هناك طائفة كثيرة من الأخبار قد أثرت عن الإمام الرضا، وهي تشيد بفضائل الإمام الجواد وتدلّل على عظيم مواهبه وملكاته. وأحيط الإمام منذ نعومة أظفاره بهالة من التكريم والتعظيم من قبل الأخيار والمتحرّجين في دينهم فقد اعتقدوا أنّه من أوصياء رسول الله الذي فرض الله مودّتهم على جميع المسلمين...
وملك الإمام محمد الجواد (عليه السلام) في سنه المبكر من الذكاء والعبقرية ما يثير الدهشة ويملك النفس إكباراً وإعجاباً وقد ذكر المؤرّخون بوادر كثيرة من ذكائه كان من بينها ما يلي:
1 ـ ما رواه أميّة بن علي قال: كنت مع أبي الحسن الرضا بمكة في السنة التي حجّ فيها مودّعاً البيت الحرام عندما أراد السفر إلى خراسان وكان معه ولده أبو جعفر الجواد، فودّع أبو الحسن البيت، وعدل إلى المقام فصلّى عنده، وكان أبو جعفر قد حمله أحد غلمان الإمام يطوف به وحينما انتهى إلى حجر إبراهيم جلس فيه وأطال الجلوس، فانبرى إليه موفق الخادم، وطلب منه القيام معه فأبى عليه، وهو حزين، قد بان عليه الجزع، فأسرع موفق إلى الإمام الرضا (عليه السلام) وأخبره بشأن ولده، فأسرع إليه، وطلب منه القيام فأجابه بنبرات مشفوعة بالبكاء والحسرات قائلاً:
(كيف أقوم؟ وقد ودّعت يا أبتي البيت وداعاً لا رجوع بعده..). وسرت موجة من الألم في نفس الإمام الرضا (عليه السلام) فالتمس منه القيام معه فأجابه إلى ذلك. (2)
ودلت هذه البادرة على مدى ذكائه، فقد أدرك من وداع أبيه للبيت الحرام أنه الوداع الأخير له، لأنّه رأى ما عليه من الوجل والأسى مما أوحى إليه أنّه النهاية الأخيرة من حياته، وفعلاً قد تحقق ذلك فإنّ الإمام الرضا (عليه السلام) بعد سفره إلى خراسان لم يعد إلى الديار المقدسة، وقضى شهيداً مسموماً على يد المأمون العباسي.
2 ـ ومن بوادر ذكائه ما حدّث به المؤرخون أن المأمون قد اجتاز في موكبه الرسمي في بعض شوارع بغداد على صبيان يلعبون، وكان الإمام الجواد واقفاً معهم فلما بصروا بموكب المأمون فرّوا خوفاً منه سوى الإمام الجواد فإنه بقي واقفاً فبهر منه المأمون، وكان لا يعرفه، فقال له:
(هلا فررت مع الصبيان...؟).
فأجابه الإمام بمنطقه الرائع الذي ملك به عواطف المأمون قائلاً:
(يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق فأوسعه لك، وليس لي جرم فأخشاك والظنّ بك حسن أنّك لا تضرّ من لا ذنب له..).
وعجب منه المأمون وسأله عن نسبه فأخبره به فترحّم على أبيه (3) وسنعرض لهذه الجهة في البحوث الآتية.
3 ـ ومن آياته نبوغه المذهل انّه في سنه المبكر قد سأله العلماء والفقهاء عن ثلاثين ألف مسألة فأجاب عنها.. ولا مجال لتعليل هذه الظاهرة إلاّ بالقول إنّ الله تعالى قد منح أئمة أهل البيت: طاقات مشرقة من العلم لم يمنحها إلاّ إلى أولي العزم من أنبيائه ورسله.
إشادة الإمام الرضا بالجواد:
وكان الإمام الرضا (عليه السلام) يشيد دوماً بولده الإمام الجواد، ويدلّل على فضله ومواهبه وقد بعث الفضل بن سهل إلى محمد بن أبي عباد كاتب الإمام الرضا (عليه السلام) يسأله عن مدى علاقة الإمام الرضا (عليه السلام) بولده الجواد (عليه السلام)، فأجابه: ما كان الرضا يذكر محمداً إلا بكنيته، يقول: كتب لي أبو جعفر، وكنت أكتب إلى أبي جعفر (عليه السلام) وكان آنذاك بالمدينة، وهو صبي، وكانت كتب أبي جعفر ترد إلى أبيه وهي في منتهى البلاغة والفصاحة (4).
وحدّث الرواة عن مدى تعظيم الإمام الرضا لولده الجواد، فقالوا: إنّ عباد بن إسماعيل، وابن أسباط كانا عند الإمام الرضا بمنى إذ جيء بأبي جعفر فقالا له:
(هذا المولود المبارك..؟).
فاستبشر الإمام وقال:
(نعم هذا المولود الذي لم يولد في الإسلام أعظم بركة منه..) (5).
وهناك طائفة كثيرة من الأخبار قد أثرت عن الإمام الرضا (عليه السلام)، وهي تشيد بفضائل الإمام الجواد (عليه السلام) وتدلّل على عظيم مواهبه وملكاته.
إكبار وتعظيم:
وأحيط الإمام الجواد منذ نعومة أظفاره بهالة من التكريم والتعظيم من قبل الأخيار والمتحرّجين في دينهم فقد اعتقدوا أنّه من أوصياء رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي فرض الله مودّتهم على جميع المسلمين، وقد ذكر الرواة أنّ علي بن جعفر الفقيه الكبير، وشقيق الإمام موسى بن جعفر، وأحد أعلام الأسرة العلوية في عصره، كان ممّن يقدّس الإمام الجواد (عليه السلام) ويعترف له بالفضل والإمامة، فقد روى محمد بن الحسن بن عمارة قال: كنت عند عليّ بن جعفر جالساً بالمدينة وكنت أقمت عنده سنتين أكتب ما سمع من أخيه ـ يعني الإمام أبا الحسن موسى ـ إذ دخل أبو جعفر محمد بن عليّ الرضا (عليه السلام) مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فوثب عليّ بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبّل يده وعظّمه، والتفت إليه الإمام الجواد قائلاً:
(اجلس يا عمّ رحمك الله..).
وانحنى عليّ بن جعفر بكل خضوع قائلاً:
(يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم..؟).
وانصرف الإمام الجواد (عليه السلام) ورجع عليّ بن جعفر إلى أصحابه فأقبلوا عليه يوبخونه على تعظيمه للإمام مع حداثة سنّه قائلين له:
أنت عمّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل..؟).
فأجابهم عليّ بن جعفر جواب المؤمن بربّه ودينه، والعارف بمنزلة الإمامة قائلاً:
(اسكتوا إذا كان الله ـ وقبض على لحيته ـ لم يؤهل هذه الشيبة ـ يعني الإمامة ـ وأهّل هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، نعوذ بالله ممّا تقولون. بل أنا عبد له..) (6).
ودلّل علي بن جعفر على أن الإمامة لا تخضع لمشيئة الإنسان وإرادته ولا تنالها يد الجعل الإنساني، وإنما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها من يشاء من عباده من دون فرق بين أن يكون الإمام صغيراً أو كبيراً.
انطباعات عن شخصيّته:
وملكت مواهب الإمام محمد الجواد (عليه السلام) عواطف العلماء فسجّلوا إعجابهم وإكبارهم له في مؤلّفاتهم، وفيما يلي بعض ما قالوه:
1 ـ الذهبي:
قال الذهبي: (كان محمد يلقّب بالجواد، وبالقانع، والمرتضى، وكان من سروات آل بيت النبي (صلى الله عليه وآله).. وكان أحد الموصوفين بالسخاء فلذلك لقّب بالجواد..) (7).
2 ـ ابن تيميّة:
قال ابن تيمية: (محمد بن علي الجواد كان من أعيان بني هاشم، وهو معروف بالسخاء، ولهذا سمّي بالجواد) (8).
3 ـ الصفدي:
قال الصفدي: (كان محمد يلقّب بالجواد، وبالقانع، وبالمرتضى، وكان من سروات آل بيت النبوة.. وكان من الموصوفين بالسخاء، ولذلك لقّب بالجواد..) (9).
4 ـ ابن الجوزي:
قال السبط بن الجوزي: (محمد الجواد كان على منهاج أبيه في العلم والتقى والجود) (10).
5 ـ محمود بن وهيب:
قال الشيخ محمود بن وهيب: (محمد الجواد هو الوارث لأبيه علماً وفضلاً وأجلّ اخوته قدراً وكمالاً..) (11).
6 ـ الزركلي:
قال خير الدين الزركلي: (محمد بن الرضي بن موسى الكاظم، الطالبي، الهاشمي، القرشي، أبو جعفر، الملقّب بالجواد، تاسع الأئمة الاثني عشر عند الإمامية كان رفيع القدر كأسلافه ذكياً، طليق اللسان، قويّ البديهة..) (12).
7 ـ كمال الدين:
قال الشيخ كمال الدين محمد بن طلحة: (أما مناقب أبي جعفر الجواد فما اتّسعت حلبات مجالها، ولا امتدّت أوقات آجالها بل قضت عليه الأقدار الإلهيّة بقلّة بقائه في الدنيا بحكمها وأسجالها فقلّ في الدنيا مقامه، وعجّل القدوم عليه كزيارة حمامه فلم تطل بها مدّته ولا امتدّت فيها أيامه) (13).
8 ـ عليّ بن عيسى الأربلي:
وأدلى علي بن عيسى الأربلي بكلمات أعرب فيها عن عميق إيمانه وولائه للإمام الجواد قال: (الجواد في كلّ أحواله جواد، وفيه يصدق قول اللغوي جواد من الجودة.. فاق الناس بطهارة العنصر، وزكاء الميلاد، وافترع قلّة العلاء فما قاربه أحد ولا كاد مجده، عالي المراتب، ومكانته الرفيعة تسمو على الكواكب، ومنصبه يشرف على المناصب، إذا أنس الوفد ناراً قالوا: ليتها ناره، لا نار غالب له إلى المعالي سمو، وإلى الشرف رواح وغدو، وفي السيادة إغراق وعلوّ وعلى هام السماك ارتفاع وعلوّ، وعن كلّ رذيلة بعد، وإلى كلّ فضيلة دنو، تتأرج المكارم من أعطافه ويقطر المجد من أطرافه، وترى أخبار السماح عنه، وعن أبنائه وأسلافه، فطوبى لمن سعى في ولائه، والويل لمن رغب في خلافه، إذا اقتسمت غنائم المجد والمعالي كان له صفاياها، وإذا امتطيت غوارب السؤدد كان له أعلاها وأسماها، يباري الغيث جوداً وعطية، ويجاري الليث نجدة وحمية، ويبذ السير سيرة رضية (14).
هذه بعض الكلمات التي أدلى بها كبار المؤلّفين، وهي تمثّل إعجابهم بمواهب الإمام وعبقرياته وما اتّصف به من النزعات الشريفة التي تحكي صفات آبائه الذين رفعوا مشعل الهداية في الأرض.
اضف تعليق