وأترعت نفس المعتصم بالحقد والكراهية للإمام الجواد فكان يتميّز من الغيظ حينما يسمع بفضائل الإمام ومآثره، وقد دفعه حسده له أن قدم على اغتياله. وأشخص المعتصم الإمام الجواد إلى بغداد وقد فرض عليه الإقامة الجبرية فيها ليكون على علم بجميع شؤونه وأحواله وحجبه من الاتصال بشيعته...
وقبل أن أبدأ الحديث عن النهاية الأخيرة من حياة الإمام العظيم أبي جعفر الجواد (عليه السلام)، اقدم عرضاً موجزاً لسيرة المعتصم العباسي، الذي اغتال الإمام بالسمّ، فإنّ لذلك صلة موضوعية في البحث عن حياة الإمام (عليه السلام) وفيما يلي ذلك:
أما صفات المعتصم ونزعاته التي عُرِف بها فهي كما يلي:
الحماقة: وكان من صفات المعتصم الحماقة، وقد وصفه المؤرّخون بأنّه إذا غضب لا يبالي من قتل ولا ما فعل (1) وهذا منتهى الحمق الذي هو من أرذل نزعات الإنسان.
كراهته للعلم: وكان المعتصم يكره العلم، ويبغض حملته، وقد كان معه غلام يقرأ معه في الكتاب، فتوفّي الغلام فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك قال: نعم يا سيدي واستراح من الكتاب، فقال له الرشيد: وان الكتاب ليبلغ منك هذا دعوه لا تعلّموه (2).
وبقي أمّياً، وحينما ولي الخلافة كان لا يقرأ ولا يكتب، وكان له وزير عامّي،
وقد وصفه أحمد بن عامر بقوله:
(خليفة أمّي ووزير عامّي) (3).
لقد كان عارياً من العلم، والفضل، وعارياً من كل صفة شريفة يستحق بها منصب الخلافة في الإسلام التي هي أخطر منصب يناط به إقامة الحق والعدل بين الناس، هذه بعض الصفات الماثلة فيه.
بغضه للعرب: وكان المعتصم شديد الكراهية والبغض للعرب وقد بالغ في إذلالهم والاستهانة بهم فقد أخرجهم من الديوان وأسقط أسماءهم، ومنعهم العطاء كما منعهم الولايات (4).
ولاؤه للأتراك: كان المعتصم يكنّ في أعماق نفسه خالص الولاء والحب للأتراك، فقد أخذ يستعين بهم في بناء دولته، ويعود السبب في ذلك إلى أن أمه (ماردة) كانت تركية فكان يحكي الأتراك في طباعهم ونزعاتهم، وقد بعث في طلبهم من فرغانة، واشروسنة واستكثر منهم (5) وقد بلغ عددهم في عهده سبعين ألفاً، وقد حرص المعتصم على أن تبقى دماؤهم متميزة فجلب لهم نساءً من جنسهم فزوجهم بهن، ومنعهم من الزواج بغيرهن (6) وقد ألبسهم أنواع الديباج، والمناطق الذهبية (7) وقد أسند لهم قيادة الجيش، وجعل لهم مراكز في مجال السياسة والحرب وحرم العرب ممّا كان لهم من قيادة الجيوش، وقد آثرهم على الفرس والعرب في كلّ شيء.
وقد أساء الأتراك إلى المواطنين فكانوا يسيرون في شوارع بغداد راكبين خيولهم دون أن يعبأوا بالمارّة فكانوا يسحقون الشيخ والمرأة والطفل وقد ضجّت بغداد من اعتدائهم وعدم مبالاتهم (8).
وقد وصف دعبل الخزاعي مدى تسلّط الأتراك على المعتصم وبنوع خاصّ وصيف واشناس التركيّين يقول:
لقد ضاع أمر الناس إذ ساس ملكهم
وصيف واشناس وقد عظم الكرب
وذكر دعبل أنّ المعتصم عهد بوزارته إلى الفضل بن مروان وكان نصرانيّاً في الأصل قال:
وفضل بن مروان سيثلم ثلمة
يظلّ لها الإسلام ليس لها شعب
مع الإمام الجواد:
وأترعت نفس المعتصم بالحقد والكراهية للإمام الجواد (عليه السلام) فكان يتميّز من الغيظ حينما يسمع بفضائل الإمام ومآثره، وقد دفعه حسده له أن قدم على اغتياله كما سنتحدّث عن ذلك.
إشخاص الإمام إلى بغداد:
وأشخص المعتصم الإمام الجواد إلى بغداد فورد إليها لليلتين بقيتا من المحرم سنة (220 هـ) (9).
وقد فرض عليه الإقامة الجبرية فيها ليكون على علم بجميع شؤونه وأحواله كما فرض عليه في نفس الوقت الرقابة الشديدة، وحجبه من الاتصال بشيعته، والقائلين بإمامته.
الوشاية بالإمام:
ومن المؤسف حقّاً أن تصدر الوشاية بالإمام الجواد (عليه السلام) من أبي داود السجستاني الذي كان من أعلام ذلك العصر، أمّا السبب في ذلك فيعود إلى حسده للإمام (عليه السلام).
والحسد داء خبيث ألقى الناس في شرّ عظيم، لقد حقد أبو داود على الإمام كأشدّ ما يكون الحقد وذلك حينما أخذ المعتصم برأيه في مسألة فقهية وترك بقية آراء الفقهاء، فتميّز أبو داود غيظاً وغضباً على الإمام (عليه السلام)، وسعى إلى الوشاية به، وتدبير الحيلة في قتله، وبيان ذلك ما رواه زرقان الصديق الحميم لأبي داود قال: إنّه رجع من عند المعتصم وهو مغتمّ، فقلت له: في ذلك.. قال: إنّ سارقاً أقرّ على نفسه بالسرقة وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمد بن عليّ (عليه السلام) فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع؟ فقلت: من الكرسوع (10) لقول الله في التيمّم: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم) واتّفق معي على ذلك قوم، وقال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: وما الدليل على ذلك؟ قالوا: لأنّ الله قال: (وأيديكم إلى المرافق) قال: فالتفت إلى محمد بن علي (عليه السلام) فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ قال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين قال: دعني ممّا تكلّموا به، أي شيء عندك؟ قال: اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك بالله لما أخبرتني بما عندك فيه، فقال: إذا أقسمت عليّ بالله إنّي أقول:
إنّهم أخطأوا فيه السنّة، فإنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فيترك الكفّ، قال: لِمَ؟ قال: لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): السجود على سبعة أعضاء: الوجه واليدين والركبتين والرجلين فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، وقال الله تبارك وتعالى: (وإنّ المساجد لله) يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها (فلا تدعوا مع الله أحداً) وما كان لله لم يقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ.
قال زرقان: إنّ أبا داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثالثة فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، وأنا أكلّمه بما أعلم إنّي أدخل به النار قال: ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيّته وعلماءهم لأمر واقع من أمور الدين فسألهم عن الحكم فيه، فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك.
وقد حضر المجلس أهل بيته وقوّاده ووزرائه، وكتّابه، وقد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم، لقول رجل: يقول شطر هذه الأمّة بإمامته، ويدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء.
قال: فتغيّر لونه، وانتبه لما نبّهته له، وقال: جزاك الله عن نصيحتك خيراً..)(11).
لقد اقترف أبو داود أخطر جريمة في الإسلام، فقد دفع المعتصم إلى اغتيال إمام من أئّمة أهل البيت: الذين فرض الله مودّتهم على هذه الأمة، والويل لكلّ من شَرِك في دمائهم.
تنبّأ الإمام بوفاته:
واستشفّ الإمام الجواد (عليه السلام) من وراء الغيب أنّ الأجل المحتوم سيوافيه وأنّ عمره كعمر الزهور، وقد أعلن ذلك لشيعته في كثير من المواطن وهذه بعضها:
1 ـ روى محمد بن الفرج قال: كتب إليّ أبو جعفر (عليه السلام): احملوا إليّ الخمس، لست آخذ منكم سوى عامي هذا، ولم يلبث (عليه السلام) إلاّ قليلاً حتى قبض واختاره الله إلى جواره (12).
2 ـ روى أبو طالب القمّي، قال: كتبت إلى أبي جعفر بن الرضا (عليه السلام) أن يأذن لي أن أندب أبا الحسن ـ يعني أباه ـ قال: فكتب أن اندبني واندب أبي (13).
3 ـ وأخبر (عليه السلام) عن وفاته في أيام المأمون، فقد قال: (الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً) ولم يلبث بعد المأمون بثلاثين شهراً حتى قبض واختاره الله إلى جواره (14).
4 ـ روى إسماعيل بن مهران أنّ المعتصم العباسي لمّا أشخص الإمام أبا جعفر (عليه السلام) إلى بغداد قال: قلت له: جعلت فداك أنت خارج فإلى مَن هذا الأمر من بعدك؟ فبكى حتى اخضلّت لحيته، ثمّ التفت إليّ فقال: عند هذه يخاف عليّ، الأمر من بعدي إلى ابني عليّ (15).
لقد كان الإمام عالماً بأحقاد المعتصم عليه، وأنّه لا يتورّع من اغتياله والإجهاز عليه، فلذا أحاط أصحابه وشيعته علماً بمفارقته للحياة في عهد هذا الطاغية الجبّار.
تعيينه لولده الهادي:
ونصّ الإمام الجواد (عليه السلام) على إمامة ولده عليّ الهادي، ونصبه علماً ومرجعاً للأمّة من بعده.
فقد روى الصقر قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الرضا (عليه السلام) يقول: إنّ الإمام بعدي ابني عليّ، أمره أمري، وقوله قولي، وطاعته طاعتي... (16).
وروى الخيراني عن أبيه أنّ الإمام أبا جعفر (عليه السلام) بعث إليه رسولاً فقال له: إنّ مولاك يقرأ عليك السلام ويقول لك: إنّي ماضي، والأمر صائر إلى ابني عليّ، وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي (17) وكثير من أمثال هذه الروايات نصّت على أنّ الإمام أبا جعفر (عليه السلام) أقام ولده الإمام الهادي إماماً من بعده وأوجب على شيعته طاعته.
اغتيال الإمام:
ولم يمت الإمام محمد الجواد حتف أنفه، وإنّما اغتاله المعتصم العباسي (18) فقد قدّم الطاغية على اقتراف هذه الجريمة النكراء.
وقد اختلف المؤرّخون في الشخص الذي أوعز إليه المعتصم للقيام بسمّ الإمام (عليه السلام) وفيما يلي بعض الأقوال:
1 ـ ذكر بعض الرواة أنّ المعتصم أوعز إلى بعض كتّاب وزرائه بأن يدعو الإمام إلى منزله، ويدسّ إليه السمّ، فدعاه إلاّ أنّ الإمام (عليه السلام) اعتذر من الحضور في مجلسه، وأصرّ عليه الكتّاب بالحضور لأجل التبرّك بزيارة الإمام له، وأضاف أنّ أحد الوزراء أحبّ لقاءه ولم يجد (عليه السلام) بدّاً من إجابته، فصار إليه، ولمّا تناول الطعام أحسّ بالسمّ فدعا بدابته للخروج من المنزل فسأله صاحب المنزل أن يقيم عنده فقال (عليه السلام): خروجي من دارك خير لك (19).
2 ـ صرّحت بعض الروايات أنّ المعتصم أغرى بنت أخيه زوجة الإمام أمّ الفضل بالأموال، فدسّت إليه السمّ (20).
وعلى أي حال فقد قطع المعتصم بسمّه للإمام أواصر القربى ولم يرع حرمة النبي في أبنائه.
دوافع اغتياله:
أمّا دافع اغتيال المعتصم للإمام فهي ـ فيما نحسب ـ تتلخّص بما يلي:
أولاً: وشاية أبي داود فقد دفعت المعتصم إلى اغتيال الإمام.
ثانياً: حسد المعتصم للإمام (عليه السلام) على ما ظفر به من الإكبار والتعظيم عند عامّة المسلمين فقد تحدّثوا مجمعين عن مواهبه وعبقرياته وهو في سنّه المبكّر، كما تحدّثوا عن معالي أخلاقه من الحلم وكظمه للغيظ، وبرّه بالفقراء وإحسانه إلى المحرومين إلى غير ذلك من صفاته التي عجّت بذكرها الأندية والمحافل، ممّا دفع المعتصم على فرض الإقامة الجبرية عليه في بغداد ثمّ القيام باغتياله.
هذه بعض الأسباب التي دفعت المعتصم إلى اقتراف هذه الجريمة النكراء.
إلى جنّة المأوى:
وأثّر السمّ في الإمام تأثيراً شديداً، فقد تفاعل مع جميع أجزاء بدنه وأخذ يعاني منه آلاماً مرهقة، فقد تقطّعت أمعاؤه من شدّة الألم، وقد عهدت الحكومة العباسية إلى أحمد بن عيسى أن يأتيه في السحر ليتعرّف خبر علّته (21) وقد أخبر الإمام (عليه السلام) بوفاته من كان عنده في الليلة التي توفّي فيها فقال لهم: نحن معشر إذا لم يرض الله لأحدنا الدنيا نقلنا إليه (22) وأخذت الآلام من الإمام مأخذاً عظيماً.
فقد كان في ريعان الشباب وغضارة العمر ولمّا أحسّ بدنو الأجل المحتوم منه أخذ يقرأ سوراً من القرآن الكريم، وقد لفظ أنفاسه الأخيرة ولسانه يلهج بذكر الله تعالى وتوحيده، وقد انطفت بموته شعلة مشرقة من الإمامة والقيادة الواعية المفكّرة في الإسلام.
لقد استشهد الإمام (عليه السلام) على يد طاغية زمانه المعتصم العباسي وقد انطوت بموته صفحة من صفات الرسالة الإسلامية التي أضاءت الفكر ورفعت منار العلم والفضيلة في الأرض.
تجهيزه ودفنه:
وجُهِّز بدن الإمام (عليه السلام) فغسُّل وأدرج في أكفانه، وبادر الواثق والمعتصم فصلّيا عليه (23) وحُمل الجثمان العظيم إلى مقابر قريش، وقد احتفّت به الجماهير الحاشدة، فكان يوماً لم تشهد بغداد مثله فقد ازدحمت عشرات الآلاف في مواكب حزينة وهي تردّد فضل الإمام وتندبه، وتذكر الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون في فقدهم للإمام (عليه السلام).
وحفر للجثمان الطاهر قبر ملاصق لقبر جدّه العظيم الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) فواروه فيه وقد واروا معه القيم الإنسانية، وكلّ ما يعتزّ به الإنسان من المثل الكريمة.
عمره:
أمّا عمره الشريف فكان خمساً وعشرين عاماً (24) وهو أصغر الأئمة الطاهرين: سناً، وقد قضى معظم حياته في نشر العلم، وإذاعة الفضيلة بين الناس فكانت حياته الغالية مدرسة للفكر والوعي ومعهداً للإيمان والتقوى.
سنة وفاته:
توفّي الإمام الجواد (عليه السلام) سنة (220 هـ) (25) يوم الثلاثاء لخمس خلون من ذي القعدة (26) وقيل لخمس ليال بقين من ذي الحجّة (27) وقيل لست ليال خلون من ذي الحجّة (28).
اضف تعليق