الصفات الحميدة والشخصية المتكاملة، مما يعطينا الدرس البليغ في كيفية تحقيق الزواج الناجح.

دور في العروج نحو السماء 

صدق أحد العلماء الحكماء في قوله: "من حضن المرأة يعرج الرجل نحو السماء"، بمعنى أن الطهارة المعنوية لها الدور الكبير في استقامة الرجل؛ دينياً وأخلاقياً.

علمت أنها متزوجة من رجل يؤمن بالتوحيد، وينبذ عبادة الأصنام، كما يستنكر الثقافة الجاهلية للمجتمع المكّي، فكانت تسانده من خطواته الأولى للوصول الى الحقيقة من خلال متابعتها لرحلاته المستمرة الى غار حراء في أيام شهر رمضان، وعلى مدى سنين عدّة لا تعترض على انقطاعه لها طيلة أيام الشهر الكريم لينقطع الى الله –تعالى-، "بل كانت تعد له الطعام وتحمله اليه يومياً، فاذا انقضى الشهر عاد الى مكة وعلى وجهه شحوب، وفي جسمه نحول فتستقبله زوجته التي كانت تتلوى من أجله، ثم يستأنف حياته العامة". (سيرة المصطفى، السيد هاشم معروف الحسني).

وفي اليوم الذي نزل عليه جبرائيل مبلغاً إياه بالنبوة والرسالة من الله –تعالى- كان النبي الأكرم قد تأخر كثيراً عن موعد عودته مما أثار القلق في نفس زوجته الوفية والمتفانية، فأرسلت في طلبه الى أعالي مكة فلم يجدوه، وكان حينها، صلى الله عليه وآله، يلتقي لأول مرة بالملك الأمين؛ جبرائيل وهو يقول له: "يا محمد! أنت رسول الله، وأنا جبرائيل"، وبعد أن عاد الى أهله أخبر خديجة بما حصل له فقالت على الفور: "ابشر يا ابن العم واثبت، فوالذي نفس خديجة بيده أرجو ان تكون نبي هذه الأمة".

وبعد رحلة البحث المضنية عن البديل الحضاري المتكامل للبشرية، إذ لم يذق طعم النوم طيلة فترة طويلة، اضطجع وغفا غفوة قصيرة، وخديجة تنظر اليه بإشفاق بالغ تود لو تطول فترة النوم والاستراحة، بيد أن الوحي له مهمة ثقيلة تعجز عن حملها الجبال والسماوات، فانتفض من نومه فجأة وهو يسمع النداء: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ}، فحاولت أن تعيده الى مضجعه ليستزيد من الراحة، فقال لها: "لقد انقضى يا خديجة عهد النوم والراحة" فقد أمرني ربي أن أنذر الناس وأدعوهم الى الله وعبادته، فمن أدعو؟ ومن يستجيب لي"؟! 

حقاً إنها لحظة حاسمة لزوجة تجد نفسها أمام طريقين في حياتها الزوجية، إما مواكبة زوجها بإيمان وإخلاص حتى لا يكون وحيداً، او التخلّي عنه بمختلف الاعذار، فكان الموقف التاريخي والبطولي من السيدة خديجة في لحظة سريعة، و هو الإيمان بنبوة زوجها وبالإسلام وما نزل به الوحي من السماء، ومن المؤكد أن يترك هذا الموقف أثراً طيباً في نفس النبي الأكرم، ويجعله ينطلق بقوة وثقة لتأدية مهمته الرسالية العظمى، لذا نجده يستذكرها دائماً لهذا الموقف تحديداً طيلة أيام حياته.

ثراء ودلال نهايته الموت جوعاً ومرضاً!

ليس من السهل تصور امرأة تعيش حياة الترف والدلال في شبابها، ثم تكون نهاية عمرها؛ الجوع والمرض في ظل حصار اقتصادي ظالم من قوى الشرك في شعب أبي طالب، وكل هذا بملء ارادتها، فهي دفعت حياتها ثمن إيمانها الخالص بالله –تعالى- وبنبوة زوجها، وبجهاده المرير لنشر تعاليم وقيم السماء.

تجويع رهيب فرضه المشركون في مكة على النبي الأكرم والمؤمنين معه في منطقة يُقال لها "شعب أبي طالب" وعلى مدى حوالي ثلاث سنوات، ومنعوا أهالي مكة من إيصال أي نوع من الطعام والشراب الى المحاصرين، مهددين باجراءات تعسفية لمن يخالف الأوامر، وفي بعض الروايات التاريخية فان قادة الشرك، وفي مقدمتهم بني أمية، اشتروا جميع المواد الغذائية في اسواق مكّة حتى يحرموا المحاصرين من أي نوع من الإغاثة على يد مؤيدين ومناصرين، كما حصل مع أحد اقرباء خديجة الذي سعى لإيصال الطعام بدعوى أنه طعام من مال خديجة وليس من ماله، مع ذلك تعرض للمنع الشديد، بيد أنه أصرّ وأوصل الطعام الى داخل الشعب.

وهذا يعني أن السيدة خديجة أنفقت آخر درهم لها في فترة الحصار لشراء الطعام والحؤول دون تعرض المؤمنين للموت جوعاً، ولكن اذا حالت عن فقراء المسلمين الموت فانها لم تكن خائفة ولا مترددة من ملاقاة ربها بقلب سليم ونفس مطمئنة راضية مرضية، فقد ألمّ بها المرض الناتج من سوء التغذية، فأصبحت طريحة الفراش، شاحبة الوجه، غائرة العينين ذابلة الجسم، والرسول ينظر اليها مشفقاً عليها، وهو يرى زوجته في لحظات حياتها الاخيرة ولا يقدر على فعل شيء، وفاضت روحها الطاهرة أمامه، لتكون الشهيدة الثانية في الحصار بعد عمّه وكافله؛ أبي طالب ليتضاعف عليه الحزن والتحدي في وقت واحد، فهو فقد ناصره القوي أمام عتاة الكفر من قريش في ساحة المواجهة، كما فقد الحنان والأنس داخل بيته، ولتبقى خديجة القدوة والنموذج الناصع للنجاح والفلاح الذي قدمه لنا رسول الله شخصياً في حياته، وفي حياتنا اليوم والى يوم القيامة.

اضف تعليق