مسألة الغدير، وقصة الغدير الأغر هي قصة الإسلام كله، وليس قصة حادثة تاريخية عابرة اختلف فيها الرواة، أبداً لم يختلفوا عليها بل اختلفوا فيها، وفي تفاصيلها ولكنها ثابتة عند جميع المؤرخين المنصفين، وذلك لأن الله حفظها في كتابه في الآيات المباركة التي نزلت فيها لأنها لم...

في يوم 18 ذي الحجة عام 10 ه جرت حادثة عظيمة وحديث سماوي في غدير خم

مقدمة إسلامية

إلى اليوم أكثر أهل الإسلام ما عرفوا الإسلام حق المعرفة، بل أكثرهم دخلوا في الإسلام وراثة عن آبائهم دون معرفة حقيقية بالأصول الدينية له، ولا حتى بالفروع الكثيرة، وحتى العبادات أخذوها عادات وتقاليد دون الوقوف على المعاني الحقيقية والمفاهيم الواقعية لدينهم العظيم، وعباداته الراقية جداً، وهذا ما جعل أهل الإسلام أغراب عنه، والإسلام نفسه غريباً بينهم، وصدق الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) حيث يقول: (بَدَأَ اَلْإِسْلاَمُ غَرِيباً وَسَيَعُودُ غَرِيباً فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ ثُمَّ يَكُونُ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ يَرْجِعُ اَلْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ)، ولذا على المؤمنين حقاً أن يعتبروا ما يرونه اليوم من غربة هي بوابة الأمل ليعود الحق لأهله بإذن الله تعالى. 

وفي الحقيقة ما عرف الإسلام إلا أهله وحملته وهم الرسول الأكرم وعترته الطاهرة وجميل ما يقوله أمير المؤمنين وسيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب (ع) في رائعة من روائعه حين قال: (لَأَنْسُبَنَّ اَلْإِسْلاَمَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي: اَلْإِسْلاَمُ هُوَ اَلتَّسْلِيمُ، وَاَلتَّسْلِيمُ هُوَ اَلْيَقِينُ، وَاَلْيَقِينُ هُوَ اَلتَّصْدِيقُ، وَاَلتَّصْدِيقُ هُوَ اَلْإِقْرَارُ، وَاَلْإِقْرَارُ هُوَ اَلْأَدَاءُ، وَاَلْأَدَاءُ هُوَ اَلْعَمَلُ). (نهج البلاغة: ج۱ ص4۹۱ ح 102)

نعم؛ هذا هو ملخَّص وخلاصة الإسلام العظيم كله، ولكن هل فقهت هذه الأمة التي تدَّعي الإسلام وهي ربع سكان المعمورة اليوم، وتقارب المليارين من سكان الكرة الأرضية وموزعة على كل الأقطار وفي كل البلدان؟ أم أنها كما أخبرها الرسول الأعظم منذ قرون غثاء كغثاء السَّيل وذلك في قوله للصحابة حوله: (يُوشِكُ اَلْأُمَمُ أَنْ تَتَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى اَلْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا) قِيلَ: أَ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (بَلْ أَنْتُمْ كَثِيرٌ، وَلَكِنْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ اَلسَّيْلِ، وَلَتُنْزَعَنَّ اَلْمَهَابَةُ مِنْكُمْ، وَلَيُقْذَفَنَّ اَلْوَهْنُ فِي قُلُوبِكُمْ)، قَالُوا: وَمَا اَلْوَهْنُ؟ قَالَ: (حُبُّ اَلدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ اَلْمَوْتِ). (صحيح الجامع: ح8183 والحديث: صحيح)

الأمة بالعدد ليست قليلة بل هي كثيرة ومعطاءة ولكن المشكلة فيها أنها تركت وجهلت دينها، وهجرت قرآنها، وراحت تلهث وراء أعدائها فيزيدها ذلاً وصغاراً للأسف الشديد، وهذا الواقع أمامنا ونرى فيه أنواع وأشكال الذل الذي لم ولن يخطر على بال إنسان مؤمن بالإسلام، لأنه من البديهيات عنده (الإسلامُ يَعْلُو وَلَا يُعلَى عَلَيهِ)، فكيف يعلو في هذا العصر لا تعرف الأمة الإسلامية كلها، لأنها جهلت حقيقة الإسلام وعندما ترجع إلى الإسلام الحق ترجع إليها قوتها ويرجع إليها سؤددها وتعلو على كل الأمم بإذن الله تعالى، فوجود الإسلام الحق مقدمة لعلوِّ المسلمين في هذه الحياة، ولكن ما دامت الأمة جاهلة بدينها وهاجرة لقرآنها فمن أين لها العلو؟

قصة الغدير الأغر

وفي هذه الأيام قرأت كتاب (قصة الغدير للإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله) المقتطف من كتابه لأول مرة في تاريخ العالم)، ونظرت إلى الواقع فوجدت الأمة الإسلامية قد انقسمت إلى أقسام في أهم وأعظم حادثة شهدتها، وأجمل وأكرم حديث سمعته من رسولها الأكرم في أيامه الأخيرة فيها، وهي حادثة تنصيب الولي والإمام والخليفة عليها، والحديث الذي عرف بحديث غدير خم، لأن الحادثة والحديث جرى في تلك المنطقة ما بين مكة والمدينة وتحت السَّمُرات على ضفاف الغدير المسمى بخم، وذلك في 18 ذي الحجة الحرام عام 10ه وبعد خمسة أيام من انتهاء حجة الوداع الوحيدة للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، ولا تعرف الأمة لماذا خلافها وتراشقها بالألقاب، والتكذيب والافتراء على الله وعلى الرسول وعلى الإسلام وأهله، فلماذا لا تنصف نفسها هذه الأمة وترجع إلى مصادرها التاريخية والروائية الحديثية وتدع عنها أقوال المسلمين الذي حاولوا حرف الحقيقة لأغراض سياسية بحتة، فأصحاب مدرسة الخلافة القرشية ومَنْ تبعهم من أبناء الشجرة الملعونة في القرآن الأموية الزقزمية حرَّفوا وشوَّهوا كل حق وصدق ليطمئنوا على كرسي الحكم والخلافة والأمة ليست السياسة والخلافة هي كل شيء فيها بل هي جزء مفرق ومشتت ومقسِّم لها كما نشهد ذلك في الواقع المعاش حالياً، فصرنا في (كل قرية أمير المؤمنين ومنبر).

والحقيقة هي أن قصة الغدير هي ثابتة ثبوت الإسلام نفسه، وواقعة شهدها أكبر عدد من الشهود في التاريخ الإسلامي كله، والله تعالى أنزل فيها ثلاث آيات كريمات نتلوها آناء الليل وأطراف النهار ولا أحد يستطيع أن ينكرها، فهي من المتواترات ورغم ذلك في كل عام تأتيك جوقة الكذب والدَّجل من مزامير الشيطان وأبواق الضلال من أتباع الإعلام الأصفر المعادي لكل ما هو إسلامي، ويعمل على بث الفوضى والتشكيك في كل حق، والتكذيب بكل فضيلة، وتلميع ونشر كل ساقطة هزيلة التي يأباها الضمير والوجدان الإنساني.

فقصة الغدير كقصة كربلاء ففي كل عام تجد شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ليشككوا ويشوِّهوا ويذرُّوا الرَّماد في العيون لا سيما الشباب ليمنعوهم من رؤية الحق الواضح الجلي، ويرسموا لهم صورة مختلفة تماماً لما جرى في التاريخ من حادثة عظيمة، وحديث كريم من الرسول الأكرم في ذلك اليوم الذي ما كان في يوم من أيام عمره الشريف كله فرِحاً مسروراً مثلها، وحتى ملاك الوحي جبرائيل كما يحدِّث سماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) مختصراً حديث الإمام اَلصَّادِقِ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنْ هَذِهِ اَلْخُطْبَةِ رَأَى اَلنَّاسُ رَجُلاً جَمِيلاً بَهِيّاً طَيِّبَ اَلرِّيحِ فَقَالَ: تَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مُحَمَّداً كَالْيَوْمِ قَطُّ - مَا أَشَدَّ مَا يُؤَكِّدُ لاِبْنِ عَمِّهِ وَإِنَّهُ يَعْقِدُ عَقْداً لاَ يَحِلُّهُ إِلاَّ كَافِرٌ بِاللَّهِ اَلْعَظِيمِ وَبِرَسُولِهِ وَيْلٌ طَوِيلٌ لِمَنْ حَلَّ عَقْدَهُ). 

قَالَ: وَاِلْتَفَتَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ اَلْخَطَّابِ حِينَ سَمِعَ كَلاَمَهُ فَأَعْجَبَتْهُ هَيْئَتُهُ، ثُمَّ اِلْتَفَتَ إِلَى اَلنَّبِيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَقَالَ: أَ مَا سَمِعْتَ مَا قَالَ هَذَا اَلرَّجُلُ، قَالَ كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): يَا عُمَرُ أَ تَدْرِي مَنْ ذَاكَ اَلرَّجُلُ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: ذَلِكَ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ جَبْرَئِيلُ فَإِيَّاكَ أَنْ تَحُلَّهُ فَإِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ فَاللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَلاَئِكَتُهُ وَاَلْمُؤْمِنُونَ مِنْكَ بِرَاءٌ). (الاحتجاج: ج۱ ص66)

وربما لهذا بادروا إلى أن يكون أول المهنِّئين والمبايعين لأمير المؤمنين حيث يروي الجميع أنه قال عند البيعة: (بَخْ بَخْ لَكَ يَا عَلِيُّ أَصْبَحْتَ مَوْلاَيَ وَمَوْلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ)، وفي رواية (كل مسلم ومسلمة)، وهذا ما دفع عبد الله بن عبّاس ليقول: (فَوَجَبَتْ (البيعة) وَاَللَّهِ فِي رِقَابِ اَلْقَوْمِ إلى يوم القيامة). (الطرائف: ١ / ١٢١، والغدير: ١ / ٥٢) 

نعم؛ لقد وجب حق البيعة في أعناقهم، وذلك لأن رسول الله (ص) لم يخرج من تلك المنطقة في غدير خم حتى نصب خيمة وأمر المسلمين جميعاً بالبيعة له بالرسالة ولأمير المؤمنين الإمام علي بالإمامة والولاية، واستمر ذلك ليومين كاملين وبايعه الجميع وحتى زوجاته أمرهم ببيعته بيعة النساء، ولكن لماذا تنكَّر كل ذلك الجمع المهول، والعدد الهائل من الصحابة التي قد يصل عددهم ما يزيد عن المائة ألف لا سيما وأن رسول الله حمَّلهم أمانة التبليغ لمَنْ خلفهم (فليبلِّغ الشَّاهد منكم الغائب)، وهل يعقل أنهم جميعاً نسوا أمر رسول الله (ص) ولم يبلِّغوا ما سمعوه منه مباشرة وبيعتهم لأمير المؤمنين خليفته ووصيه ووليهم من بعده؟

هناك قضايا وأسئلة كثيرة ووجيهة تدور حول حادثة غدير خم، ولن يجد أتباع الخلافة أجوبة شافية أو مقنعة لها أبداً لأنهم يبحثون عن الجواب في الأسباب لها وهم السلطة القرشية أصحاب المصلحة فيها، ولا يبحثون عنها عند أئمة أهل البيت (ع) الذين وقع عليهم الجناية والظلم من السلطة القرشية ومَنْ أراد أجوبة لكل أسئلته وحَيراته عن حادثة وحديث الغدير فليراجع روايات أهل البيت فقط فهم حملة الرسالة الإسلامية وحماة القرآن الكريم من الهجر والتحريف، وأما الآخرون فهذا آخر ما يفكرون به وما مسألة الدِّين فقد أجاد بوصف حالهم السبط العظيم سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) حينما قال: (إِنَّ اَلنَّاسَ عَبِيدُ اَلدُّنْيَا وَاَلدِّينُ لَعْقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلاَءِ قَلَّ اَلدَّيَّانُونَ). (بحار الأنوار: ج۷۵ ص۱۱6) 

الغدير هو الإسلام كله

والحقيقة التي لا يجرؤ الآخرون أن يفكروا فيها أصلاً وهي أن مسألة الغدير، وقصة الغدير الأغر هي قصة الإسلام كله، وليس قصة حادثة تاريخية عابرة اختلف فيها الرواة، أبداً لم يختلفوا عليها بل اختلفوا فيها، وفي تفاصيلها ولكنها ثابتة عند جميع المؤرخين المنصفين، وذلك لأن الله حفظها في كتابه في الآيات المباركة التي نزلت فيها لأنها لم تنزل بهذه الشدة والحزم والقوة على النبي الأكرم طيلة الرسالة وذلك لأنها تعادل الرسالة كلها، ولذا أجَّلها رسول الله (ص) من الموقف في عرفات، إلى مسجد الخيف من منى، ثم إلى كراع الغميم حيث نزلت العصمة من الله لرسوله من الناس الذين كان يقول عنهم لجبرائيل (ع): (يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، ثُمَّ مَضَى بِحَجِّهِ فَلَمَّا أَقْبَلَ رَاجِعاً نَزَلَ بِغَدِيرِ خُمٍّ أَنْزَلَ اَللَّهُ عَلَيْهِ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (المائدة: 67) اَلْآيَةَ فَأَخَذَ بِعَضُدِ عَلِيٍّ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى اَلنَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا اَلنَّاسُ أَ لَسْتُ أَوْلَى بِكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اَللَّهِ، قَالَ: اَللَّهُمَّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ وَأَعِنْ مَنْ أَعَانَهُ وَاُخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَاُنْصُرْ مَنْ نَصَرَهُ وَأَحِبَّ مَنْ أَحَبَّهُ وَأَبْغِضْ مَنْ أَبْغَضَهُ). (كشف الغمة: ج۱ ص۳۱۸)

وحقيقة تحليل هذه الآية الكريمة يحتاج منا وقتاً طويلاً، وذلك للإجابة عن هذه الأسئلة التي هي من البديهيات لمَنْ قرأها وتدبّرها أو تأمل فيها ومنها:

1- ما هو الأمر الذي أمر به رسول الله (ص) ولم يبادر إلى تبليغه للأمة؟

2- لماذا كان يُماطل رسول الله (ص) في تبليغ الأمر الإلهي حتى نزل جبرائيل ثلاث مرات يأمره عن الله؟

3- ما مدى خطورة هذا الأمر ليكون موازيا أو مساوياً لتبليغ الرسالة الإسلامية كلها؟

4- لماذا عندما نزلت العصمة من الله وقف رسول الله في مكانه ولم يبرحه رغم الهجير وحرارة الجو فجمع الصحابة وصلى بهم الظهر وكانوا يستظلون بدوابهم وإبلهم من حرارة الجو حتى بلغهم أمر الله؟

5- ومَنْ هؤلاء الناس الذين كان يخافهم رسول الله (ص) وهو بين أصحابه ويحيط به أكثر من مئة ألف منهم؟

6- هل كان يخاف من الصحابة أنفسهم لأنه لا موجب لخوفه من غيرهم أبداً في ذلك الموقف الرهيب؟

7- والعجيب لماذا تنهي الآية الحديث عن الكافرين ولا يوجد إلا المسلمين في ذلك الموقف، فمَنْ هم الكافرون الذين عنتهم الآية الكريمة؟

القرآن الحكيم يجيب

والجواب على هذه الأسئلة وكل ما يتبعها أو يلحقها نأخذه من كتاب الله تعالى، وذلك لأنه في مثل هذا الموقف العظيم، والحادثة الخالدة لا يمكن إلا أن يثبِّتها ربنا سبحانه وتعالى في قرآنه حتى لا ينكرها المنكرون، أو يجحدها الجاحدون، ولذا قال الله سبحانه وتعالى عندما تمَّت الخطبة الغديرية وقامت الحجة على القوم بالبيعة العلوية: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا) (المائدة: 3)، وإن جرى اقتطاعها من سياقها القرآني ووضعها ضمن آيات الذبيحة والطعام والحديث عن أهل الكتاب، ولكن أجمعت الأمة على أنها جملة معترضة في الآية وهي نزلت في يوم غدير خم بالقطع واليقين.

آية العصمة من الناس

هذه الآية الكريمة أيضاً تحتاج إلى بحوث طويلة وجليلة، ولكن نكتفي بهذه الإشارة في هذه العُجالة، لننتقل إلى القسم الثالث وهو الأهم في المسألة وهي مسألة العصمة من الناس، التي كفلها رب العزة والجلال لرسول الكريم لعلمه بأنه في معرض خطر حقيقي من أولئك المنافقين، فخشيته وخوفه كان واقعياً وليس مجرد ظن أو تخمين، وذلك لأنهم كتبوا بينهم الصحيفة الملعونة الثانية قبل أن يخرجوا من مكة حيث تعاهدوا وتعاقدوا على منع أهل البيت من الوصول إلى القيادة والسلطة والحكم بأي وسيلة، وخوف رسول الله (ص) كخوف موسى بن عمران (ع) لم يكن على نفسه بل على رسالته ودينه وأن يمنعونه من تبليغ الأمر الإلهي إلى نهايته حيث يشاغبون ويصطنعون نوعاً من الفوضى التي تمنعه من تبليغه الرسالة بالولاية والإمامة عليهم.

وفعلاً كان الحزب القرشي قد رتَّب كل شيء، وعقدوا العزم على منع النبي الأكرم من عقد الوصية، ورفع راية الولاية لأمير المؤمنين الإمام علي (ع) ولذا ما أن بدأ رسول الله (ص) بالتبليغ وقال لهم: (مَنْ كنت مولاه فهذا علي مولاه) حتى دفعوا أحد الإمَّعات من بني عبد الدار ليبدأ الشغب حيث قام الحارث بن النعمان الفهري - وفي رِوَايَةِ - جَابِرُ بْنُ اَلنَّضْرِ بْنِ اَلْحَارِثِ بْنِ كَلَدَةَ اَلْعَبْدَريُّ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَمَرْتَنَا عَنِ اَللَّهِ بِشَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَبِالصَّلاَةِ وَاَلصَّوْمِ وَاَلْحَجِّ وَاَلزَّكَاةِ فَقَبِلْنَا مِنْكَ، ثُمَّ لَمْ تَرْضَ بِذَلِكَ حَتَّى رَفَعْتَ بِضَبْعِ اِبْنِ عَمِّكَ فَفَضَّلْتَهُ عَلَيْنَا وَقُلْتَ: (مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ) فَهَذَا شَيْءٌ مِنْكَ أَمْ مِنَ اَللَّهِ؟ 

فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): وَاَلَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِنَّ هَذَا مِنَ اَللَّهِ، فَوَلَّى اَلْحَارِثُ يُرِيدُ رَاحِلَتَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اَللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ مُحَمَّدٌ حَقّاً فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ اَلسَّماءِ أَوِ اِئْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، فَمَا وَصَل إِلَيْهَا حَتَّى رَمَاهُ اَللَّهُ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ عَلَى هَامَتِهِ وَخَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ فَقَتَلَهُ وَأَنْزَلَ اَللَّهُ تَعَالَى: (سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ).

وكان ذلك على مرأى ومشهد الجميع ونظروا إلى السماء فوجدوا طير الأبابيل تملؤ السماء كما رأتها قريش يوم الفيل وأبرهة الحبشي فأيقنوا بالهلاك لكل مَنْ يقف حائلاً بين كمال الدِّين وتمام النعمة، ولذا تراهم بادروا إلى البيعة وبخبخوا لأمير المؤمنين خوفاً وفرقاً من أن تأتيهم حجارة السِّجيل فتجعلهم كعصف مأكول، وهذا ما عصم الرسول الكريم منهم وأتاح له أن يبلغ رسالته كاملة بسهولة وانسيابية دون اعتراض ولا حتى شخص واحد منهم إلا هذا الهالك الفهري العبدري الذي دفعه الحزب القرشي كقربان للشيطان فهلك وكان عبرة لهم جميعاً.

وهذه أيضاً تحتاج إلى بحوث طويلة نسأل الله التوفيق لها، أو أن يقوم بها بعض الفضلاء الكرام من عشاق الأمير من أبناء ثقافة ورسالة الغدير الأغر، فالغدير يساوي الإسلام كله لو انبسط على مساحة الأمة، والإسلام الحنيف لو تجمَّع في موقف لكان هو الغدير، ولذا على الأمة أن تعرف فضله وفضيلته وأن تحاول أن تنشر ثقافة الغدير ومحبة الأمير وإلا فإنها ستتثقف بثقافة أمراء القتل والذبح والتكفير كما رأينا بأم العين منهم.

أسعد الله أيامكم أيها الغديريون الموالون لأمير الغدير (عليه السلام).

اضف تعليق