من أعظم ما خلفه لنا الإمام الحسين، عليه السلام، في سيرته الوضاءة؛ دعاءه يوم عرفة، وهو بين الحجيج لأداء مناسك الحج، ليضع القواعد الأساس للإصلاح في أمة جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، وكان هذا قبل أحداث كربلاء بسنوات عدّة...
ليس من المألوف فنياً ومنهجياً الدمج بين موضوعين مختلفين في إطار مقال واحد؛ أحدهما تاريخي، والآخر أخلاقي- روحي، الأول يتحدث عن واقعة تاريخية، وهي استشهاد مسلم بن عقيل، سفير الإمام الحسين، عليه السلام، الى الكوفة، والآخر؛ عن دعاء الإمام الحسين في يوم عرفة، والمناسبتان في نفس يوم التاسع من ذي الحجة الحرام، بيد أن الحرج يرتفع بالضرورة عندما يكون نقطة الاشتراك؛ الامام الحسين، عليه السلام، في منهجه الإصلاحي، وفي طريقة تعامله مع المتغيرات الاجتماعية والسياسية الحاسمة في تلك البرهة الزمنية الفاصلة من التاريخ.
من أعظم ما خلفه لنا الإمام الحسين، عليه السلام، في سيرته الوضاءة؛ دعاءه يوم عرفة، وهو بين الحجيج لأداء مناسك الحج، ليضع القواعد الأساس للإصلاح في أمة جدّه المصطفى، صلى الله عليه وآله، وكان هذا قبل أحداث كربلاء بسنوات عدّة، ومن المفترض أن تكون تلك الكلمات الصاعقة والدلالات العميقة للدعاء قد نفذت في النفوس في السنة التي حجّ فيها، عليه السلام، مع سائر المسلمين سنة 60 للهجرة، فعندما أحلّ إحرامه في عرفات تحديداً استعداداً للخروج الى أرض العراق، نقرأ منها رسالة تذكيرية واضحة للأمة، ولنا ايضاً، بتلك القواعد المطلوبة لتحقيق إصلاح ناجح، فقد توجه، الى المناسك وتهديدات الحكم الأموي تلاحقه مطالبة إياه بالبيعة ليزيد بعد موت أبيه معاوية، علماً أنها تعد مخالفة من الناحية القانونية والسياسية لمعاهدة الهدنة مع الامام الحسن، بأن يكون الحكم من بعد معاوية للإمام الحسين، وهو ما غاب تماماً عن أذهان المسلمين؛ كبارهم وصغارهم بسبب ما سنأتي اليه آنفاً، فكان الموقف الوحيد المتفاعل ظاهرياً مع الإمام الحسين ضد الحكم الأموي؛ رسائل التأييد والدعوة للقدوم الى الكوفة، او العراق ليبايعه الناس على أنه الخليفة الشرعي والحاكم الحق على الأمة.
هنا لابد من تسجيل حقيقة تاريخية غاية في الاهمية حتى يكون تناولنا للموضوع دقيقاً، بما يجعلنا نستفيد من العِبر قبل إصدار أي حكم على جهة معينة.
إن أهل الكوفة تميزوا عن سائر المسلمين في الامصار المتعددة، مثل البصرة، او المدينة، أو الشام، في التفاعل مع موقف الإمام الحسين الرافض لبيعة يزيد، لاسباب واضحة ليس أقلها؛ الشعور بالذنب إزاء تقصيرهم الفاحش مع أمير المؤمنين في حربه مع معاوية، ثم استشعارهم بكل حواسهم؛ بحجم الخسارة الفادحة والإذلال والتنكيل في ظل حكم معاوية الذي تسيّد على الأمة منذ استشهاد أمير المؤمنين، ثم ابنه الحسن، عليهما السلام، أي خلال أكثر من عشرين سنة، مما حداهم بمحاولة، يمكن وصفها بتصحيح المسار والتعويض عمّا فات، ولكن! هذه المحاولة لم تكن سهلة أبداً، بل كانت محفوفة بالتضحيات الجسام، وهو ما لم يدركه الكوفيون جيداً، كما لو أنهم تصوروا المسألة سهلة، بإرسال برقيات التأييد والبيعة والاستعداد لاستقبال الامام الحسين في الكوفة ليعيد أمجاد أبيه بحياة ملؤها العدل والمساواة، رغم عدم قناعة شريحة منهم بهذا المنهج، ومعارضة أمير المؤمنين، وجرى ما جرى عليه بسببهم.
لذا كان على الأمة أن تدرك أنها لا تستقبل الإمام الحسين فقط، وإنما تستقبل قواعد الإصلاح، والمواصفات المطلوبة لتنفيذ هذا البرنامج السماوي الذي ضحى من أجله رسول الله، ومن بعده؛ أمير المؤمنين، والأئمة المعصومين، والأولياء الصالحين.
من هذه القواعد نذكر اثنين على سبيل الاستنباط وليس الحصر: الدعاء والأخلاق
الدعاء.. معرفة الله قبل كل شيء
سمعت رواية خلال محاضرة كان يلقيها سماحة آية الله الفقيه السيد محمد رضا الشيرازي –طاب ثراه- بأن الأمام الحسين كان في موسم الحج يمشي فالتقى بعبد الله بن عباس جالساً مع جماعة يحدثهم في العقائد وفي التوحيد، فدعاه للالتحاق بهم –مضمون الرواية- فأجابه، عليه السلام: بالأول يفترض بك أن تعرف من هو الله الذي تتحدث عنه وتعبده؟!
من أجل هذا هدرت تلك الكلمات من أعلى عليين الى الأرض على لسان الامام الحسين في دعائه يوم عرفة، فكانت البداية؛ الشكر الخالص لله –تعالى- على كل ما أنعمه على الانسان من قبل أن يولد، وهو في الإصلاب والأرحام، وفي مرحلة ما بعد الولادة، وما وهبه –تعالى- من قوى وقدرات و نِعَم في بدنه، وفي الأجواء الاجتماعية المساعدة للنمو الصحيح؛ بدنياً ونفسياً؛ "فابتدعت خلقي من منيٍ يُمنى وأسكنتني في ظلمات ثلاث، بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل إليّ شيئاً من أمري، ثم أخرجتني للذي سبق لي من الهدى الى الدنيا تامّاً سويّاً وحفظتني في المهد طفلاً صبيا، و رزقتني من الغذاء لبناً مريّا، وعطفت عليّ قلوب الحواضن، وكفلتني الأمهات الرواحم".
وبعد أن يذكر، عليه السلام، بعض نعم الله على الانسان يستدرك بالقول: "أنا أشهد ياإلهي بحقيقة إيماني، وعقد عزمات يقيني، وخالص صريح توحيدي وباطن مكنون ضميري و.... أن لو حاولت واجتهدت مدى الأعصار والأحقاب لو عمّرتها أن أؤدي شكر واحدة من أنعمك ما استطعت ذلك إلا بمنّك الموجب عليّ به شكرك".
وجاء في كتاب مفاتيح الجنان: ثم اندفع، عليه السلام، مجتهداً في الدعاء والمسألة، وعيناه سالتا دموعاً: "اللهم اجعلني أخشاك كأني أراك".
هذه الجملة لوحدها تكفينا لفهم منظومة معرفية كاملة، وعلاقة صحيحة للإنسان مع ربه، ففي هذا الدعاء، وأدعية أخرى للمعصومين، تعليم لنا بكيفية استنزال الرحمة الإلهية بالتوسل والتضرّع والاستصغار أمام الخالق –جلّ وعلا- وفي نفس الوقت إشارة الى إشارة تحذيرية من مغبة الانحراف في السلوك والتفكير المؤدي الى الحرمان من النعم والغضب الإلهي بسبب النفاق والازدواجية، بمعنى إقران القول بالعمل عندما يقول الانسان على نفسه بأنه "مسلم"، وفي مرتبة أعلى؛ "مؤمن"، وما أكثر القائلين بهذا اليوم.
الاخلاق.. "الإيمان قيد الفتك"
هذا الحديث النبوي الشريف تذكره مؤمن حقيقي من تلاميذ مدرسة أمير المؤمنين، وهو مسلم بن عقيل، لكن! متى؟ هل في مجلس عام، في أجواء آمنة، او في بيته، او الى جانب الامام الحسين، مثلاً، كلا. إنما في لحظة تاريخية، تُعد من أعقد اللحظات التي سجلها التاريخ، وراح العلماء والمؤرخون يبحثون فيها، ويدرسون خلفياتها ومآلاتها.
هذا الحديث النبوي صار حائلاً بين مسلم وبين الخروج من خلف الجدار والانقضاض على عبيد الله بن زياد الذي كان في زيارة لأحد معارفه من أهل البصرة وهو شُريك بن الأعور الهمداني، وكان مريضاً طريح الفراش في دار هانئ بن عروة، وكان الاتفاق بين شُريك وهانئ باستغلال فرصة وجود ابن زياد لوحده وقتله و تخليص أهل الكوفة منه، وينتهي كل شيء، وتكون المدينة وأهلها كلها طوع إرادة مسلم!
طال انتظار مسلم خلف الجدار، وتعاظم القلق والتوتر عند هانئ وشريك، و راح شُريك ينشد بعض الابيات من الأدب الجاهلي تحفّز على الاقدام، فأحس ابن زياد بشيء غير طبيعي في الأمر فغادر المكان سريعاً، وكان اللوم كبيراً في عدم تنفيذ عملية الاغتيال، فقال مسلم، رضوان الله عليه، منعني من الخروج وقتل ابن زياد حديث من رسول الله: "الإيمان قيد الفتك"، فلا يصح للمؤمن ان يفتك بإنسان مهما كانت الأسباب، وهو ما لم يفهمه الكثير من العلماء والمفكرين حتى اليوم، وعدّوه نوعاً من تضييع الفرصة للانتصار وفق قاعدة، "الغاية تبرر الوسيلة"، و لدى البعض؛ "الغاية تشرّع الوسيلة"!
ورود هذا الحديث النبوي في خاطر مسلم لم يكن صدفة ابداً، إنها مسألة ربانية ضمن المخطط الإلهي للاختبار وافتتان الناس بأشد الوسائل والظروف، وهو امتداد لما جربه نفس هذا الانسان منذ آلاف السنين مع الأنبياء والمرسلين، وكيف ان الاختبارات أحدثت هزّات عنيفة في النفوس، فينجح من يروّض نفسه بالتقوى والورع ومخافة الله –تعالى- ويفشل من يخلد الى الأرض، مفضلاً الرفاهية و رغد العيش، والامتيازات والأموال والعقارات على دعوة الله –تعالى- بالعبودية والإخلاص والإيمان لنيل السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة معاً.
لم يكن مسلم بن عقيل وحيداً في شخصه داخل طرقات الكوفة، بل كان وحيداً في روحه الإيمانية العالية التي غابت عن معظم أهالي الكوفة آنذاك، "إلا القليل ممن وفى لرعاية الحق" في أهل بيت رسول الله، وهذا هو بالتحديد ما تسبب في ذلك السقوط المريع في هاوية التاريخ، وما جرى من ويلات ونكبات على أهل الكوفة، وعلى المسلمين عامة، والى اليوم نشهد تكرار سقوط مماثل يحدث مع الزمن، مع فارق الظروف الاجتماعية والسياسية، وفي كل مرحلة زمانية يتصور الناس أنهم ناجحون في الحياة اذا لم يورطوا انفسهم مع قضايا مثل؛ "الإصلاح"، ومقارعة الظالم والانحراف في المجتمع والدولة، وأنهم في مأمن وراحة، بينما الثائرون والمصلحون في مشقّة وعذاب، وأنهم لم يكسبوا سوى الموت، وقبلها التشريد والتعذيب، بينما التاريخ يؤكد للجميع العكس تماماً، ومازالت التجربة قائمة.
اضف تعليق