هذا العمل البطولي الذي قام به أمير المؤمنين الإمام علي وهو ما عجز عنه الأصحاب جميعاً كان يستأهل كل الأوصاف التي قيلت من رسول الله (ص) بحقه، لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى من نفسه، والمحبة لابن عمِّه وصهره، بل كلامه حق، وميزان صدق...
استشهد الإمام علي في 21 شهر رمضان سنة 40 ه في محراب مسجد الكوفة غيلة بالسيف
مقدمة في العظمة
العظمة في هذه الدنيا بماذا تقاس عند الناس؟
هل العظمة بكبر الجسد والجسم والجثة، أو بكثرة الأولاد، والعشيرة، والأتباع، أو بوفرة المال وتعدده، أو بسعة الجاه والسلطان، أو بالقوة الجسدية وسرعة البطش بالآخرين، أو بأي شيء يقيس الناس العظماء عادة؟
فالعظمة تختلف باختلاف الناظر إليها، فقد يصنفون شخصاً ويصفونه بالعظمة وهو أقل من أن يكون إنساناً عادياً وسوياً، بل وربما عظمة نخرة خير منه، إذا كان من الجبابرة والطواغيت، كبعض الشخصيات في التاريخ الذين شوَّهوا التاريخ بدخولهم إليه لأنهم من الأغفال المغمورين وأرادوا أن يجعلوا أنفسهم من أولئك الأقيال البارزين فسرقوا بعض صفات العظماء الحقيقيين ولبسوها وظنوا أنها حريَّة بهم والحقيقة أنها ليست بمقاسهم وليسوا أهلاً بأن يتَّصفوا بها.
والعظماء في دنيا الإنسانية أصناف وأنواع يمكن أن نلحظها من خلال دراسة التاريخ والمجتمع منها:
أولاً: عظيم بنظر نفسه؛ وما أكثر هؤلاء المدَّعين الذين ما أن يشمُّوا تحت آباطهم -كما في المَثَل- حتى ينفشوا ريشهم ويدَّعون العظمة، وهذا ليس مستغرباً من البشر لأنهم؛ (كل منهم يُخفي ما أظهره فرعون)، وعندما تسنح له الفرصة أو تسمح له الظروف سيقول: (أنا ربكم الأعلى)، ولو كان على زوجته وأولاده، أو عشيرته وأقربائه.
ثانياً: عظيم بنظر شعبه وأمته؛ وهؤلاء هم الأبطال والفرسان الذين يضحُّون في سبيل نهضة شعوبهم وأممهم في كل زمان ومكان، فيُخلِّدهم ذلك الشعب بأن يصبحوا أيقونة يتذكرونها في كل حين، وهؤلاء كثيرون في كل أمة أو شعب، ولكن لا أحد من هذا الصنف بلغ ما بلغه الإمام الحسين (عليه السلام) الذي جعله شيعته ومحبوه وعشاقه أيقونة التاريخ ومأساته الخالدة ويحق لهم ذلك لأنه (لا يوم كيومك يا أبا عبد الله).
ثالثاً: عظيم في السماء؛ أو في الملكوت الأعلى، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر، ففي الرواية عن حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عَبْدِ اَللَّهِ الصادق (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِنَّهُ يُغْفَرُ لِلْجَاهِلِ سَبْعُونَ ذَنْباً قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لِلْعَالِمِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ، مَنْ تَعَلَّمَ وَعَلَّمَ وَعَمِلَ بِمَا عَلِمَ دُعِيَ فِي مَلَكُوتِ اَلسَّمَاوَاتِ عَظِيماً..) (تفسير القمی: ج۲ ص۱46)
فالعالم الذي يعمل بعلمه هذا إن استطاع أن يطبِّق علمه في أرض الواقع على نفسه وعلى مَنْ هم حوله فهو قد يكون مغموراً في هذه الدنيا، وخامل الذِّكر في أهله ومجتمعه، ولكنه في ملكوت السماء يكون عظيماً حقاً وربما هؤلاء هم الأولياء الذين أخفاهم الله في خلقه كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (إِنَّ اَللَّهَ أَخْفَى وَلِيَّهُ فِي عِبَادِهِ فَلاَ تَسْتَصْغِرُوا شَيْئاً مِنْ عِبَادِهِ فَرُبَّمَا كَانَ وَلِيَّهُ وَأَنْتَ لاَ تَعْلَمُ). (بحار الأنوار: ج۷۲ ص۱۵۵)
رابعاً: العظيم عند الله؛ وهذا الوسام الرَّاقي، والمكان السَّامي، والمكانة العالية لا أحد يعرفها إلا الله فيُخبر عنها، كما أخبر عن أخلاق رسوله الأكرم (صلى الله عليه وآله) حين قال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، فهذه العظمة لا يدركها أو يقدِّرها البشر ولذا تجد أن طغاة قريش وجباريها لم يتركوا تهمة إلا وقذفوا بها رسول الله إليهم، فهؤلاء الأشقياء لو أدركوا أو علموا عظمة هذا النبي لأخذوا التراب من تحت أقدام البُراق الذي ركبه، تبركاً كما فعل علماء بني إسرائيل حين أخذوا قبضة من أثر الرسول.
أو أن أقرب الخلق إلى الله يخبر عن عظمة مخلوق عند الله كالرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله) فإنه أكرم الخلق وأقربهم إلى الله فيمكن أن يُخبر بهذه العظمة وهو ما رواه المؤرخون على لسانه وذلك خاص في وصيه أمير المؤمنين وسيد الوصيين وقائد الغر المحجلين، أسد الله الغالب أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي فعل فعلاً لم يفعله جيش المسلمين كاملاً في يوم خيبر حيث قلع باب حصنها الحصين وكان قوياً وثقيلاً ومنيعاً ولكن لمَّا تترَّس من خلفه أعداء الله اليهود هزَّه مرَّات ثم جذبه فقلعه وحمله بيده ترساً يقاتل به ثم دحاه أذرعاً، أو وضعه على الخندق ليجتاز عليه جيش الفتح الإسلامي إلى داخل الحصن وذلك بعد أن قتل فارسهم وبطلهم المغوار مرحب وأخاه، وذلك بعد أن فرَّ الأصحاب مراراً وتكراراً حتى غضب رسول الله (ص)، وفي الرواية: (فَغَضِبَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْجِعُونَ مُنْهَزِمِينَ يُجَبِّنُونَ أَصْحَابَهُمْ أَمَا لَأُعْطِيَنَّ اَلرَّايَةَ غَداً رَجُلاً يُحِبُّ اَللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اَللَّهُ وَرَسُولُهُ كَرَّاراً غَيْرَ فَرَّارٍ لاَ يَرْجِعُ حَتَّى يَفْتَحَ اَللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ).
وَكَانَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) أَرْمَدَ اَلْعَيْنِ فَتَطَاوَلَ جَمِيعُ اَلْمُهَاجِرِينَ وَاَلْأَنْصَارِ وَقَالُوا: أَمَّا عَلِيٌّ فَإِنَّهُ لاَ يُبْصِرُ شَيْئاً لاَ سَهْلاً وَلاَ جَبَلاً.. فَلَمَّا كَانَ مِنَ اَلْغَدِ خَرَجَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنَ اَلْخَيْمَةِ وَاَلرَّايَةُ فِي يَدِهِ فَرَكَزَهَا وَقَالَ: أَيْنَ عَلِيٌّ؟ فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ هُوَ رَمِدٌ مَعْصُوبُ اَلْعَيْنَيْنِ، قَالَ: هَاتُوهُ إِلَيَّ؛ فَأُتِيَ بِهِ يُقَادُ فَفَتَحَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) عَيْنَيْهِ ثُمَّ تَفَلَ فِيهِمَا فَكَأَنَّمَا لَمْ تَرْمَدَا قَطُّ.. ثُمَّ قَالَ: (اَللَّهُمَّ أَذْهِبْ عَنْهُ اَلْحَرَّ وَاَلْبَرْدَ)، فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ: (مَا وَجَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ حَرّاً وَلاَ بَرْداً فِي صَيْفٍ وَلاَ شِتَاءٍ)، ثُمَّ دَفَعَ إِلَيْهِ اَلرَّايَةَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: سِرْ فِي اَلْمُسْلِمِينَ إِلَى بَابِ اَلْحِصْنِ وَاُدْعُهُمْ إِلَى إِحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ؛ إِمَّا أَنْ يَدْخُلُوا فِي اَلْإِسْلاَمِ، وَلَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَيْهِمْ وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ.. وَإِمَّا أَنْ يُذْعِنُوا بِالْجِزْيَةِ وَاَلصُّلْحِ وَلَهُمُ اَلذِّمَّةُ وَأَمْوَالُهُمْ لَهُمْ.. وَإِمَّا اَلْحَرْبُ فَإِنْ هُمُ اِخْتَارُوا اَلْحَرْبَ فَحَارِبْهُمْ).
فَأَخَذَهَا وَسَارَ بِهَا وَاَلْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ حَتَّى وَافَى بَابَ اَلْحِصْنِ فَاسْتَقْبَلَهُ حُمَاةُ اَلْيَهُودِ وَفِي أَوَّلِهِمْ مَرْحَبٌ يَهْدِرُ كَمَا يَهْدِرُ اَلْبَعِيرُ فَدَعَاهُمْ إِلَى اَلْإِسْلاَمِ فَأَبَوْا، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى اَلذِّمَّةِ فَأَبَوْا، فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) فَانْهَزَمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَدَخَلُوا اَلْحِصْنَ وَرَدُّوا بَابَهُ، وَكَانَ اَلْبَابُ حَجَراً مَنْقُوراً فِي صَخْرٍ وَاَلْبَابُ مِنَ اَلْحَجَرِ فِي ذَلِكَ اَلصَّخْرِ اَلْمَنْقُورِ كَأَنَّهُ حَجَرُ رَحًى وَفِي وَسَطِهِ ثَقْبٌ لَطِيفٌ فَرَمَى أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِقَوْسِهِ مِنْ يَدِهِ اَلْيُسْرَى وَجَعَلَ يَدَهُ اَلْيُسْرَى فِي ذَلِكَ اَلثَّقْبِ اَلَّذِي فِي وَسَطِ اَلْحَجَرِ دُونَ اَلْيُمْنَى لِأَنَّ اَلسَّيْفَ كَانَ فِي يَدِهِ اَلْيُمْنَى ثُمَّ جَذَبَهُ إِلَيْهِ فَانْهَارَ اَلصَّخْرُ اَلْمَنْقُورُ وَصَارَ اَلْبَابُ فِي يَدِهِ اَلْيُسْرَى، فَحَمَلَتْ عَلَيْهِ اَلْيَهُودُ فَجَعَلَ ذَلِكَ تُرْساً لَهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِمْ فَضَرَبَ مَرْحَباً فَقَتَلَهُ، وَاِنْهَزَمَ اَلْيَهُودُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ فَرَمَى عِنْدَ ذَلِكَ بِالْحَجَرِ بِيَدِهِ اَلْيُسْرَى إِلَى خَلْفِهِ فَمَرَّ اَلْحَجَرُ اَلَّذِي هُوَ اَلْبَابُ عَلَى رُءُوسِ اَلنَّاسِ مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ إِلَى أَنْ وَقَعَ فِي آخِرِ اَلْعَسْكَرِ.
وَقَالَ اَلْمُسْلِمُونَ: فَذَرَعْنَا (قسنا) اَلْمَسَافَةَ اَلَّتِي مَضَى فِيهَا اَلْبَابُ فَكَانَتْ أَرْبَعِينَ ذِرَاعاً، ثُمَّ اِجْتَمَعْنَا عَلَى ذَلِكَ اَلْبَابِ لِنَرْفَعَهُ مِنَ اَلْأَرْضِ وَكُنَّا أَرْبَعِينَ رَجُلاً حَتَّى تَهَيَّأَ لَنَا أَنْ نَرْفَعَهُ قَلِيلاً مِنَ اَلْأَرْضِ). (الخرائج والجرائح للراوندي: ج۱ ص۱۵۹ والبحار)
هذا العمل البطولي الذي قام به أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) وهو ما عجز عنه الأصحاب جميعاً كان يستأهل كل الأوصاف التي قيلت من رسول الله (ص) بحقه، لأن رسول الله لا ينطق عن الهوى من نفسه، والمحبة لابن عمِّه وصهره، بل كلامه حق، وميزان صدق، لا يحيف، ولا يحابي، ولا يداري في مثل هذا المواقف التي نكصت فيها الرجال وراحوا يلتمسون الأعذار لفرارهم وهروبهم من الزحف -وهي من الكبائر والموبقات السبعة- في وجه أعدى أعداء الله اليهود في خيبر مراراً وتكراراً حتى أغضبوا رسول الله (ص) من أفعالهم.
علي عظيم عند الله
وجميل ما رواه العلامة رجب اَلْبُرْسِيُّ فِي (مَشَارِقِ أنْوَارِ اليقين)، حيث قَالَ: لَمَّا جَاءَتْ صَفِيَّةُ (بنت حي بن أخطب زعيم اليهود حيث أسرها أمير المؤمنين يومها فساقوها إلى رسول الله (ص) فاصطفاها له وتزوجها فيما بعد) إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَكَانَتْ مِنْ أَحْسَنِ اَلنَّاسِ وَجْهاً فَرَأَى فِي وَجْهِهَا شَجَّةً، فَقَالَ: مَا هَذِهِ وَأَنْتِ اِبْنَةُ اَلْمُلُوكِ؟
فَقَالَتْ: إِنَّ عَلِيّاً (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) لَمَّا قَدِمَ إِلَى اَلْحِصْنِ هَزَّ اَلْبَابَ فَاهْتَزَّ اَلْحِصْنُ وَسَقَطَ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ اَلنَّظَّارَةِ وَاِرْتَجَفَ بِيَ اَلسَّرِيرُ فَسَقَطْتُ لِوَجْهِي فَشَجَّنِي جَانِبُ اَلسَّرِيرِ.
فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): يَا صَفِيَّةُ إِنَّ عَلِيّاً عَظِيمٌ عِنْدَ اَللَّهِ وَإِنَّهُ لَمَّا هَزَّ اَلْبَابَ اِهْتَزَّ اَلْحِصْنُ وَاِهْتَزَّتِ اَلسَّمَاوَاتُ اَلسَّبْعُ، وَاَلْأَرَضُونَ اَلسَّبْعُ، وَاِهْتَزَّ عَرْشُ اَلرَّحْمَنِ غَضَباً لِعَلِيٍّ).
وَفِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ لَمَّا سَأَلَهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ لَقَدِ اِقْتَلَعْتَ مَنِيعاً وَأَنْتَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ خَمِيصاً فَهَلْ قَلَعْتَهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ؟
فَقَالَ: مَا قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَلَكِنْ قَلَعْتُهَا بِقُوَّةٍ إِلَهِيَّةٍ وَنَفْسٍ بِلِقَاءِ رَبِّهَا مُطْمَئِنَّةٍ رَضِيَّةٍ.
وَفِي ذَلِكَ اَلْيَوْمِ لَمَّا شَطَرَ مَرْحَباً شَطْرَيْنِ وَأَلْقَاهُ مُجَدَّلاً جَاءَ جَبْرَئِيلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ مُتَعَجِّباً فَقَالَ لَهُ اَلنَّبِيُّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): مِمَّ تَعَجَّبْتَ؟
فَقَالَ: إِنَّ اَلْمَلاَئِكَةَ تُنَادِي فِي صَوَامِعِ جَوَامِعِ اَلسَّمَاوَاتِ: لاَ فَتَى إِلاَّ عَلِيٌّ لاَ سَيْفَ إِلاَّ ذُو اَلْفَقَارِ، وَأَمَّا إِعْجَابِي فَإِنِّي لَمَّا أُمِرْتُ أَنْ أُدَمِّرَ قَوْمَ لُوطٍ حَمَلْتُ مَدَائِنَهُمْ، وَهِيَ سَبْعُ مَدَائِنَ مِنَ اَلْأَرْضِ اَلسَّابِعَةِ اَلسُّفْلَى إِلَى اَلْأَرْضِ اَلسَّابِعَةِ اَلْعُلْيَا عَلَى رِيشَةٍ مِنْ جَنَاحِي وَرَفَعْتُهَا حَتَّى سَمِعَ حَمَلَةُ اَلْعَرْشِ صِيَاحَ دِيَكَتِهِمْ وَبُكَاءَ أَطْفَالِهِمْ وَوَقَفْتُ بِهَا إِلَى اَلصُّبْحِ أَنْتَظِرُ اَلْأَمْرَ وَلَمْ أُثْقَلْ بِهَا، وَاَلْيَوْمَ لَمَّا ضَرَبَ عَلِيٌّ ضَرْبَتَهُ اَلْهَاشِمِيَّةَ وَكَبَّرَ أُمِرْتُ أَنْ أَقْبِضَ فَاضِلَ سَيْفِهِ حَتَّى لاَ يَشُقَّ اَلْأَرْضَ، وَتَصِلَ إِلَى اَلثَّوْرِ اَلْحَامِلِ لَهَا فَيَشْطُرَهُ شَطْرَيْنِ فَتَنْقَلِبَ اَلْأَرْضُ بِأَهْلِهَا فَكَانَ فَاضِلُ سَيْفِهِ عَلَيَّ أَثْقَلَ مِنْ مَدَائِنِ لُوطٍ هَذَا وَإِسْرَافِيلُ وَمِيكَائِيلُ قَدْ قَبَضَا عَضُدَهُ فِي اَلْهَوَاءِ). (بحار الأنوار: ج۲۱ ص4۰)
هنا العظمة الحقيقية
هل يمكن الحديث عن العظمة في هذا المقام أيها الأحبة؟
هذا المقام لا يمكن تصوره منا نحن البشر لأن الله العلي العظيم هو الذي يُقدِّر العظمة في هذا الشخص الشاخص والمثال الراقي في الإنسانية، ويُخبر عنه رسوله الكريم، ويقول: بأنه عظيم عند الله، وأما نحن البشر فعلينا أن نعرف هذا العظيم، ونشكره على عظيم هذه النِّعمة التي مَنَّ الله بها على هذه الأمة بوجود مثل الإمام علي (عليه السلام) في صفوفها، وقادتها، وسادتها، لأن علي لا يتكرر لا في الزمان ولا في المكان، ولا في الواقع ولا حتى في الخيال والأوهام، لأن الله خلقه ليكون مقياساً يُحتذى، وميزاناً يوزن به البشر في كل عصر ومصر إلى يوم القيامة.
الإمام علي العظيم المظلوم
ولكن هل عرفت الأمة ورجال قريش خاصَّة هذه النِّعمة وقدَّروها وشكروا الله عليها، أم أنهم ظلموها وهدروها وجحدوها وكفروا بها حتى استبدلهم الله بأولئك الأشقياء من بني أمية، ثم صبيان النار من الأوزاغ الملعونين من بني الحكم بن أبي العاص الأموي طريد رسوله الله ولعين الله في كتابه، وعلى لسان رسوله الكريم في مواطن لا ينكرها مسلم؟
الجواب يأتينا برواية عالم آل محمد الإمام الثامن من أئمة المسلمين علي بن موسى الرضا (ع) بحديث من أحاديث السلسلة الذهبة له عن جده رسول الله حيث قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (يَا عَلِيُّ أَنْتَ اَلْمَظْلُومُ مِنْ بَعْدِي فَوَيْلٌ لِمَنْ ظَلَمَكَ وَاِعْتَدَى عَلَيْكَ وَطُوبَى لِمَنْ تَبِعَكَ وَلَمْ يَخْتَرْ عَلَيْكَ.. يَا عَلِيُّ أَنْتَ اَلْمُقَاتِلُ بَعْدِي فَوَيْلٌ لِمَنْ قَاتَلَكَ وَطُوبَى لِمَنْ قَاتَلَ مَعَكَ.. يَا عَلِيُّ أَنْتَ اَلَّذِي تَنْطِقُ بِكَلاَمِي وَتَتَكَلَّمُ بِلِسَانِي بَعْدِي فَوَيْلٌ لِمَنْ رَدَّ عَلَيْكَ وَطُوبَى لِمَنْ قَبِلَ كَلاَمَكَ.. يَا عَلِيُّ أَنْتَ سَيِّدُ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ بَعْدِي وَأَنْتَ إِمَامُهَا وَخَلِيفَتِي عَلَيْهَا مَنْ فَارَقَكَ فَارَقَنِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ وَمَنْ كَانَ مَعَكَ كَانَ مَعِي يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ.. يَا عَلِيُّ أَنْتَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ أَعَانَنِي عَلَى أَمْرِي وَجَاهَدَ مَعِي عَدُوِّي وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعِي وَاَلنَّاسُ يَوْمَئِذٍ فِي غَفْلَةِ اَلْجَهَالَةِ.. يَا عَلِيُّ أَنْتَ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ اَلْأَرْضُ مَعِي، وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ مَعِي، وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ يَجُوزُ اَلصِّرَاطَ مَعِي، وَإِنَّ رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ أَقْسَمَ بِعِزَّتِهِ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ عَقَبَةَ اَلصِّرَاطِ إِلاَّ مَنْ مَعَهُ بَرَاءَةٌ بِوَلاَيَتِكَ وَوَلاَيَةِ اَلْأَئِمَّةِ مِنْ وُلْدِكَ، وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ يَرِدُ حَوْضِي تَسْقِي مِنْهُ أَوْلِيَاءَكَ وَتَذُودُ عَنْهُ أَعْدَاءَكَ وَأَنْتَ صَاحِبِي إِذَا قُمْتَ اَلْمَقَامَ اَلْمَحْمُودَ وَنَشْفَعُ لِمُحِبِّينَا فَنُشَفَّعُ فِيهِمْ، وَأَنْتَ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ اَلْجَنَّةَ وَبِيَدِكَ لِوَائِي وَهُوَ لِوَاءُ اَلْحَمْدِ وَهُوَ سَبْعُونَ شِقَّةً اَلشِّقَّةُ مِنْهُ أَوْسَعُ مِنَ اَلشَّمْسِ وَاَلْقَمَرِ وَأَنْتَ صَاحِبُ شَجَرَةِ طُوبَى فِي اَلْجَنَّةِ أَصْلُهَا فِي دَارِكَ وَأَغْصَانُهَا فِي دُورِ شِيعَتِكَ وَ مُحِبِّيكَ). (بشارة المصطفی (ص): ج۱ ص۲۲۰)
نعم؛ هذا العظيم هو أعظم مظلوم رغم أنه أعظم شخصية وأعظم نعمة بعد رسول الله (ص) في هذه الأمة، والعجيب أنهم يروون ذلك عنه بحديث صحيح حيث رووا عَنْ عَلِيِّ بنِ أبِي طَالِبٍ (عليه السلام)، أنَّه قَالَ: (أنَا أوَّلُ مَن يَجْثُو بيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ لِلْخُصُومَةِ يَومَ القِيَامَةِ) (صحيح البخاري: ح 3965)
فبماذا يُخاصم هذا العظيم في ذلك اليوم العظيم أمام الله العلي العظيم؟
هنا السؤال يا أمة الإسلام، عليك أن تعرفي خصم علي بن أبي طالب في يوم القيامة والحساب حيث أنه أول قضية ترفع إلى تلك المحكمة العادلة هي قضيته، ولا شك ولا ريب أنها هي التي كان يقول ويبكي منها في حياته ومنها: (ما زلت مظلوماً منذ قَبض الله نبيه حتى يوم الناس هذا)، وقال (عليه السلام): (فوالله ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً عليَّ منذ قَبض الله نبيه (صلى الله عليه وآله) حتى يوم الناس هذا)، وقال (ع): (لقد ظُلمت عدد المدر والوبر!)، و(لقد ظلمت عدد الحجر والمدر)، وفي شرح نهج البلاغة عن المسيب بن نجبة: بينا علي يخطب إذ قام أعرابي فصاح: وا مظلمتاه! فاستدناه علي (عليه السلام)، فلما دنا قال له: إنما لك مظلمة واحدة، وأنا قد ظلمت عدد المدر والوبر)، وفي رواية عباد بن يعقوب: إنه دعاه فقال له: (ويحك، وأنا والله مظلوم أيضاً، هات فلندعُ على مَنْ ظلمنا).
وفي الخرائج والجرائح: إن أعرابياً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) وهو في المسجد، فقال: مظلوم! قال: (أُدنُ منِّي؛ فدنا، فقال: يا أمير المؤمنين مظلوم! قال: أُدنُ، فدنا حتى وضع يديه على ركبتيه، قال: ما ظلامتك؟ فشكا ظلامته.. فقال: (يا أعرابي أنا أعظم ظلامة منك؛ ظلمني المدر والوبر، ولم يبقَ بيت من العرب إلا وقد دخلت مظلمتي عليهم، وما زلت مظلوماً حتى قعدت مقعدي هذا).
وفي النوادر والغارات للثقفي عن عبد الرحمن بن أبي بكرة: سمعت علياً (عليه السلام) وهو يقول: (ما لقي أحد من الناس ما لقيت! ثم بكى)، وكذلك قال (عليه السلام): (لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رُعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي)، ولكن مَنْ هؤلاء الظالمين لك يا أمير المؤمنين؟
قال (عليه السلام): (اَللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَعْدِيكَ عَلَى قُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ قَطَعُوا رَحِمِي وَأَصْغَوْا إِنَائِي وَصَغَّرُوا عَظِيمَ مَنْزِلَتِي وَأَجْمَعُوا عَلَى مُنَازَعَتِي حَقّاً كُنْتُ أَوْلَى بِهِ مِنْهُمْ فَسَلَبُونِيهِ، ثُمَّ قَالُوا أَلاَ إِنَّ فِي اَلْحَقِّ أَنْ تَأْخُذَهُ وَفِي اَلْحَقِّ أَنْ تَمْنَعَهُ فَاصْبِرْ كَمَداً أَوْ مُتْ أَسَفاً وَحَنَقاً فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ مَعِي رَافِدٌ وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ نَاصِرٌ وَلاَ مُسَاعِدٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَنِيَّةِ فَأَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَتَجَرَّعْتُ رِيقِي عَلَى اَلشَّجَا وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ اَلْغَيْظِ عَلَى أَمَرَّ مِنَ اَلْعَلْقَمِ وَآلَمَ لِلْقَلْبِ مِنْ حَزِّ اَلشِّفَارِ..) (الغارات للثقفي: ج۱ ص۳۰۲)
والإمام علي (عليه السلام) قال شارحاً وموضحاً: (كل حقد حقدته قريش على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أظهرته فيَّ، وستظهره في ولدي من بعدي، مالي ولقريش! إنما وترتهم (قتلت كفارهم) بأمر الله وأمر رسوله، أ فهذا جزاء من أطاع الله ورسوله إن كانوا مسلمين؟! وعنه (عليه السلام) قال مبيِّناً: (اللهم إني أستعديك على قريش؛ فإنهم أضمروا لرسولك (صلى الله عليه وآله) ضروباً من الشر والغدر، فعجزوا عنها وحلت بينهم وبينها، فكانت الوجبة (السقطة مع الصوت) بي، والدائرة عليَّ).
فالعظيم عند الله ورسوله هو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) وهو أول مُخاصِم في محكمة العدل الإلهية في يوم القيامة، وخصمه والذين ظلموه هم رجال قريش وسلطتهم، فليعدوا العدة والجواب بين يدي جبار السماوات والأرض غداً وهناك يخسر المبطلون.
السلام عليك يا أعظم العظماء، وأول وأعظم المظلومين في هذه الأمة..
اضف تعليق