طالما حذّر الإسلام أهل العلم من الركون الى الظالمين و بيع علومهم للسلطان مهما كانت الظروف، لما للعلم من دور أساس في توفير الشرعية لسياساته القمعية، وانحرافه عن القيم والمبادئ وهذا ما فطن اليه الحكام العباسيون حتى المعتمد العباسي المعاصر للإمام العسكري...

"يُقال للعابد يوم القيامة: نِعم الرجل كنت، همتك ذات نفسك".

الإمام الحسن العسكري، عليه السلام

في ذكرى استشهاد الامام الحسن العسكري؛ آخر إمام يعيش حياته بين ظهراني الأمة، يولد في مدينة جدّه المصطفى، ثم يُستدعى الى القاعدة العسكرية للدولة العباسية الكائنة آنذاك في سامراء، وفيها يكون معتقله واغتياله بالسُمّ. 

من أبرز ما نبحث في سيرة حياته، عليه السلام، اهتمامه المركّز بالعلم والعلماء، ثم في خطوة متقدمة؛ بالوكلاء عنه، وعن ابنه فيما بعد؛ الامام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، فهو على علم مسبق بما سيقع عليه وعلى ابنه وعلى الأمة في قادم الأيام، فكان استباقه للزمن، وتحديد مواصفات العالم القادر على تحمّل مسؤولية نشر علوم وثقافة أهل البيت المستمدة من قيم وتعاليم السماء، فهو يضع حداً فاصلاً منذ ذلك الزمن بين شريحتين يمثلان الفئة المثقفة في المجتمع وفق اصطلاح اليوم، هما؛ العبّاد، والعلماء. 

العالم المسؤول

في الحديث الذي صدرنا به المقال، يكشف الامام العسكري من يكون العالم، وما هي ميزته عن العابد، وكلاهما يعدان انفسهما على درجة من المعرفة والثقافة دون سائر الناس، بيد أن العابد يفيد نفسه، بينما العالم يفيد الآخرين، إنه الفارق المنهجي الكبير في طريقة التفكير والأداء.

فبعد كلام الإمام عن العابد الذي "همته ذات نفسه"، "يُقال للفقيه –يوم القيامة- يا أيها الكافل لأيتام آل محمد، صلى الله عليه وآله، الهادي لضعفاء محبيهم ومواليهم، قف حتى تشفع لمن أخذ عنك او تعلّم منك، فيقف فيدخل الجنة معه فِئاماً و فئاما حتى قال عشراً، وهم الذين أخذوا عنه علومه".

وهذا يذكرنا بالدعوة المسبقة في هذا السياق من الامام الرضا، عليه السلام، "أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا"، فسُئل: يا بن رسول الله، وكيف نُحيي أمركم؟ قال، عليه السلام، "يتعلم علومنا ويعلمها الناس، فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا".

نستفيد من هذا الكلام رؤيتين؛ الاولى: اجتماعية، والثانية: حضارية.

في الرؤية الاولى يكشف لنا الامام العسكري "أن اليتيم الحقيقي هو المنقطع عن الإمام"، كما يوضح الامام الراحل السيد محمد الشيرازي في مؤلفه: "من حياة الامام العسكري"، وإن الدور الاجتماعي لعالم الدين الذي خوّله، عليه السلام، الافتاء للناس طوال فترة الغيبة، والى موعد الظهور، ليس في توزيع المساعدات على المحتاجين فقط، وإنما في نشر العلوم والمعارف لابناء الأمة من البعيدين والمنقطعين ممن تحولوا –لأسباب كثيرة- الى ايتام فاقدين للمباني العقدية والأطر الثقافية، بما يضمن تقليص مساحة "الهمج الرعاع" في المجتمع والأمة.

أما الرؤية الحضارية المتمثلة بالدور المرجعي للفقهاء ممن يكون قادراً على توفير المواصفات؛ "صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً هواه، مطيعاً لأمر مولاه فعلى العوام أن يقلدوه".

بين عالم الدين وعالم السلطة

إنه الخط الفاصل والطويل الممتد مع الزمن، وقد شهد مواجهات تارةً، وتقاطعات تارة اخرى بين الجانبين، ظهرت في مواقف تاريخية كان لها بالغ الأثر في صنع احداث عظمى تركت أثرها على مصائر الأمم والشعوب، كما حصل مع شريح القاضي، وطالما حذّر الإسلام أهل العلم من الركون الى الظالمين و بيع علومهم للسلطان مهما كانت الظروف، لما للعلم من دور أساس في توفير الشرعية لسياساته القمعية، وانحرافه عن القيم والمبادئ. 

وهذا ما فطن اليه الحكام العباسيون حتى المعتمد العباسي المعاصر للإمام العسكري، فقد "ركز فقهاء السلاطين على ثلاثة مبادئ في العقيدة؛ التوحيد، والنبوة، والمعاد، مسقطين العدل والإمامة، فالعدل الإلهي يتوزع عدلاً على خلفائه في الارض، والسلاطين ما عرفوا ساعة عدل مع رعاياهم، أما الإمامة فهي الخلافة- العهد للإئمة الذي يرثون الأرض بالعدل، فمحاها السلاطين المعتصبين"، (سيرة أهل البيت، تجليات للإنسانية- حسن عباس نصر الله). 

وثمة روايات في التاريخ تتحدث عن أخ للإمام الحسن العسكري اسمه: جعفر، وذكر الرواة أن السلطة العباسية حاولت تجنيده ليكون الإمام الثاني عشر والأخير من أئمة أهل بيت رسول الله، يكون وفق مواصفاتهم، وألصقت به تسمية "جعفر الكذاب"، وقيل إنه تقدم الناس للصلاة على جنازة أخيه الامام العسكري، بيد أن المفاجأة كانت بظهور الإمام المهدي المنتظر، وكان ابن ست سنوات تقريباً، فقال له: "تنحّ يا عم! فأنا أولى بالصلاة على جنازة أبي".

وحسب الباحثين في سيرة الأئمة، فان فتنة الإمام الثاني عشر أطلقها العباسيون في حياة الامام العسكري، مما دفع الشيعة والموالين للتحقق من الإمام العسكري نفسه، فكتب اليهم: "إنما خاطب الله العاقل، والناس فيّ على طبقات: المستبصر على سبيل نجاة، متمسك بالحق، متعلّق بفرع الأصل، غير شاكّ ولا مرتاب، لا يجد عني ملجأ، وطبقة لم تأخذ الحق من أهله، فهم كراكب البحر، يموج عند موجه، ويسكن عن سكونه، وطبقة استحوذ عليهم الشيطان، شأنهم الرد على أهل الحق، ودفع الحق بالباطل حسداً من عند انفسهم".

فكان لابد من وجود الفقيه الجامع للشرائط لإدارة شؤون الناس، والارتفاع بمستوى وعيهم وثقافتهم، وقبلها يكون مرتفعاً من ذات نفسه عن كل ما يدنيها نحو الصفات الذميمة ليكون قائداً ونموذجاً يحتذى به، وهذا ما نقرأه في رسالة الإمام، عليه السلام، الى أحد خواصّه من العلماء، وهو؛ ابي الحسن علي بن الحسين بن بابويه القمّي، شيخ الإماميين في مدينة قم، وقد خاطبه الإمام بلفظة "يا شيخي ومعتمدي"، تعبيراً عن الإشادة والاعتزاز به، بأن "أوصيك بتقوى الله و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة، فانه لا تقبل الصلاة من مانع زكاة"، وأردف، عليه السلام: "وأوصيك بمغفرة الذنب، و كظم الغيظ وصلة، الرحم ومواساة الاخوان، والسعي في حوائجهم، في العسر واليسر، والحلم عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الامور والتعاهد للقرآن، وحسن الخلق والأمر بالممعروف والنهي عن المنكر"، كما أوصاه في رسالته المطولة بالصبر وانتظار الفرج وأن "أُمر جميع شيعتي بالصبر".

هذه الوصايا الدقيقة تعكس صعوبة الظروف الاجتماعية والسياسية آنذاك، كما تمثل منهجاً ثابتاً لما نعيشه اليوم من ظروف مشابهة او أكثر تعقيداً، مع فارق الظواهر في الحياة، إنما جوهر المسائل هي نفسها؛ حكام الجور والتضليل، والفساد، والتغرير، والتشكيك، والجهل، فضلاً عن القمع والاضطهاد الملازم لحركة الإصلاح الرسالي منذ عهد النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، والى يوم القيامة.

اضف تعليق