عاش الامام مرافقا ابيه الإمام الهادي (عليه السلام) في حلّه وترحاله. وترعرع في بيت وصفه الشبراوي قائلاً: فللّه درّ هذا البيت الشريف، والنسب الخضم المنيف، وناهيك به من فخار، وحسبُك فيه من علوّ مقدار، فهم جميعاً في كرم الأرومة وطِيب الجرثومة كأسنان المشط; متعادلون، ولسهام المجد مقتسمون، فياله من بيت عالي الرتبة سامي المحلة، فلقد طاول السماء عُلاً ونُبلاً، وسما على الفرقدين منزلةً ومحلاًّ، واستغرق صفات الكمال فلا يستثنى فيه بـ «غير» ولا بـ «إلاّ»، انتظم في المجد هؤلاء الأئمة انتظام اللآلي، وتناسقوا في الشرف فاستوى الأوّل والتالي، وكم اجتهد قوم في خفض منارهم، والله يرفعه، وركبوا الصعب والذلول في تشتيت شملهم والله يجمعه، وكم ضيّعوا من حقوقهم ما لا يهمله الله ولا يضيّعه»1.
لقد ظفر الإمام أبو محمد في بيت زكّاه الله وأعلى ذكره ورفع شأنه حيث (يسبّح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله) 2.
قال الامام الهادي (عليه السلام) أنّه امتداد الرسالة والامامة فكان يوليه أكبر اهتمامه، فقد قال عنه (عليه السلام):ـ أبو محمد ابني أصحّ آل محمد(صلى الله عليه وآله) غريزةً وأوثقهم حجة. وهو الأكبر من ولدي وهو الخلف وإليه تنتهي عرى الإمامة وأحكامها. 3.
الامام العسكري في حياة ابيه الامام الهادي (عليهما السلام)
عاصر الإمام الهادي (عليه السلام) مدة إمامته ستّة من خلفاء بني العباس، المعتصم منذ سنة (220 ـ 232 هـ) والمتوكل (232 ـ 247 هـ) حيث قتل على يد الأتراك، ثم جاءت أيام المنتصر ـ وكانت مدّة خلافته ستة أشهر ويومين، ثم المستعين (248 ـ 252هـ) كما عاصر الشطر الأكبر من خلافة المعتز (252 ـ 255هـ) حيث كان استشهاد الإمام الهادي سنة (254هـ) تاريخ الطبري: 7 أحداث سنة 234 وسنة 254 هـ،
وكان عمر الإمام الهادي عند ولادة ابنه الإمام العسكري تسع عشر سنة وتسعة شهور وثمانية أيام، ولما أشخص الإمام الهادي إلى العراق سنة ست وثلاثين ومائتين أشخص الإمام العسكري معه، وكان له يومئذٍ من العمر أربع سنين وأشهر.
وقد عاش الإمام العسكري بعدئذٍ مع أبيه الإمام الهادي حتى شهادته في سامراء، فكان للإمام العسكري يومئذٍ إثنتان وعشرون سنة وشهران وثلاثة وعشرون يوماً.
وعاش بعد والده مدة إمامته هو خمس سنوات وثمانية أشهر وخمسة أيام، قضاها في سامراء أيضاً، فكانت مدة حياته الشريفة على نحو التدقيق - سبعاً وعشرين سنة وعشرة أشهر، وثمانية وعشرين يوماً.
فحينما رُحِّلَ مع أبيه الإمام الهادي بأمر المتوكّل العباسي من المدينة إلى سامراء (سُرَّ مَن رأى) كان عمره سنتين أو أربع سنوات فقط، وكانت المنطقة التي أُسكنوا فيها منطقة الجيش والجند، فلذلك كانت تسمّى (عسكر)، ومَنْ يقيم فيها يسمى (عسكري) نسبة إلى هذه المنطقة، ولهذا أطلق على الإمام هذا اللقب.
وكانت الظروف التي تمر بها الدولة العباسية بعد تولي المتوكل ظروفاً صعبة جداً، إذ إنها كانت تعد مؤشراً على ضعفها، وتشكل بدايةً لانحلالها، فالحروب الداخلية والخارجية من جهة، والقتال بين أبناء الخلفاء على كرسي الحكم من جهة اُخرى كالذي حصل بين المستعين والمعتز والذي أدّى الى تولي المعتز وخلع الاول عام (252هـ) 4.
وجراء الصرعات في كل واحده منها كان له تأثيره المباشر في ايجاد الضعف والانحلال.
والاحداث الداخلية كانت مليئة بنشاط الخوارج والذي كان نشاطاً قوياً فعالاً مدعماً بالمال والسلاح بقيادة مادر الشاري، وهناك أيضاً الثورات والانتفاضات العلوية الى جانب نزاعات الطامعين في السلطة.
وان الدولة كانت تعاني من سوء الحالة الاقتصادية نتيجة للبذخ والاسراف الذي كانت تعيشه رجالات البلاط والوزراء وحاشيتهم.
وكان للإمام الهادي (عليه السلام) منزلة سامية ومكانة رفيعة القدر لدى أهل المدينة لإحسانه إليهم وعلاقته القوية معهم، فلمّا أشخصه المتوكل وأرسل يحيى ابن هرثمة لجلب الإمام من المدينة إلى سامراء عام (234هـ) اضطرب الناس وضجّوا كما يروي يحيى بن هرثمة نفسه حيث قال: «فذهبت الى المدينة فلمّا دخلتها ضجَّ أهلها ضجيجاً عظيماً، ما سمع الناس بمثله خوفاً على علي ـ أي الإمام الهادي (عليه السلام) ـ وقامت الدنيا على ساق، لأنه كان محسناً إليهم ملازماً للمسجد، لم يكن عنده ميل الى الدنيا، فجعلت أسكّنهم، وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا بأس عليه، ثم فتّشتُ منزله فلم أجد إلاّ مصاحف وأدعية، وكتب علم، فعظم في عيني» 5.
وتعكس هذه الرواية لنا حجم ما كان يؤديه الإمام الهادي (عليه السلام) من دور في المدينة والذي نتج عنه حصول روابط ووشائج قوية تصل الاُمة به كما كانت توصله بالأمة، وربما كان المتوكل قد وقف على هذا التأثير البالغ للإمام(عليه السلام) فكان سبباً لإبعاده عن المدينة المنوّرة الى سامراء التي أسسها العباسيون أنفسهم والتي عُرفت بميول أهلها والذين كان أغلبهم من الأتراك إلى العباسيين أوّلاً، بالاضافة الى ما عرفوا به من تطرّف في التوجه الى السيطرة والسلطة ثانياً.
طيلة عقدين من الزمن لازم الإمام أبو محمد (عليه السلام) أباه وهو يشاهد كل ما يجري عليه وعلى شيعته من صنوف الظلم والاعتداء. وانتقل الإمام العسكري (عليه السلام) مع والده إلى سرَّ من رأى (سامراء) حينما وُشي بالإمام الهادي (عليه السلام) عند المتوكل حيث كتب إليه عبد الله بن محمد بن داود الهاشمي: «يذكر أن قوماً يقولون إنه الإمام ـ أي علي الهادي (عليه السلام) ـ فأشخصه عن المدينة مع يحيى بن هرثمة حتى صار إلى بغداد، فلما كان بموضع يقال له الياسرية نزل هناك، وركب اسحاق بن إبراهيم لتلقّيه، فرأى تشوّق الناس إليه واجتماعهم لرؤيته، فأقام إلى الليل، ودخل به في الليل، فأقام ببغداد بعض تلك الليلة ثم نفذ إلى سرَّ من رأى 6..
وحتى يتفادى المتوكل المضاعفات أمر باستقدام الإمام الهادي إلى سامراء في محاولة لتقريبه من البلاط بغية عزله عن قواعده الشعبية التي كانت تتسع يوماً بعد يوم.. والأهم من ذلك لكي يضعه تحت رقابة القصر ويرصد حركاته بعيون جواسيسه.. ومن ثم قتله!.
وحتى لا يثير ضجة تؤدي إلى سخط الأمة عليه وثورتها ضده، لجأ المتوكل إلى الأسلوب الخسيس، الحيلة والخداع والتظاهر بالمودة التي اتبعها أجداده من خلفاء بني العباس مع أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السلام).. فكما فعل المنصور مع الإمام جعفر الصادق وهارون الرشيد مع الإمام موسى الكاظم والمأمون مع الإمامين الرضا والجواد(عليهما السلام) فعل المتوكل نفس الشيء مع الإمام الهادي.. فبعث أحد قادة جيشه (يحيى بن هرثمة) ومعه فرقة من الجند إلى المدينة المنورة، لإحضار الإمام علي الهادي بالقوة إلى سامراء.. وأمرهم بتفتيش بيت الإمام والبحث عن مستمسك أو دليل إدانة بالعمل والتآمر ضد الدولة.. غير أن الله أحبط مسعاهم وخيب آمالهم، يقول ابن هرثمة: (ثم فتشت منزله فلم أجد فيه إلا مصاحف وأدعية وكتب العلم) 7.
وأسرف المتوكّل العباسي في الجور والاعتداء على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) ففرض عليه الاقامة الجبرية في سامرّاء وأحاط داره بالشرطة تحصي عليه أنفاسه وتمنع العلماء والفقهاء وشيعته من الاتصال به، وقد ضيّق المتوكّل على الإمام في شؤونه الاقتصادية أيضاً، وكان يأمر بتفتيش داره بين حين وآخر، وحمله إليه بالكيفية التي هو فيها.
وكان من شدّة عداء المتوكّل لأهل البيت (عليهم السلام) أن منع رسميًّا زيارة قبر الإمام الحسين بن علي (عليهما السلام) بكربلاء8.
وأمر بهدم القبر الشريف الذي كان مركزاً من مراكز الاشعاع الثوري في أرض الإسلام.
ومَنَعَ القاصدين لزيارته عن زيارته; لأن المتوكل كان يتجاهر بعدائه لآل أبي طالب ومطاردتهم، ولم يرد تجاه تلك الاحداث أي تعليق من قبل الإمام الهادي(عليه السلام)، ويمكن أن يقال: «انه لم يرد إلينا عن موقف الإمام (عليه السلام) مع الخلفاء شيء سوى ما جاء عن موقفه من المتوكل وهو أقل القليل» 9.
حتّى انّ يحيى بن أكثم قال للمتوكل: «ما نحبّ أن تسأل هذا الرجل ـ أي الإمام (عليه السلام) ـ شيئاً بعد مسائلي هذه وإنه لا يرد عليه شيء بعدها إلاّ دونها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة»10.
لقد سعى جماعة بالامام (عليه السلام) إلى المتوكل، وأخبروه بأن في منزله سلاحاً وكتباً وغيرها وأنه يطلب الأمر لنفسه، فارسل المتوكل مجموعة من الأتراك ليلاً ليهجموا على منزله على حين غفلة، فلمّا باغتوا الإمام (عليه السلام) وجدوه وحده، مستقبل القبلة وهو يقرأ القرآن، وليس بينه وبين الأرض بساط فأخذ على الصورة التي وجد عليها، وحمل إلى المتوكل في جوف الليل، فمثُل بين يدي المتوكل وهو في مجلس شرابه وفي يده كأس، فلمّا رآه أعظمه وأكبره وأجلسه إلى جانبه ولم يكن في منزله شيء ممّا قيل عنه ولم تكن للمتوكّل حجة يتعلّل بها على الإمام (عليه السلام). فناول المتوكل الإمام (عليه السلام) الكأس الذي في يده.
فقال الإمام (عليه السلام): يا أمير المؤمنين ما خامر لحمي ودمي قط، فأعفني، فأعفاه، فقال المتوكل: أنشدني شعراً أستحسنه.
قال الإمام (عليه السلام): إنّي لقليل الرواية للشعر.
قال المتوكل: لا بدّ أن تنشدني شيئاً. فأنشده الإمام (عليه السلام):
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم***غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا من بعد عز من معاقلهم***فاُودعوا حفراً يابئس ما نزلوا
ناداهم صارخ من بعد ما قبروا***أين الأسرة والتيجان والحلل
أين الوجوه التي كانت منعمة***من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين ساءلهم***تلك الوجوه عليها الدود يقتتل
قد طالما أكلوا يوماً وما شربوا***فأصبحوا بعد طول الأكل قد اُكلوا
وطالما عمّروا دوراً لتحصنهم***ففارقوا الدور والأهلين وانتقلوا
وطالما كنزوا الأموال وادّخروا***فخلّفوها على الأعداء وارتحلوا
أضحت منازلهم قفراً معطَّلَةً***وساكِنوها الى الأجداث قد رحلوا
فبكى المتوكل بكاء كثيراً حتى بلّت دموعه لحيته، وبكى من حضر ثم أمر برفع الشراب، ثم قال يا أبا الحسن، أعليك دين؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم، أربعة آلاف دينار، فأمر بدفعها إليه، وردّه إلى منزله مكرّماً 11.
بعد مقتل المتوكل على يد ابنه المنتصر بدأ عصر انحطاط الخلافة العباسية وبعد أربعة حكّام جاء المعتمد إلى سدة السلطة فبدأ عصر الإرهاب الأكثر دموية واستهتاراً.. وبلغ الإرهاب ضد آل البيت أوجه.. فالمعتمد كان يتخوف من تحركات الإمام ويتوجس منها، فشدد حصاره ووقف مع الطبقة المستأثرة من الموالي والأتراك الذين سيطروا بالكامل على مقاليد الحكم ووقفوا موقفاً غاية في العداء ضد خط الإمام وأطروحاته الفكرية والسياسية.. وسعوا للتشديد عليه والتضييق على تحركاته.. كما سعوا بكل الوسائل الخبيثة لعزله عن المسرح الاجتماعي ومحاسبته على كل بادرة نشاط أو تحرك حتى ولو كانت وشاية تافهة أو خبر صغير عن نشاط الإمام، فكان الامام العسكري مجبراً على الإقامة في سامراء، مكرهاً على الذهاب والحضور إلى بلاط الخليفة كل يوم اثنين وخميس) 12.
بعد استشهاد الإمام الهادي تسلم ولده الإمام الحسن، فحلّ المعتز العباسي محلّ ابن عمّه المستعين، واستشهد الإمام الهادي (عليه السلام) أثناء حكم المعتز، واستشهد أو سُمّ مجموعة من العلويين أيضاً في ظلّ خلافة هذا الخليفة الظالم 13.
بعد استشهاد الإمام الهادي تسلم ولده الإمام الحسن العسكري مركز الإمامة وهو في الثامنة والعشرين من عمره. وكان قد قضى القسط الأهم من حياته في سامراء وعانى مع أبيه من ظلم بني العباس وواكب جميع الظروف والملابسات والمواقف الصعبة التي واجهت أباه..
وباعتباره المرجع الفكري والروحي لأصحابه وقواعده، وراعياً لمصالحهم العقائدية والاجتماعية.. بالإضافة إلى تخطيطه وتمهيده لغيبة ولده الإمام المهدي (عليه السلام) وقف الإمام العسكري موقفاً حازماً وحذراً من علاقته بالحكم، وامتداداً لموقف أبيه لم يبد انصياعاً للرغبات المريضة والعدائية أو إذلالاً أمام الخليفة وأتباعه.
وفرض شخصيته المؤثرة المستقلة دون أن يثير الريبة والشك به مما أكسبه احتراماً ورفعة وإجلالاً حتى من أشد المعارضين لنهج آل البيت (عليهم السلام) وأكثرهم حقداً وعداوة، وهو الوزير (عبيد الله بن يحيى بن خاقان) الذي يقول: (ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى رجلاً من العلويين مثل الحسن بن علي بن محمد بن علي الرضا في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكبّرته عند أهل بيته وبني هاشم كافة وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر).غير أن ذلك لم يرق للحكم، الذي رأى في توجهات الإمام العسكري خطراً مبطناً ينطوي على الكثير من التحديات، الأمر الذي فاقم من موجة الإرهاب والضغط عليه وعلى أصحابه، خاصة بعد أن استجدت في عصره ظروف وملابسات أضعفت قبضة السلطة العباسية على بعض الأقاليم والمدن.. ولم تكن قط لصالح الإمام كما كان متوقعاً، فحتى اللقاء به (عليه السلام)في الطرقات العامّة لم يكن آمنًا، وهذا ما نستشفّه من رواية تنقل عنه أنه كتب إلى بعض شيعته يقول لهم: «ألا لا يُسَلِّمَنَّ عليَّ أحد، ولا يشير إليَّ بيده، ولا يومئ، فإنكم لا تؤمنون على أنفسكم»14.
وورد عنه أنه قال: «ما مُنِيَ أحدٌ من آبائي بمثل ما مُنيتُ به»15.
وركز البلاط العباسي على إبعاد الإمام العسكري عن أصحابه، وإزاء ذلك كان الإمام يتحرك بيقظة وحذر وجدية من أجل أن يضمن سلامة أصحابه. وكان يحث أصحابه على العمل بهمة وسرية تامة ويحذرهم من التمادي في إظهار العداء.. وعندما يستشعر الخطر يأمرهم بتكثيف العمل السري وكتمان الأسرار انطلاقاً من قول الرسول (صلى الله عليه واله وسلم): (اقضوا حوائجكم بالكتمان) أو يأمرهم بالكف عن النشاط مؤقتاً حين يكون مصدر خطر عليهم ويحمل لهم بوادر سوء.. أو عندما يكون أحدهم مراقباً من قبل جواسيس البلاط.. وينبههم من الأخطاء ويحذرهم خشية الوقوع في أحابيل السلطة وشراكها، فقد كتب محذراً إلى (محمد بن علي السمري) وهو من خاصة أصحابه وأحد نواب الحجة المهدي (سلام الله عليه) في غيبته الصغرى (فتنة تضلكم.. فكونوا على أهبة)16.
ولم ينس أصحابه حتى وهم في السجون والمعتقلات.. وقد اعتقل ذات مرة جماعة من أصحابه فبعث إليهم الإمام أحد أعوانه ليحذرهم من أحد المعتقلين.. وكان جاسوساً دس بينهم من قبل صاحب الشرطة (صالح بن وصيف): (أخبرهم الإمام (ع) أن يحذروا واحداً في الحبس يدّعي أنه علوي، وهو ليس منهم. وفي ثيابه قصة قد كتبها إلى السلطان يخبره فيها بما يتحدثون عنه. فقام بعضهم ففتش ثيابه فوجد القصة كما أخبرهم الإمام (ع))17.
وكان الشيعة إذا حملوا الأموال من الحقوق الواجبة عليهم إلى الإمام (عليه السلام) نفذوا إلى (عثمان بن سعيد العمري السمان) الذي كان يتاجر بالسمن تغطية لنشاطه في مصلحة الإمام، فكان يجعل الأموال التي يتسلمها في جراب السمن ويحمله إلى الإمام بعيداً عن أنظار الحاكمين، لأنهم إذا عرفوا أمره صادروه18.
ومع الحذر والحيطة السرية التي اتبعها الإمام، الا انه كان يوصي أصحابه بالتزام الحق وعدم التهاون في الواجب أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنك من بر وفاجر، وطول السجود، وحسن الجوار. فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، صلوا عشائرهم واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، فإن الرجل إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي، فيسر في ذلك، واتقوا الله وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جروا إلينا كل مودة، وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك)19.
ظلت السلطة برمتها في حذر دائم واستنفار وتوجس مستمر من أقوال وأفعال الإمام الحسن العسكري وأصحابه.. فكان الاعتقال ووسائل القهر الإرهابية سيفاً مسلطاً تشهره السلطات بوجه الإمام وأصحابه الذين كانت حياة بعضهم تنتهي بين جدران السجون.. ولقد تم إلقاء القبض على الإمام نفسه مرات، ليبقى في غياهب السجن مدة، ثم يخرج ليسجن ثانية!.
وللحفاظ على وتيرة عمله الجهادي الشريف، وبعد أن شاهد ما يتعرض إليه أصحابه ومناصروه من قهر وذل وما يعانونه من خوف وعذاب جراء سياسة البطش والاضطهاد الذي ينالهم على أيدي المعتمد وجلاوزته، وبناء على ضغط الأحداث أمر الإمام العسكري أتباعه بعد أن توسم فيهم قوة الإرادة والصمود، باتباع أسلوب النشاط السري المحاط بالكتمان والرمزية قولاً وعملاً، مستهدفاً الحفاظ على حياتهم وإذكاء روح الثورة والأمل في نفوسهم.
ولقد نجحت خطة الإمام أيما نجاح، فبينما واصل أتباعه عملهم بنشاط وسرية، اتبع هو سياسة حكيمة مع مناؤيه مما أكسبه الثقة والاحترام.. خاصة عند الوزير عبيد الله، الذي أثبت مدى احترامه وتقديره للإمام العسكري.. وبهذا تم كسبه لصالح المظلومين.
وقد زاره الإمام مرة وقابله في مجلس قصير، لكي يفهمهم أن وقوفه إلى جنب الوزير في انتقاده للظلم والانحراف، الذي يمارسه جهاز الحكم إنما يقفه لتأييد كل حق أينما وجد)20.
كل هذه الظروف المريرة عاشها الإمام الزكي أبو محمد العسكري (عليه السلام) وهو في نضارة العمر وغضارة الشباب فكَوَتْ نفسه آلاماً وأحزاناً وقد عاش تلك الفترة في ظل أبيه وهو مروّع فذابت نفسه أسىً وتقطّعت ألماً وحسرة21.
وحبسه المتوكل ولم يذكر سبب ذلك.. ولا شك أن سببه العداوة والحسد وقبول وشاية الواشين كما جرى لآبائه مع المتوكل، من التشريد والحبس والقتل وأنواع الأذى)22.
وبعد المعتز استلم المهتدي زمام الحكم، وسار هذا الظالم سيرة النفاق، فكان يتظاهر بالزهد ويجتنب البذخ في الظاهر كما انه قام بنفي النساء المغنيات ومنع المنكرات الاخرى وتظاهر بإعادة الحقوق العادلة للمظلومين، لكنه احتفظ بالإمام العسكري (عليه السلام) مدة من الزمن في السجن، بل وحتى اتخذ قراراً بقتله إلاّ انّ الأجل لم يمهله،فأهلكه الله تعالى وأثناء خلافة المهتدي ثارت طائفة من العلويين سيق بعضهم إلى السجن وهناك لفظوا آخر أنفاسهم.
يقول احمد بن محمد:
كتبت على أبي محمد الإمام العسكري (عليه السلام)، حين اخذ المهتدي في قتل الموالي: يا سيدي الحمد لله الذي شغله عنا، فقد بلغني انه يتهددك ويقول والله لأجلينهم عن جديد الارض، فوقّع ابومحمد (عليه السلام) بخطه: (ذلك أقصر لعمره، عدّ من يومك هذا خمسة ايام ويقتل في اليوم السادس بعد هوان واستخفاف يمر به)، فكان كما قال (عليه السلام)23.
فقتل المهتدي في تمرد للاتراك من جيشه وحلّ محلّه المعتمد24.
وفي احدى المرات أُرسل الإمام إلى سجن صالح بن وصيف، فقالوا له ضيق عليه ولا توسع، فقال لهم صالح: ما اصنع به وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى امر عظيم، ثم أمر باحضار الموكلين فقال لهما: ويحكما ما شأنكما في امر هذا الرجل؟
فقالا: ما نقول في رجل يصوم النهار ويقوم الليل كله لا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فاذا نظر الينا ارتعدت فرائصنا وداخلنا ما لا نملكه من انفسنا 25.
وفي مرة اخرى سلم أبو محمد (عليه السلام) إلى نحرير (وهو سجّان آخر) وكان يضيق عليه ويؤذيه، فقالت له امرأته: اتق الله فانك لا تدري من في منزلك وذكرت له صلاحه وعبادته وقالت له اني اخاف عليك منه، فقال: والله لأرمينه بين السباع ثم استأذن في ذلك فأذن له فرمى به إليها ولم يشكوا في أكلها له، فنظروا إلى الموضع ليعرفوا الحال فوجدوه (عليه السلام) قائماً يصلي وهي حوله فأمر باخراجه إلى داره 26.
عصر المعتمد العباسي
لم يكن للمعتمد ـ كسائر اسلافه ـ من مهمة سوى البذخ والاسراف والظلم وكان مفرطاً في اللهو واللعب بحيث تسلط تدريجاً أخوه الموفق على شؤون الدولة وأصبحت كل الامور بيده وصار المعتمد عاطلاً من الناحية العملية وهو خليفة بالاسم فحسب، وبعد موت الموفق سيطر ابنه المعتضد على شؤون عمه المعتمد، وأخيراً مات المعتمد عام (279) هجري واستلم الحكم رسمياً من بعده المعتضد 27.
وقد سجن الإمام العسكري (عليه السلام) مع اخيه جعفر في زمان المعتمد على يدي (علي جرين) وكان المعتمد يسأل عليا عن اخباره في كل وقت فيخبره انه يصوم النهار ويصلي الليل فسأله يوماً من الايام عن خبره فأخبره بمثل ذلك فقال له امض الساعة إليه واقرأه مني السلام وقل له انصرف إلى منزلك مصاحباً. قال علي جرين: فجئت إلى باب الحبس فوجدت حماراً مسرجاً فدخلت عليه فوجدته جالساً وقد لبس خفه وطيلسانه وشاشه فلما رآني نهض فأديت إليه الرسالة فركب فلما استوى على الحمار وقف، فقلت له ما وقوفك يا سيدي؟ فقال لي: (حتى يجيء جعفر)، فقلت: إنما أمرني بإطلاقك دونه، فقال لي: (ترجع إليه فتقول له خرجنا من دار واحدة جميعا فاذا رجعت وليس هو معي كان في ذلك ما لا خفاء به عليك) فمضيت وعدت، فقلت له: يقول لك، قد اطلقت جعفراً لك لاني حبسته بجنايته على نفسه وعليك وما يتكلم به، وخلى سبيله فصار معه إلى داره 28.
وخلال حكم المعتمد استشهد الإمام العسكري (عليه السلام)، وقتلت أيضاً مجموعة من العلويين وبعضهم تم قتله بأفجع صورة، وحتى بعد القتل فقد مثلوا بأجسادهم 29.
وقال بعض المؤرخين انه قد جرت معارك وصراعات عديدة في حكومة المعتمد حتى ناهز عدد القتلى نصف مليون قتيل 30.
خلال عمره القصير شهد الإمام العسكري حكم ستة من ملوك بني العباس، ولم يرحمه أحدهم (اعتقل الإمام الحسن العسكري عدة مرات في سجون الظالمين من ملوك بني العباس)31.
وكاد يفقد حياته في أكثر من مرة.. وأدرك أخيراً أن المعتمد الظالم لن يتركه بخير أمداً طويلاً.. كما لن يترك ولده المهدي (عجل الله فرجه الشريف) على قيد الحياة إذا ما عرف به أو علم بيوم مولده، الذي حرص الإمام على إبقائه سراً.. ففي الجو المشحون بالحقد والضغينة على أئمة أهل البيت كان البلاط العباسي على علم تام بأنه آن الأوان (لبزوغ شمس المهدي) ولكن جهلهم بتاريخ ميلاده الذي أخفاه الإمام العسكري جعلهم يتخبطون في أمرهم..
لقد أصدر المعتمد أوامره لمراقبة الحوامل في بيت الإمام في حياته وعند وفاته، ظناً منه بوجود المهدي جنيناً في رحم إحدى نسائه.. غير أن يقظة الإمام وحذره خيبا مسعى الحاكم وبعد ولادة المهدي (عليه السلام) في ليلة النصف من شعبان عام (255هـ) في مدينة سامراء واجه الإمام العسكري مهمة شاقة لإثبات وجود ولده تجاه التاريخ وتجاه الأمة الإسلامية وتجاه قواعده ومواليه.. ومن ثم التخطيط لحمايته من أي أذى وسوء.. فلم يعلن عن ولادته (أخفى أمره كلياً) ولم يكشف عنه حتى لأقرب المحيطين به.. وأبعده عن عيون رجال السلطة ليضمن سلامته حتى إن الخادم في بيت الإمام العسكري لم ينتبه إلى شيء ولم يفهم شيئاً) 32.
(لكنه بالمقابل أطلع أصحابه المقربين جداً على أمر ولده وألزمهم بوجوب الكتمان... فـبعد أن تصدق عنه عشرة آلاف رطل خبزاً وعشرة آلاف رطل لحماً وعق عنه بذبح ثلاثمائة شاة، بعثها حية من يومه إلى بني هاشم والشيعة) 33.
ومع معرفته المطلقة أن بني العباس يعتبرون الغيبة تهديداً مباشراً لكيانهم، وخروجاً على سلطانهم، وتمرداً على دولتهم، لذلك فإنهم سيعملون على محاربتها بكل السبل وسيواجهونها بالبطش والإرهاب.. ومع الثقة بأن الأمر ليس سهلاً لإقناع البشر الذين اعتادوا الإدراك والمعرفة الحسية، ومن الصعب على هذا الإنسان المعتاد على المعرفة الحسية فقط أن يتجاوزها إلى تفكير واسع.. مضى الإمام قدماً لإنجاز المهمة متخطياً كل الصعاب.
ولم يكن المجتمع الذي عاصره الإمام بواقعه المنحرف وهبوط مستواه الفكري والروحي يسمو إلى عمق هذا الإيمان وسمو فكرته، خاصة وأن غيبة الإمام المهدي(عليه السلام) لا مثيل لها في تاريخ الأمة.. لذا تحتم على الإمام العسكري أن يعمل بحذر ويخطط بدقة متناهية لتنفيذ الفكرة.. فبدأ التحضير والتخطيط لتعويد الناس على ما لم يعرفوه سابقاً، كي يستسيغوه دون استغراب ومضاعفات غير محمودة.
ومع وجود النصوص الكثيرة المتوالية، المتواترة والصحيحة عن النبي (صلى الله عليه واله وسلم). والتي تبشر بالمهدي (سلام الله عليه). والتي أوردها مؤلفون معاصرون أو متقدمون لعصر الإمام العسكري، كالبخاري ومسلم وأحمد بن حنبل.. فلقد وجد الإمام صعوبة في إقناع الناس بفكرة حلول زمان الغيبة، وتنفيذها في شخص ولده المهدي...
وتمهيداً لتحقيق الهدف الأسمى عمل الإمام العسكري (ع) أولاً على حجب ولده عن أعين الناس مع إظهاره لبعض أصحابه وإصدار تعليماته لهم.) ولعل أوسع إعلان قام به الإمام بين أصحابه عن ولادة ابنه قبيل وفاته بأيام، وكان مجلسه غاصاً بأربعين من أصحابه ومخلصيه، منهم محمد بن عثمان ومعاوية بن حكيم ومحمد بن أيوب، يعرض عليهم ابنه ويقول لهم: هذا صاحبكم بعدي وخليفتي عليكم.. وهو القائم الذي تمد إليه الأعناق بالانتظار، فإذا امتلأت الأرض جوراً وظلماً خرج فملأها قسطاً وعدلاً) 34.
وفي الوقت ذاته، ومن أجل إفهام الناس والدعوة لتحمل المسؤولية الإسلامية تجاهها، شن الإمام العسكري حملة توعية لفكرة الغيبة فأصدر عدة نصوص وبيانات.. اتخذت أشكالاً متنوعة منها:
بيان عام، تعرض به إلى صفات المهدي (عليه السلام) بعد ظهوره وقيامه في دولته العالمية.)فإذا قام قضى بين الناس بعلمه كقضاء داود لا يسأل البينة35.
توجيه نقد سياسي للأوضاع القائمة يقرنه بفكرة المهدي، غيبته وظهوره (إذا خرج القائم أمر بهدم المنابر والمقاصر في المساجد) 36.
المقاصر أماكن خاصة كانت تبنى لغرض الأمن وخشية اعتداء على (الخليفة) وزيادة الهيبة في نفوس الآخرين!..
توجيه عام لقواعده وأصحابه يوضح لهم فيه أبعاد فكرة الغيبة وضرورة التكيف لها من الناحية النفسية والاجتماعية، تمهيداً لما سيعانونه من غيبة الإمام وانقطاعه عنهم.. فمن رسالة كتبها (عليه السلام) لابن بابويه قال فيها عليك بالصبر وانتظار الفرج. قال النبي (صلوات الله وسلامه عليه) أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج، ولا يزال شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشر به النبي (صلى الله عليه واله وسلم) يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً فاصبر يا شيخي يا أبا الحسن علي وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.37.
استشهاده (عليه السلام)
كانت ولادته سنة 232 وشهادته سنة 260 مما يعني أن عمره 28 سنة فقط، فهو وجدّه الإمام الجواد من أقصر الأئمة عمرًا، فقد استشهد الإمام الجواد وعمره 25 سنة، وهذا مما يدعم القول بأن رحيلهما عن الدنيا لم يكن بشكل طبيعي، وإنما بعامل الاغتيال والقضاء على حياتهما بالسم، وإن كانت الآجال بيده سبحانه، خصوصًا مع ملاحظة الظروف والأجواء التي كان الأئمة يعيشونها في ظل السلطة المناوئة لهم.
وجاء عهد المعتمد (لعنة الله عليه) فتمكن من سم الإمام الحسن (عليه السلام) في السنة الخامسة من حكمه، وقد سُقيَ ذلك السم في أول شهر ربيع الأول نت سنة ستين ومائتين 38.
وظل (عليه السلام) ثمانية أيام يعالج حرارة السم، حتى صار يوم الجمعة الثامن من شهر ربيع الأول من سنة ستين ومائتين، حيث انتقل إلى جوار ربه، في سامراء، ولم يصل عمره الشريف إلى ثمانية وعشرين سنة.
قد سُم واغتيل من قبل السلطة حيث دس السم له المعتمد العباسي الذي كان قد أزعجه تعظيم الأمة للإمام العسكري وتقديمهم له على جميع الهاشميين من علويين وعباسيين فأجمع رأيه على الفتك به.39.
وأخذ يهدّئ روع والدته قائلاً لها: لا بد من وقوع أمر الله لا تجزعي..، ونزلت الكارثة كما قال، والتحق بالرفيق الأعلى بعد أن اعتلّ (عليه السلام) في أوّل يوم من شهر ربيع الأول من ذلك العام 40.
ولما استشهد الإمام العسكري (عليه السلام) ضجت لفقده (سر من رأى) ضجة عظيمة وحمل أهلها النعش المقدس، بتجليل واهتمام بالغين، فأراد جعفر الصلاة عليه لكن ذا الطلعة البهية هو الذي صللا عليه وجهزه، ودفن في داره مع أبيه الهادي وراء ظهره.
قال أبو الأديان: كنت أخدم الحسن بن علي العسكري وأحمل كتبه إلى الأمصار، فدخلت عليه في علته التي توفي فيها (صلوات الله عليه)، فكتب معي كتباً وقال: تمضي بها إلى المدائن، فإنك ستغيب خمسة عشر يوماً، فتدخل إلى (سر من رأى) يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري، وتجدني على المغتسل. فقلت: يا سيدي! فإذا كان ذلك فمن الإمام والحجة؟ قال: من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم بعدي فقلت: زدني. فقال: من يصلي عليّ، فهو القائم بعدي.
فقلت: زدني. فقال: من أخبر بما في الهميان، فهو القائم بعدي.
ثم منعتني هيبته أن أسأله ما في الهميان!.
ويمضي أبو الأديان قائلاً: وخرجت بالكتب إلى المدائن، وأخذت جواباتها، ودخلت (سر من رأى) يوم الخامس عشر، كما قال لي (عليه السلام) فإذا أنا بالواعية في داره! وإذا أنا بجعفر بن علي أخيه، بباب الدار والشيعة حوله يعزونه ويهنئونه!
فدخل جعفر بن علي والشيعة من حوله، فما صرنا بالدار إذا أنا بالحسن بن علي (عليه السلام) على نعشه مكفناً، فتقدم جعفر بن علي ليصلي على أخيه. فلما همّ بالتكبير.. خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط وبأسنانه تفليج، فجذب رداء جعفر، وقال: تأخر يا عم، أنا أحق بالصلاة على أبي. فتقدم الصبي فصلى عليه، ودفن العسكري إلى جانب قبر أبيه. ثم قال: يا بصري، هات جوابات الكتب التي معك. فدفعتها إليه. وقلت في نفسي: - هذه اثنتان، وبقي الهميان فنحن جلوس إذ قدم نفر من (قم)، فسألوا عن الحسن بن علي فعرفوا موته. فقالوا: فمن الإمام والحجة بعده؟ فخرج الخادم وقال: معكم كتب فلان، وفلان، وهميان فيه ألف دينار، عشرة دنانير منها مطلية.
فدفعوا الكتب والمال، وقالوا: الذي وجّه بك لأجل ذلك هو الإمام.
وعندما علمت السلطات بالأمر وجه المعتمد خدمه، فقبضوا على صيقل الجارية، وطالبوها بالصبي، فأنكرته وادعت حملاً بها لتغطي على حال الصبي، فسلمت إلى ابن أبي الشوارب القاضي - ليراقبها ثم ليقتل ابنها حين ولادته 41.
وبغتهم موت عبيد الله بن يحيى بن خاقان فجأة، وخروج صاحب الزنج بالبصرة، فشغلوا بذلك عن الجارية، فخرجت عن أيديهم والحمد لله رب العالمين، لا شريك ل.) 42.
(وكان عمره وقت شهادته ثمانية وعشرون عاماً، ودفن في الدار التي دفن فيها أبوه الهادي (عليه السلام)، وقد تعرضت نساؤه واماؤه إلى الحبس والتعذيب بعد شهادته وذلك طلباً لسلطان الزمان وبحثاً عن الحجة ابن الحسن صاحب العصر والزمان وذلك بتفتيش الدور وإخافة الشيعة وتشريدهم بسعاية جعفر الكذاب)43.
ودفن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) إلى جانب أبيه الإمام الهادي (عليه السلام) في سامراء،44.
أنّ محاولة التخلّص من الإمام قد دبّرت من قبل الحاكم المعتمد. ويتضح ذلك من سلسلة الاجراءات التي اتخذتها السلطة إزاء الإمام علي الهادي (عليه السلام) أوّلاً، ثم ما اتخذته من إجراءات ضد الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، فقد قامت بسجنه عدّة مرات فضلاً عن المراقبة المشددة على بيته، كما حاولت نفيه إلى الكوفة، وغيرها من الاجراءات التعسّفيّة ضدّه وضد شيعته وضد العلويين، ووفقاً لذلك وبضم رواية أحمد بن عبيدالله بن خاقان والذي كان أبوه أحد أبرز رجالات الدولة، يتأكّد لنا أنّ استشهاد الإمام العسكري (عليه السلام) كانت وراءه أيدي السلطة الآثمة دون أدنى شك.
وعندها كان صدى كبير في سامراء لاستشهاد الإمام العسكري (عليه السلام).. وعطّلت الدكاكين وسارع العامة والخاصة مهرعين إلى بيت الإمام، فيروي أحمد بن عبيدالله واصفاً ذلك اليوم العظيم قائلاً: ولما رفع خبر وفاته، ارتجّت سرّ من رأى وقامت ضجة واحدة: مات ابن الرضا 45. وعطّلت الأسواق، وغلّقت أبواب الدكاكين وركب بنو هاشم والكتّاب والقوّاد والقضاة والمعدّلون وساير الناس الى أن حضروا جنازته فكانت سرّ من رأى شبيهاً بالقيامة. 46.
ولما اُخرج نعش الإمام العسكري (عليه السلام) صلّى عليه أبو عيسى بن المتوكل – 47.
وأمر الخليفة المعتمد العباسي، تمويهاً على الرأي العام حول استشهاد الإمام (عليه السلام)، وكأنّ السلطة ليس لها في ذلك يد بل على العكس، فإنّها قد أظهرت اهتماماً كبيراً أيام مرض الإمام (عليه السلام) وخرج كبار رجالات البلاط العباسي مشيعين...،
وبعد دفن الحسن العسكري أخذ الحاكم في البحث والتقصي عن ابن الإمام حيث أنه قد سمع أنه سيسود العالم وسيدمر أهل الباطل.. وبعد طول فحص لم يحصلوا على خبر، وقد تم وضع الإماء اللواتي يشك في حملهن بالإمام تحت المراقبة لمدة سنتين 48.
فسلام الله على الامام الحسن الزكي العسكري يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حيا.
اضف تعليق