هو أول مولود هاشمي محض، أي لأب وأم هاشميين، وكانت ولادته في الكعبة المشرفة، سابقة في مكة المكرمة وقريش وسائر العرب، وبذا أراد الحق أن يميزه منذ ولادته، تنبيهاً به، وإعلاناً له، ثم نشأ في كنف الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، وتولاه برعايته وتربيته وتأديبه، فشرب صفاته وخلقه.
فلهذه المقدمات المتعلقة بالولادة والنشأة والرحم، قد تميزت صلته بالرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، حتى باتت اتحاداً مدمجاً، تجلت في جميع المدركات والجوانب السلوكية، في القول والعمل، يضاف إلى ذلك التقديس الإلهي لهذه الصلة، التي حفظت في الذكر الحكيم، خاصة في آية المباهلة، إذ أراد لهذه الشخصية الإسلامية، بنياناً ومثالاً، نموذجاً لزمانه ولكل زمان.
فالعلاقة الوشيجة والمتفردة بالرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، تعد من أوثق منابع التأسيس لشخصية الإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فكل ما ينطق به، وكل ما يرويه، إنما عن رسول الله بالثقة والعدالة المطلقة، وهذا هو العنوان المنطقي، لمعنى العصمة والإمامة والولاية.
وعليه فإن ولاية الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والاعتبار بمنهجه، واتباع أوامره ونواهيه، في خطابه وفكره وسلوكه، هي من مقتضيات سلامة تدين الفرد، في طاعة الخالق، والولاء للرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، كما أن هذا التكليف لا يتقيد بزمان ومكان، فهو مستند إلى مبررات وغايات وحكمة إلهية سامية، في مقدمتها المعيارية في السلوك الإنساني، والأداء الوظيفي، في جوانب الحياة كافة، كونها تجسد النموذج الحقيقي للإسلام ومناهجه.
وبالإجماع المطلق، فالإمام علي بن أبي طالب سيف الله والإسلام، الذي بجهده وجهاده، بعد حكمته ودرايته ورأيه، إلى جانب الرسول الأكرم وفي ظهيرته، قد قام الدين واستقام بنيانه، وذلك لجهة أنسنة الهدف والغاية من إستخدام القوة، في مدرسة الإمام، فهو لم يكن يقاتل عن حقد، أو رغبة في العنف، إذ كان رافضاً له في أصله، كونه قد أثبت في إتجاهاته السلوكية، أنه عنوان للعدالة الإنسانية، ومدرسة لنبذ العنف، حتى مع أعدائه، فهو يلتمس المبرر لعدوه، كي لا يضطر لقتاله، فيأخذ مخالفيه على ألف محمل، فهذه هي ثقافته في الإختلاف، التي سادت في الحضارات المعاصرة.
وفي جوانب المهارات الإستراتيجية أيضاً، قدراته في معرفة الأشخاص، وكفاءاتهم ومهاراتهم، وقد وضح ذلك بجلاء في تعامله مع الآخرين، في التمييز بينهم، وفي استيعاب شخصياتهم وميولهم وإتجاهاتهم، ولا يتخذ المعالجات في تعامله معهم، سواء في الخصومة أو الصحبة، وفق هواه وعواطفه، أو رغباته في النيل من الأخر، أو لمصلحة ذاتية، فكان مع كل منهم، متبع لسياسة متميزة عن سواه، وهو الذي قال: (قد عرفتهم صغارا وشهدتهم كبارا). وهذا يشخص قدراته المهارية في السياسة، إذ تعتمد في جل عنوانها، على القدرة في فهم الآخر، وإستيعاب ميوله ومزاجه ورغباته، لتكون التغذية المرتدة حاضرة، ضمن المرونة في التخطيط، لإتخاذ المسلك الأمثل في الوقت المناسب.
وهو (صلوات الله عليه) يدعو لمشروع إنساني قيمي، يقوم على مبادئ، قد بشر الدين بتعاليمها ومناهجها، تعبر عن العلاقة البينية بين الفرد والفرد، المختلف أو المؤتلف، وبين الفرد والجماعة، ثم بين العضو المجتمعي والدولة، ومن هنا كان (الآخر) في المدركات العقلية لأمير المؤمنين، هو أخ في الدين، ثم أخ في الإنسانية، ويذهب أبعد من ذلك، فهو يقبل بالعدو، ليعتبره رحماً له، ويعامله بالحسنى والعطف، والإعراض عن التشهير والإزدراء، وسلبه مكانته الإعتبارية، فضلاً عن التنزيه بالطمع بمكسب مادي، قد يسلبه من عدوه وخصمه، لأن في ذلك شكلاً من الغصب، لممتلكات الشريك بالآدمية أو الرحم.
ويثبت ذلك في علاقته بأعدائه من الخوارج، برغم خروجهم عليه، وإظهارهم المعارضة والعداء، حتى في مجلسه، فكان يجد الأعذار لهم، ويدفع باتجاه التسامح معهم، وعدم منعهم حاجاتهم المعيشية، من الماء والمؤنة والوظيفة العامة، فضلاً عن حريتهم في حضور الجمعة والجماعة، وأن لا يبدأهم بقتال، وقد أثبت تلك الحقوق لهم بعهد موثق، هي قمة الحكم الرشيد والتعامل السمح مع الرعية، في إطلاق حرياتهم بالممانعة والمعارضة والرأي المخالف، وهو ما يتماهى والشريعة الإسلامية، التي لا تجيز إقامة الحدود بالشبهات، وإن هذه المدرسة الحقوقية، تتوافق – اليوم -، بل تتفوق – في تفاصيلها - على مناهج الدول المتحضرة، والقضاء المتقدم فيها.
وفي علمه، يكفي ما قال بحقه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، بأنه (باب مدينة العلم). واصفاً ذاته الشريفة بمدينة العلم، وهو تأكيد من الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، أن الإمام هو الأعلم والأدرى بالعلم النبوي الشريف، الذي هو بدوره علم لدنّي من الذات الإلهية، فضلاً عن علومه المكتسبة في حقول المعرفة جميعاً، وفي أبرزها علمه في القضاء، حيث قال عنه الرسول الأعظم: (علي أقضاكم). ويقول بن عباس، حبر الأمة، تلميذ الإمام وابن عمه وحامل لوائه، (أعطي علي رضي الله عنه تسعة أعشار العلم، والله ولقد شارككم في العشر الباقي). وتقول عائشة عن علمه (ما رأيت رجلاً أحب إلى رسول الله منه، أما والله أنه أعلم الناس بالسنة).
فالإمام أمير المؤمنين في سلوكه وخلقه، وفكره وسيرته، نموذج قياسي للإسلام الحق، فيكون بهذا المعنى، هو المعيار والمقياس، الذي تقاس وفقه وتقيم الأحكام والأعمال، قرباً أو بعداً عن الإسلام، ديناً وعقيدة، فإليه ترد الأحكام وتعرض على سيرته وسلوكه وفكره، ليقيم الحكم في ضوئه، ومن هذه المقاربة، يفهم توصيفه بأنه (القرآن الناطق)، أو (هو الإسلام يمشي على الأرض)، إذ يقول الرسول الأكرم فيه، (علي قسيم النار والجنة)، و(لا يبغضه الاّ منافق، ولا يحبه إلا مؤمن).
إن مقاربة هذه القضية، ليست عاطفية مجردة، مصدرها الولاء والحب المطلق، ففي ذلك تبسيط لها، وسطحية في مقاربتها، والحال فيما يترتب على هذه المعيارية، من سلوك وعقيدة وسيرة، التي هي حقيقة الإسلام، والغاية والهدف من عنوانه، وهي مدارك حسية، لا تدرك في الملموس، كسائر العبادات مثل الصلاة والصوم وسواها، فكان لابد لها من نموذج معياري، عليه فإن هذه القضية، وإن كانت قد ارتبطت بالإمام في حياته، غير أنها تتعدى ذلك إلى خارج المحدود الزماني، وهكذا أرادها الرسول الأعظم، وبالإرادة الإلهية، لتكتمل مع النص القرآني المقدس.
وفي مقاربته لاشتراطات الدولة والحكم والبيعة، وفق المنهج والشريعة الإسلامية، فلا يكتفي بالمجموعة التي راجعته في داره، ليؤسس عليها بيعة، فيدخل الآخرين فيها قسراً أو طوعاً، فيقول: (إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلاّ من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر وكنت كارهاً لأمركم، فأبيتم إلاّ أن أكون عليكم، ألا وإنه ليس لي دونكم إلاّ مفاتيح ما لكم معي، وليس لي أن آخذ درهماً دونكم، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا آخذ على أحد".
فكانت السابقة الأولى في التاريخ الإسلامي، التي تجري فيها هذه الآلية، وفق السياق الشرعي الإسلامي، من خلال بيعة أهل الحل والعقد، ليكون النموذج لتجسيد السياق الشرعي الإسلامي، الذي يعتمد الإشتراطات الثلاث، وهي الجمعة، في شرط الزمان، والجامع، في شرط المكان والجماعة، في شرط الإجماع، ثم إستكمله الإمام في إمتناعه، عن تسمية وليّ للعهد، فيترك ذلك الأمر لأهل الحل والعقد.
ومن ذلك يفهم الفكر الإسلامي في تداول المال العام، فهو ليس ملكاً للحاكم يتصرف به كيف يشاء، وإنما يجري ذلك وفق المصلحة العامة، وفي تنمية بلاد المسلمين وإعمارها، وفي منح الحقوق لمن يستحقها من الناس كافة، بغض النظر عن مشاربهم ونحلهم، وهو مفهوم متقدم للمواطنة.
كما أن سياسته الإجتماعية، قد ضمنت شمول جميع الرعية بالحقوق في الحياة، دون تفريق عن لون أو عرق، أو موقف فكري أو سياسي، فقد شمل ذلك الحق حتى معارضيه والمختلفين معه، حيث أن الآخر المخالف، لا يسقط عنه موقفه الفكري والسياسي، حق المواطنة، وحق الأمن أو حق الحياة نفسها، التي تكفلها له دولة الإسلام، وفق عقيدتها وشرعها الإنساني.
إن المسلّم منه، إن جميع المسلمين ومعهم غير المسلمين، من شركاء الأوطان، هم معنيون في معيارية أمير المؤمنين، لدراستها وفهمها، وقد يكون الكثير ممن يحتاج لها، هم من الذين يدعون ولايتهم له، واتخاذهم له عنواناً وتعريفا بهم، فتكون مكاتبهم مجمّلة بلوحات مزخرفة، تحوي قصار أحاديث الإمام وتوجيهاته، والبعض منهم يحلو تسميته بالترابي، تمييزاً لانتمائه لأمير المؤمنين، غير أن الفهم السطحي لمعنى الولاء للإمام، دون الإقتداء بمناهجه وفكره ومبادئه، هو السبب في الأزمة السلوكية، التي يواجها المجتمع الإسلامي.
اضف تعليق