كم هي عظيمة المنَّة والفضل من الله على العرب بأن بعث فيهم رسولاً منهم، ومن أوسطهم، وأشرفهم، وأكرمهم، وأعظمهم، وأنزل عليه كتاباً بلغتهم العربية، وأمرهم بالتعلم والقراءة والكتابة في أوائل السُّور التي نزلت، وهم لا يعرفون القراء إلا لأشخاص معدودين في كل الجزيرة العربية والقرآن الحكيم رفعهم من...
في 27 رجب الأصب أربعين سنة من عام الفيل، أو 13 قبل الهجرة كان المبعث
مقدمة حضارية
في السابع والعشرين من شهر رجب الأصب نزل جبرائيل (ع) على جبل النور وغار حِراء حيث كان يجلس محمد بن عبد الله (ص) ويتعبَّد ويتحنَّف ومعه فتاه علي بن أبي طالب (ع) فقط وليس في الجزيرة العربية ولا غيرها أحد يفعل ذلك بتلك الطريقة من التأمل في خلق الله، والتفكر بعباد الله، والسَّعي لخلاص العباد من عبادة الجبت والطاغوت، بكل أشكالها وأنواعها وأصنافها من معبودات باطلة وأديان فاسدة بحيث يتخذ الناس بعضهم لبعض أرباباً من دون الله تعالى.
أو يعبدون الأصنام والأحجار التي يصنعونها بأيديهم وما هي إلا دلالة على تفاهة العقلية الجاهلية وحقارة أولئك الجهال الذين تركوا عبادة الله الواحد الأحد وهم يعيشون في مركز التوحيد ومحور العالم في مكة المكرمة التي جاء إليها بطل التوحيد إبراهيم الخليل وولده إسماعيل ليبنيا البيت العتيق ويؤذنان للناس بالحج إليه، فمحور الحج ومعناه بالتوحيد إلا أنهم حوَّلوا مركز التوحيد إلى مقلع للشرك وعبادة الأحجار والأشجار من سفاهتهم، وتفاهة أحلامهم، وسخافة عقولهم لا سيما أولئك الذين كانوا يصنعون لهم ربا من تمر ويأخذونه معهم حتى إذا جاعوا صلوا له ثم أكلوه.
ولذا هؤلاء ما كان لديهم ريح ولا روح ولا مفهوم للحضارة ولا حتى المدَنية، وكل ما كانوا يعرفونه هو الغزو فيما بينهم، واللهو، وارتكاب كل الجرائم، والقيام بكل الموبقات، وكأنه لا حساب ولا عقاب، ولا ميعاد لهم أبداً، فهم كالحيوانات السائمة تبحث عن تقمُّمها، أو المربوطة التي تكترش وتنتظر متى يأتيها الجزار ليذبحها ويأكل لحمها.
فالحضارة تحتاج إلى فكرة حضارية، وأرض تحمل الحضارة، وشعب يحمل تلك القيم الحضارية ويفعِّلها في واقعه لينتج تلك البذور الفكرية الحضارية التي يبحث عنها الإنسان المتقدم والمتطور في فكره وهمَّته وتطلعه إلى ذلك اليوم الذي تسود فيه الرؤى والأفكار التي يؤمن بها ويعمل لنشرها وترسيخها في الواقع الإنساني.
حالة العرب الجاهلية
ولكن الدارس لحياة العرب عامة ولقريش خاصة يعلم علم اليقين أنهم لم يكونوا في وارد بناء مدَنية، أو حضارة في الجزيرة العربية، لأنهم أمة جاهلة بكل معنى الكلمة، وتقوم حياتهم على الخوف والقتل وكل ما يعرفونه الجَمَل مالاً، والفرس مركوباً، والسيف سلاحاً، والحياة للأقوى، فكانوا يعيشون في حالة من الرُّعب والخوف المتبادل فمتى يأتيهم الغزو لا يعرفون، ونتائج الغزو: القتل أو الأسر للرجال، والنَّهب للأموال، والسَّلب للعيال.
وكانت العرب حياتها متنقلة لأنهم بدو رحَّل يبحثون عن المرعى لأنعامهم، ولأمن لأنفسهم وعيالهم، وكانوا شعارهم الخوف ودثارهم السيف، وكما يصفهم أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) وهو أعلم الناس بهم، وبحياتهم البائسة، حيث يصف العرب قُبيل البعثة النبوية الشريفة بقوله: (إِنَّ اَللَّهَ بَعَثَ مُحَمَّداً (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ، وَأَمِيناً عَلَى اَلتَّنْزِيلِ، وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ، وَفِي شَرِّ دَارٍ، مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ، وَحَيَّاتٍ صُمٍّ، تَشْرَبُونَ اَلْكَدِرَ، وَتَأْكُلُونَ اَلْجَشِبَ، وَتَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ، اَلْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ، وَاَلْآثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ). (نهج البلاغة: خ 26)
أو كانوا كما وصفت حالهم سيدة النساء فاطمة الزهراء (ع) في رائعتها الفدكية حيث تقول عن عظيم المنَّة عليهم ببعثة الرسول الأعظم (ص) فيهم: (وَكُنْتُمْ عَلىٰ شَفٰا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّٰارِ فَأَنْقَذَكُمْ، مُذْقَةَ اَلشَّارِبِ، وَنُهْزَةَ اَلطَّامِعِ، وَقُبْسَةَ اَلْعَجْلاَنِ، وَمُوَطَّأَ اَلْأَقْدَامِ، تَشْرَبُونَ اَلطَّرْقَ، وَتَقْتَاتُونَ اَلْقِدَّ، أَذِلَّةً خَاشِعِينَ، تَخٰافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ اَلنّٰاسُ مِنْ حَوْلِكُمْ، فَأَنْقَذَكُمُ اَللَّهُ بِرَسُولِهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ). (بلاغات النساء: ج۱ ص۲۳)
وجميل ما يقوله الإمام الراحل السيد محمد الشيرازي (قدس سره) عن المبعث الشريف: " كانت بعثة النبي (ص) بعد فترة من الرُّسل، وبعد ما أشرف الناس على الهلاك لكثرة الخرافات، وشدة الجاهلية، فقام النبي (ص) برسالته، ودعا العالم بأجمعه إلى التوحيد والإيمان بالله عز وجل، وترك عبادة الأصنام، والأوثان التي لا تضرُّ ولا تنفع، ودعى إلى الفضائل، ومكارم الأخلاق، ونهى عن الرذائل، وقباح الصفات، ودعا إلى السِّلم ونبذ العنف، ودعا إلى حب الآخرين، وقضاء حوائجهم، ودعا إلى الكرامة، والأخلاق بعدما فشى فيهم القتل، والسرقة، والزنا، وارتكاب الفواحش، وبعدما كانوا يأخذون الرِّبا ويشربون الخمر، ويطوفون بالبيت عراة رجالاً ونساءً". (من حياة الرسول (ص): ص 32)
تلك كانت حياتهم، وطريقتهم وعبادتهم (مكاء وتصدية)، أي الصفير، والتصفيق، والطواف بالبيت كما وصفهم السيد الراحل وكتب التاريخ، وكأنهم قد نزع الله منهم الحَياء، والغيرة، والشَّهامة، وصاروا كأصحاب الحضارة الرقمية اليوم، حيث أشاعوا كل المفاسد والفواحش باسم الحضارة، والعرب نشروا كل ذلك ولكن باسم الجاهلية الجهلاء.
المبعث بالقرآن الحكيم
ولذا كم هي عظيمة المنَّة والفضل من الله على العرب بأن بعث فيهم رسولاً منهم، ومن أوسطهم، وأشرفهم، وأكرمهم، وأعظمهم، وأنزل عليه كتاباً بلغتهم العربية، وأمرهم بالتعلم والقراءة والكتابة في أوائل السُّور التي نزلت، وهم لا يعرفون القراء إلا لأشخاص معدودين في كل الجزيرة العربية، فلما تعلموا القراءة والكتابة، والقرآن الحكيم رفعهم من أسفل سافلين إلى أعلى عليين حتى رب العالمين بشَّرهم بأن المتقين منهم سيكونوا في جوار قدسه؛ (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) (القمر: 55)
فأي عظمة تلك التي حازوها بمبعث القرآن الحكيم، وهو الذي نزل في غار حراء في 27 رجب الأصب، إلا أن رجال وسلطة قريش حاولوا أن يتناسوا، ويضيِّعوا عظمة هذا اليوم لأنه اليوم الذي أشعل الله فيه الأنوار، وبدأ انقشاع الجاهلية عنهم، فهو كالفجر الصادق في حياتهم، ولكنهم اعتادوا على عيش الكهوف والظلمات كالخفافيش التي لا تستطيع العيش إلا في الظلام، وأولئك حاولوا جهدهم وجهادهم بالعودة إلى ظلمات الجاهلية التي أنقذهم الله منها، لا سيما أبناء الشجرة الملعونة في القرآن، الذين حوَّلوا الدولة إلى ملك عضوض فعض الأمة الإسلامية إلى اليوم، والأمة إلى عبيد لهم كما حذَّرهم من قبل رسولهم الأكرم (ص)، لأنهم أذاقوا الأمة كأساً مصبَّرة من طغيانهم وظلمهم وجورهم، حيث قال (ص): (هَلَاكُ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى يَدَيْ أُغَيْلِمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ). (المستدرك على الصحيحين: الحاكم النيسابوري: ج4 ص526 وحَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ)
صناعة الأمة القرآنية
ففي يوم المبعث الشريف نزل القرآن الحكيم لصناعة أمة قرآنية، مقدمة لبناء حضارة إنسانية في المستقبل، وهذا ما كان ليتم إلا بوجود شخص الرسول الأعظم (ص) ذلك الإنسان الكامل في نفسه، وعقله، وقلبه، وشخصه، وكل كمال إنساني ممكن احتواه، ليكون هو الذي وصفه القرآن الحكيم في ثاني سورة نزلت: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)
فصاحب الخُلق العظيم كان خُلقه القرآن كما باعترافهم، وهو الذي ربَّاه الله تعالى على علم على عينه، وليس ذلك خاصاً بموسى بن عمران كما يظن بعض الجهلاء، فالرسول الأعظم أجدر بذلك، ورسول الله (ص) ليس كما يصفونه في رواياتهم، وأحاديثهم في يوم المبعث حيث يصورونه بتلك الصور التي هي أجدر بهم، من حيث الخوف، والرُّعب حتى تقول: أن الرعب وصل إلى فؤاده وكان يرتجف، وأنه كان متزلزل الشخصية، وغير واثق من نفسه ولا من مبعوث الله إليه، حتى أخذته السيدة خديجة إلى ورقة بن نوفل ذاك الشيخ المتنصِّر فطمأنه، ولكن لم يطمئن وراح لينتحر مراراً ويلقي نفسه من حالق أو شاهق، وغيرها من الأحاديث الواهية التي اخترعها الزبيريون ونشرها الزُّهري والدَّوسي، بأمر من الأمويين ليُشوِّهوا تلك الصورة الناصعة والراقية للرسول الأكرم (ص)، ومبعثه الشريف.
فالرسول الأعظم أرقى، وأنقى، وأعلى من أن يكون بتلك الصورة التي يروِّجها أولئك الأشقياء ليُظهروا رسول الإنسانية بأنه شاك بنفسه، أو غير متأكد من بعثته، ونزول رسول الوحي جبرائيل (ع) عليه بالقرآن الحكيم، فرسموا له تلك الصورة المنفِّرة منذ اليوم الأول لبعثته، وأما صورته الحقيقية فإننا نأخذها من أهل البيت الأطهار الأبرار (ع) وهم القرآن الناطق، وعِدل القرآن، والثقل الثاني الذي خلَّفه الرسول الأكرم (ص) في هذه الأمة، ليكونوا المفسرين والمؤولين لآيات الكتاب العزيز في واقع الأمة الإسلامية.
ولكن هذه الأمة التي تركت أهل البيت (ع) واتبعت السلطان والخليفة الحاكم وراحت تسبِّح بحمده، وترى الدِّين ما يقوله ويأمر به الحاكم حتى لو كان مثل معاوية بن هند الهنود، وصبيه ابن ميسون يزيد الشر، فتحولوا من عبادة الأصنام والأحجار إلى عبادة الحاكم والسلطان باسم الخليفة، للأسف الشديد، وراحوا يعملون لدفن الإسلام وإعادة الناس إلى الجاهلية التي أنقذهم الله منها بالقرآن الحكيم، والرسول الكريم (ص).
صورة الرسول الأعظم يوم المبعث
يروي الإمام علي الهادي (ع) فيقول: (أَمَّا تَسْلِيمُ اَلْجِبَالِ وَاَلصُّخُورِ وَاَلْأَحْجَارِ عَلَيْهِ فَإِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لَمَّا تَرَكَ اَلتِّجَارَةَ إِلَى اَلشَّامِ، وَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا رَزَقَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ اَلتِّجَارَاتِ، كَانَ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إِلَى حِرَاءَ يَصْعَدُهُ، وَيَنْظُرُ مِنْ قُلَلِهِ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اَللَّهِ، وَأَنْوَاعِ عَجَائِبِ رَحْمَتِهِ، وبَدَائِعِ حِكْمَتِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى أَكْنَافِ اَلسَّمَاءِ وَأَقْطَارِ اَلْأَرْضِ وَاَلْبِحَارِ، وَاَلْمَفَاوِزِ، وَاَلْفَيَافِي، فَيَعْتَبِرُ بِتِلْكَ اَلْآثَارِ، وَيَتَذَكَّرُ بِتِلْكَ اَلْآيَاتِ، وَيَعْبُدُ اَللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ.
فَلَمَّا اِسْتَكْمَلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَنَظَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى قَلْبِهِ فَوَجَدَهُ أَفْضَلَ اَلْقُلُوبِ وَأَجَلَّهَا، وَأَطْوَعَهَا وَأَخْشَعَهَا وَأَخْضَعَهَا، أَذِنَ لِأَبْوَابِ اَلسَّمَاءِ فَفُتِحَتْ، وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَذِنَ لِلْمَلاَئِكَةِ فَنَزَلُوا وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّحْمَةِ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَدُنْ سَاقِ اَلْعَرْشِ إِلَى رَأْسِ مُحَمَّدٍ وَغَمَرَتْهُ، وَنَظَرَ إِلَى جَبْرَئِيلَ اَلرُّوحِ اَلْأَمِينِ اَلْمُطَوَّقِ بِالنُّورِ، طَاوُسِ اَلْمَلاَئِكَةِ هَبَطَ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِضَبْعِهِ وَهَزَّهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اِقْرَأْ.
قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ `خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ)، إِلَى قَوْلِهِ: (مٰا لَمْ يَعْلَمْ)، ثُمَّ أَوْحَى [إِلَيْهِ] مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى اَلْعُلْوِ، وَنَزَلَ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنَ اَلْجَبَلِ وَقَدْ غَشِيَهُ مِنْ تَعْظِيمِ جَلاَلِ اَللَّهِ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ كَبِيرِ شَأْنِهِ مَا رَكِبَهُ بِهِ اَلْحُمَّى وَاَلنَّافِضُ.
يَقُولُ: وَقَدِ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ مَا يَخَافُهُ مِنْ تَكْذِيبِ قُرَيْشٍ فِي خَبَرِهِ، وَنِسْبَتِهِمْ إِيَّاهُ إِلَى اَلْجُنُونِ، وَأَنَّهُ يَعْتَرِيهِ شَيْطَانٌ وَكَانَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ أَعْقَلُ خَلِيقَةِ اَللَّهِ، وَأَكْرَمُ بَرَايَاهُ وَأَبْغَضُ اَلْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ اَلشَّيْطَانُ وَأَفْعَالُ اَلْمَجَانِينِ وَأَقْوَالُهُمْ.. فَأَرَادَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ وَيُشَجِّعَ قَلْبَهُ، فَأَنْطَقَ اَلْجِبَالَ وَاَلصُّخُورَ وَاَلْمَدَرَ، وَكُلَّمَا وَصَلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا نَادَاهُ: اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اَللَّهِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اَللَّهِ، أَبْشِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَضَّلَكَ وَجَمَّلَكَ وَزَيَّنَكَ وَأَكْرَمَكَ فَوْقَ اَلْخَلاَئِقِ أَجْمَعِينَ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَاَلْآخِرِينَ لاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُ قُرَيْشٍ: إِنَّكَ مَجْنُونٌ، وَعَنِ اَلدِّينِ مَفْتُونٌ، فَإِنَّ اَلْفَاضِلَ مَنْ فَضَّلَهُ اَللَّهُ رَبُّ اَلْعَالَمِينَ، وَاَلْكَرِيمَ مَنْ كَرَّمَهُ خَالِقُ اَلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَلاَ يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ مِنْ تَكْذِيبِ قُرَيْشٍ وَعُتَاةِ اَلْعَرَبِ لَكَ، فَسَوْفَ يُبَلِّغُكَ رَبُّكَ أَقْصَى مُنْتَهَى اَلْكَرَامَاتِ وَيَرْفَعُكَ إِلَى أَرْفَعِ اَلدَّرَجَاتِ). (التفسير العسكري (ع): ج۱ ص156)
هذه هي الصورة الراقية، والناصعة النقية لرسول الله (ص) في يوم المبعث الشريف، وهكذا نزل جبرائيل (ع) بكل التبجيل، والتعظيم، والإكرام، والتجليل، فالسماء والأرض احتفلت والشجر والحجر سلَّم عليه بالرسالة، وليس كما يصفونه بتلك الأوصاف المهزوزة للشخصية، وهي برجال قريش أجدر لا سيما أولئك الذين ما عرفوا معنى القوة والثبات والشجاعة.
مبعث القرآن لحياة الإنسان
فالدارس للقرآن الحكيم يجد أن الله سبحانه صنع رسوله الكريم صناعة خاصة، وأنزل عليه القرآن الصناعة الإنسان وهدايته، ولصناعة الأمة الحضارية، وهكذا فعل رسول الله (ص) حيث صنع من أولئك العرب أمة واحدة خلال عشر سنوات فقط وألَّف بينهم، وجعلهم إخواناً ففتحوا نصف الدنيا بأقل من نصف قرن وسيفتحون الدنيا في قابل الأيام.
فالقرآن الحكيم نزل من أجل الحياة ولكن بترجمة وتفسير وتأويل الرسول الأعظم (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) حيث يقول سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) (الأنفال: 24)
فمبعث الرسول الأكرم يحمل كل تلك المعاني الراقية للحياة الزاهية والسعادة التي يتطلع إليها الإنسان في حياته، فكانت البعثة ونزول القرآن الحكيم على الرسول الكريم إيذاناً ببدء حياة ملؤها الخير والعدل والقسط والإنصاف في حياة البشرية كلها.
اضف تعليق