ووضعت سيّدة نساء العالمين وليدها العظيم، الذي لم تضع مثله سيّدة من بنات حواء، لا في عصر النبوة ولا فيما بعده، أعظم بركة ولا أكثر عائدة على الإنسانية منه، فلم يكن أطيب، ولا أزكى ولا أنور منه. لقد أشرقت الدنيا به، وسعدت به الإنسانية في جميع أجيالها، واعتزّ به...
ألا بورك هذا الغرس الذي امتدّ على هامة الزمن وعياً وإشراقاً، وهو يضيء للناس حياتهم الفكرية والاجتماعية، ويهديهم إلى سواء السبيل.
الاُمّ:
إنّه الغرس الطيّب من سيّدة نساء العالمين فاطمة الزهراء (عليها السّلام) التي طهّرها الله بفضله، وجعلها تهدي من ضَلال، وتجمع من فرقة... إنّها فاطمة الزهراء التي تحمل قبساً من روح أبيها وفيضاً من نوره، وأشعّة من هَديه، فكانت موضع عنايته واهتمامه، وقد أحاطها بهالة من الإكبار والتقدير؛ ففرض ولاءها على المسلمين؛ ليكون ذلك جزءاً من عقيدتهم ودينهم، وقد أذاع فضلها وعظيم مكانتها في الإسلام؛ لتكون قدوة لنساء اُمّته، لقد أشاد (صلّى الله عليه وآله) بقِيَمها ومثُلها في منتدياته العامّة والخاصّة، وعلى منبره ليحفظه المسلمون، فقد قال فيما أجمع عليه رواة الإسلام:
1 ـ «إنّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك» (1).
2 ـ «إنّما فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها، وينصبني ما أنصبها» (2).
3 ـ «فاطمة سيّدة نساء العالمين» (3).
إلى غير ذلك من الأخبار التي تحدّثت عن معالم شخصية الزهراء (عليها السّلام)، وأنّها قدوة الإسلام، والمثَل الأعلى لنساء هذه الاُمّة التي تضيء لهنّ الطريق في حسن السلوك والعفّة وإنجاب أجيال مهذّبة... فما أعظم بركتها وأكثر عائدتها على الإسلام، ويكفي في عظيم شأنها أنه سمّيت على اسمها الدولة الفاطمية العظيمة، كما أنّ الجامع الأزهر اشتقّ من اسمها (4). بل يكفي في عظمة الدولة الفاطمية أن تبرّكت باسم الزهراء.
وعلى أيّ حال فإنّ الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) استشفّ من وراء الغيب أنّ بضعته الطاهرة هي التي تتفرّع منها الثمرة الطيّبة من أئمة أهل البيت (عليهم السّلام) خلفاء الرسول، ودعاة الحق في الأرض، الذين يتحمّلون أعباء رسالة الإسلام، ويعانون في سبيل الإصلاح الاجتماعي كل جهد وضيق؛ فلذا أولاها النبي اهتمامه، وجعل ذرّيتها موضع رعايته وعنايته.
الأب:
إنّه ثمرة علي رائد الحقّ والعدالة في الأرض، أخو النبي (صلّى الله عليه وآله)، وباب مدينة علمه، ومَن كان منه بمنزلة هارون من موسى، وأوّل مَن آمن بالله وصدق رسوله، والقائد الأعلى في مركز القيادة الإسلامية بعد الرسول محمد (صلّى الله عليه وآله)، تحمّل أعباء الجهاد المقدس منذ فجر الدعوة الإسلامية، فخاض الأهوال، والتَحَم التحاماً رهيباً مع قوى الشرك والإلحاد، حتّى قام هذا الدين وهو عبل الذراع بجهاده وجهوده، قد حَباه الله بكل مكرمة وخصّه بكل فضيلة، وأنّه أبو الأئمة الطاهرين الذين فجّروا ينابيع الحكمة والنور في الأرض.
الوليد الأوّل:
وأفرعت دوحة النبوّة وشجرة الإمامة الذرّية الطاهرة التي تشكّل الامتداد الرسالي بعد النبي (صلّى الله عليه وآله)، فكان الوليد الأوّل أبا محمد الزكي، وقد امتلأت نفس النبي (صلّى الله عليه وآله) سروراً به، فأخذ يتعاهده، ويغذّيه بمثُله ومكرمات نفسه التي طبق شذاها العالم بأسره (5).
ولم تمضِ إلاّ أيّام يسيرة ـ حدّدها بعض المؤرّخين باثنين وخمسين يوماً (6) ـ حتّى علقت سيّدة النساء بحمل جديد، ظلّ يتطلّع إليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) وسائر المسلمين بفارغ الصبر، وكلهم رجاء وأمل في أن يشفع الله ذلك الكوكب بكوكب آخر ليضيئا في سماء الاُمّة الإسلامية، ويكونا امتداداً لحياة المنقذ العظيم.
رؤيا اُمّ الفضل:
ورأت السّيدة اُمّ الفضل بنت الحارث (7) في منامها رؤيا غريبة لم تهتدِ إلى تأويلها، فهرعت إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قائلة له:
إنّي رأيت حلماً منكراً؛ كأنّ قطعة من جسدك قُطعت ووضعت في حجري!
فأزاح النبي (صلّى الله عليه وآله) مخاوفها، وبشّرها بخير قائلاً:
«خيراً رأيتِ؛ تَلد فاطمة إن شاء الله غلاماً فيكون في حجرك» ومضت الأيّام سريعة فوضعت سيّدة النساء فاطمة ولدها الحسين، فكان في حجر اُمّ الفضل كما أخبر النبي (ص) (8).
وظلّ الرسول (صلّى الله عليه وآله) يترقّب بزوغ نجم الوليد الجديد، الذي تزدهر به حياة بضعته التي هي أعزّ الباقين والباقيات عنده من أبنائه وبناته.
الوليد المبارك:
ووضعت سيّدة نساء العالمين وليدها العظيم، الذي لم تضع مثله سيّدة من بنات حواء، لا في عصر النبوة ولا فيما بعده، أعظم بركة ولا أكثر عائدة على الإنسانية منه، فلم يكن أطيب، ولا أزكى ولا أنور منه.
لقد أشرقت الدنيا به، وسعدت به الإنسانية في جميع أجيالها، واعتزّ به المسلمون، وعمدوا إلى إحياء هذه الذكرى، افتخاراً بها في كل عام، فتقيم وزارة الأوقاف في مصر احتفالاً رسميّاً داخل المسجد الحسيني اعتزازاً بهذه الذكرى العظيمة، كما تقام في أكثر مناطق العالم الإسلامي. وتَردّد في آفاق يثرب صدى هذا النبأ المفرح، فهرعت اُمّهات المؤمنين وسائر السّيدات من نساء المسلمين إلى دار سيّدة النّساء، وهنّ يهنئنها بمولودها الجديد، ويشاركنها في أفراحها ومسرّاتها.
وجوم النبي (صلّى الله عليه وآله) وبكاؤه:
ولمّا بشّر الرسول الأعظم بسبطه المبارك خفّ مسرعاً إلى بيت بضعته فاطمة (عليها السّلام) وهو مثقل الخطا، قد ساد عليه الوجوم والحزن، فنادى بصوت خافت حزين النبرات: «يا أسماء، هلمّي ابني».
فناولته أسماء، فاحتضنه النبي (صلّى الله عليه وآله) وجعل يوسعه تقبيلاً، وقد انفجر بالبكاء، فذُهلت أسماء، وانبرت تقول: فداك أبي واُمّي! ممّ بكاؤك؟!
فأجابها النبي (صلّى الله عليه وآله) ـ وقد غامت عيناه بالدموع ـ:
«من ابني هذا».
وملكت الحيرة إهابها فلم تدرك معنى هذه الظاهرة ومغزاها، فانطلقت تقول: إنه وُلد الساعة.
فأجابها الرسول بصوت متقطّع النبرات حزناً وأسى قائلاً:
«تقتله الفئة الباغية من بعدي، لا أنالهم الله شفاعتي».
ثمّ نهض وهو مثقل بالهمّ، وأسرَّ إلى أسماء قائلاً:
«لا تخبري فاطمة؛ فإنها حديثة عهد بولادة» (9).
وانصرف النبي (صلّى الله عليه وآله) وهو غارق بالأسى والشجون؛ فقد استشفّ من وراء الغيب ما سيجري على ولده من النكبات والخطوب التي تذهل كل كائن حي.
سنة ولادته:
واستقبل سبط النبي (صلّى الله عليه وآله) دنيا الوجود في السنة الرابعة من الهجرة (10)
وقيل: في السنة الثالثة (11). واختلف الرواة في الشهر الذي ولِد فيه، فذهب الأكثر إلى أنّه ولِد في شعبان في اليوم الخامس منه (12)، ولم يحدّد بعضهم اليوم، وإنّما قال: ولِد لليالي خلون من شعبان (3). وأهمل بعض المؤرّخين ذلك مكتفياً بالقول: إنّه ولِد في شعبان (13). وذهب بعض الأعلام إلى أنّه ولِد في آخر ربيع الأوّل إلاّ أنّه خلاف المشهور فلا يُعنى به (14).
مراسيم ولادته:
وأجرى النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسه أكثر المراسيم الشرعية لوليده المبارك، فقام (صلّى الله عليه وآله) بما يلي:
أوّلاً: الأذان والإقامة:
واحتضن النبي (صلّى الله عليه وآله) وليده العظيم (عليه السّلام)، فأذّن في اُذنه اليمنى، وأقام في اليسرى (15). وجاء في الخبر: «إنّ ذلك عصمة للمولود من الشيطان الرجيم» (16).
إنّ أوّل صوت اخترق سمع الحسين هو صوت جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله)، الذي هو أوّل مَن أناب إلى الله ودعا إليه، وأنشودة ذلك الصوت:
«الله أكبر، لا إله إلاّ الله».
لقد غرس النبي (صلّى الله عليه وآله) هذه الكلمات، التي تحمل جوهر الإيمان وواقع الإسلام، في نفس وليده، وغذّاه بها فكانت من عناصره ومقوّماته، وقد هام بها في جميع مراحل حياته، فانطلق إلى ميادين الجهاد مضحّياً بكل شيء في سبيل أن تعلو هذه الكلمات في الأرض، وتسود قوى الخير والسّلام، وتتحطّم معالم الردّة الجاهليّة التي جهدت على إطفاء نور الله.
ثانياً: التسمية:
وسمّاه النبي (صلّى الله عليه وآله) حسيناً كما سمّى أخاه حسناً (17). ويقول المؤرّخون: لم تكن العرب في جاهليتها تعرف هذين الاسمين حتّى تسمّي أبناءهما بهما، وإنّما سمّاهما النبي (صلّى الله عليه وآله) بهما بوحي من السماء (18).
وقد صار هذا الاسم الشريف علماً لتلك الذات العظيمة التي فجّرت الوعي والإيمان في الأرض، واستوعب ذكرها جميع لغات العالم، وهام الناس بحبّها حتّى صارت عندهم شعاراً مقدّساً لجميع المثُل العليا، وشعاراً لكل تضحية تقوم على الحقّ والعدل.
رعاية النبي (صلّى الله عليه وآله) للحسين (عليه السّلام):
وتولّى النبي (صلّى الله عليه وآله) بنفسه رعاية الحسين، واهتمّ به اهتماماً بالغاً فمزج روحه بروحه، ومزج عواطفه بعواطفه، وكان ـ فيما يقول المؤرّخون ـ: يضع إبهامه في فيه، وأنّه أخذه بعد ولادته فجعل لسانه في فمه ليغذّيه بريق النبوّة، وهو يقول له: «إيهاً حسين، إيهاً حسين، أبى الله إلاّ ما يريد، هو ـ يعني الإمامة ـ فيك وفي ولدك» (19).
وفي ذلك يقول السّيد الطباطبائي:
ذادوا عن الماءِ ضمآناً مراضعُهُ----من جدّه المصطفى الساقي أصابعُهُ
يُعطيه إبهامه آناً وآونةً----لسانَهُ فاستوتْ منه طبائعُهُ
غرس سقاه رسولُ الله من يدِهِ----وطاب من بعد طيبِ الأصل فارعُهُ
لقد سكب الرسول (صلّى الله عليه وآله) في نفس وليده مثُله ومكرماته؛ ليكون صورة عنه، وامتداداً لحياته، ومثلاً له في نشر أهدافه وحماية مبادئه.
ملامحه (عليه السّلام):
وبدت في ملاح الإمام الحسين (عليه السّلام) ملامح جدّه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) فكان يحاكيه في أوصافه، كما كان يحاكيه في أخلاقه التي امتاز بها على سائر النبيّين، ووصفه محمد بن الضحاك فقال: كان جسد الحسين يشبه جسد رسول الله (ص) (20)، وقيل: إنّه كان يشبه النبي (صلّى الله عليه وآله) ما بين سرته إلى قدميه (21). وقال الإمام علي (عليه السّلام):
«مَن سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ما بين عنقه وثغره فلينظر إلى الحسن، ومَن سرّه أن ينظر إلى أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله) ما بين عنقه إلى كعبه خَلقاً ولوناً فلينظر إلى الحسين بن علي» (22).
لقد بدت على وجهه الشريف أسارير الإمامة فكان من أشرق الناس وجهاً، فكان كما يقول أبوكبير الهذلي:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل
ووصفه بعض المترجمين له بقوله: كان أبيض اللون، فإذا جلس في موضع فيه ظلمة يُهتدى إليه؛ لبياض حسنه ونحره (23). ويقول آخر: كان له جمال عظيم، ونور يتلألأ في جبينه وخدّه، يضيء حواليه في الليلة الظلماء، وكان أشبه الناس برسول الله (ص) (24). ووصفه بعض الشهداء من أصحابه في رجز كان نشيداً له في يوم الطفِّ يقول:
له طلعةٌ مثلُ شمسِ الضحى
له غرّةٌ مثلُ بدرٍ مُنير
هيبته:
وكانت عليه سيماء الأنبياء؛ فكان في هيبته يحكي هيبة جدّه التي تعنو لها الجباه، ووصَفَ عظيم هيبته بعض الجلاّدين من شرطة ابن زياد بقوله:
لقد شغلنا نور وجهه، وجمال هيبته عن الفكرة في قتله.
ولم تحجب نور وجهه يوم الطفِّ ضربات السّيوف، ولا طعنات الرماح؛ فكان كالبدر في بهائه ونضارته، وفي ذلك يقول الكعبي:
ومُجرّحٌ ما غيّرتْ منه القنا حُسناً
ولا أخلقنَ منه جديدا
قد كان بدراً فاغتدى شمسَ الضحى
مُذ ألبستهُ يدُ الدماءِ بُرودا
ولمّا جيء برأسه الشريف إلى الطاغية ابن زياد بهر بنور وجهه، فانطلق يقول:
ما رأيت مثل هذا حسناً!
فانبرى إليه أنس بن مالك منكراً عليه قائلاً:
أمَا أنّه كان أشبههم برسول الله! (25).
وحينما عرض الرأس الشريف على يزيد بن معاوية ذهل من جمال هيبته، وطفق يقول:
ما رأيت وجهاً قط أحسن منه!
فقال له بعض مَن حضر:
إنّه كان يشبه رسول الله (ص) (26).
لقد أجمع الرواة أنّه كان يحاكي جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أوصافه وملامحه، وأنّه كان يضارعه في مثله وصفاته، ولمّا تشرّف عبد الله بن الحر الجعفي بمقابلته امتلأت نفسه إكباراً وإجلالاً له وراح يقول:
ما رأيت أحداً قط أحسن، ولا أملأ للعين من الحسين.
لقد بدت على ملامحه سيماء الأنبياء وبهاء المتقين، فكان يملأ عيون الناظرين إليه، وتنحني الجباه خضوعاً وإكباراً له.
ألقابه:
أمّا ألقابه فتدلّ على سموّ ذاته، وما يتمتع به من الصفات الرفيعة، وهي:
1 ـ الشهيد.
2 ـ الطيّب.
3 ـ سيّد شباب أهل الجنّة.
4 ـ السبط (27)؛ لقوله (صلّى الله عليه وآله): «حسين سبط من الأسباط» (28).
5 ـ الرشيد.
6 ـ الوفي.
7 ـ المبارك.
8 ـ التابع لمرضاة الله (29).
9 ـ الدليل على ذات الله.
10 ـ المطهّر.
11 ـ البَر.
12 ـ أحد الكاظمين (30).
كنيتُه:
كان يكنّى بأبي عبد الله (31)، وذكر غير واحد من المؤرّخين أنّه لا كنية له غيرها (32). وقيل: إنّه يكنّى بأبي علي (33)، وكنّاه الناس من بعد شهادته بأبي الشهداء وأبي الأحرار.
نقش خاتمه:
كان له خاتمان؛ أحدهما من عقيق، وقد نقش عليه: إنّ الله بالغ أمره (34). الثاني وهو الذي سُلب منه يوم قتل، وقد كتب عليه: لا إله إلاّ الله عدد لقاء الله، وقد ورد: «إنّ مَن يتختّم بمثله كان له حرز من الشيطان» (35).
لقد قابل الإسلام بكل تكريم واحتفاء الإمام الحسين (عليه السّلام) كما عنى به مع أبويه وأخيه؛ فرفع ذكرهم، وحثّ بإصرار على اتّباع سلوكهم والاقتداء بهم، وضمن للاُمّة أن لا تزيغ عن طريق الهدى إذا لم تتقدم عليهم في مجالات الحكم والتشريع وغيرهما.
اضف تعليق