إذا أردنا أن نبني مسيرا لحياتنا باتجاه التقدم والنهضة، لابد من اتبّاع الخرائط العقلية العظيمة التي وضعها أمير المؤمنين (ع)، في كلماته من أجل أن تدخل تلك الحضارة الإنسانية الإسلامية الكبيرة في حياتنا على أن نتَّبعها عمليا، بأن نقرأ هذه الكلمات ونذهب نحوها ومعها من أجل تغيير واقعنا...
كل كلمة للإمام علي (عليه السلام) هي منهج للحياة، ومنهج الاستنقاذ من التخلف والفقر والظلم، ومنهج للحياة السعيدة، والنهضة الشاملة، فإذا أردنا أن نبني مسيرا لحياتنا باتجاه التقدم والنهضة، لابد من اتبّاع الخرائط العقلية العظيمة التي وضعها أمير المؤمنين (عليه السلام)، في كلماته من أجل أن تدخل تلك الحضارة الإنسانية الإسلامية الكبيرة في حياتنا على أن نتَّبعها عمليا، بأن نقرأ هذه الكلمات ونذهب نحوها ومعها من أجل تغيير واقعنا.
يقول الله سبحانه وتعالى في الآية القرآنية: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم) الأعراف 157. أي يزيل القيود التي تكبل الإنسان، فالأغلال هي القيود الخارجية، لكن تحرر الإنسان وذهابه نحو الحرية يبدأ من داخل نفسه أولا، فيتخلص من تلك الآصار النفسية كي يستطيع أن يتحرر من السجن الخارجي، وغالبا ما يحدث السجن الخارجي نتيجة لضعف الإنسان النفسي والفكري واستسلامه، ثم تنازله عن حقه الأساس في الحياة.
النهضة تبدأ بالإنقاذ النفسي
يبدأ بناء الإنسان بالتغيير الذاتي والإنقاذ النفسي أولا، ومن ثم تُفتح الأبواب والمساحات نحو النهضة، حيث يتحرر الإنسان من تلك القيود، ويتجه نحو مساحات مفتوحة له لبناء تراكمي تقدمي متجدد يعتمد على أسس متماسكة، ودور الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هو الإنقاذ ووضع الآصار والأغلال، وفتح المساحات الشاسعة للبشرية من أجل تغيير نفسها.
فعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: ((بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً رَسُولَ اللَّهِ (ص)... فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَأَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ الْجَهَالَةِ)، وهذا الكلام شبيه بما ورد في زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)، (فأعذر في الدعاء، ومنح النصح وبذل مهجته فيك، ليستنقذ عبادك من الجهالة، وحيرة الضلالة)، فدور الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) هو إخراج الناس من الضلالة التي تنتج من الأمراض النفسية، ومن ثم يفتح لهم الأبواب نحو العلم الصحيح والسليم، الضلالة في مقابل الهداية والجهل في مقابل العلم.
فالبداية هي عملية الاستنقاذ التي قام بها الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) من أجل إنقاذ البشرية، ثم يقوم الإنقاذ بفتح الطريق نحو حرية الإنسان، ونحو مساحات التفكر والتعقّل عنده، حتى يستطيع أن يمارس شخصيته وسلوكه وإنسانيته في الحياة، فالأئمة (عليهم السلام) هدفهم أن تُبنى شخصية الإنسان من خلال إدراكه واستخدام عقله، والعقل يتكامل مع توجيهات الأئمة (عليهم السلام).
وعن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ امْرَأً عَقْلًا إِلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْماً مَا)، فالاستنقاذ يأتي من خلال العقل، والأئمة (عليهم السلام) يفتحون أبواب العقل، ويبدأ الاستنقاذ الجماعي من الاستنقاذ الفردي، ويتحول إلى ثقافة عامة تنتشر بين الناس.
تمكين الإنسان من حرية الاختيار
ما نلاحظه الآن في مجتمعاتنا ومجتمعات أخرى، أن هناك حجبا تمنع الإنسان من التفكّر والتعقّل، فالإنسان يعيش حالة من التضليل الذاتي والغيْري في حياته، بعيدا عن الوصول إلى التفكير الصحيح والسليم.
لذلك فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام)، يفتحون الطريق لنا من أجل استخدام عقلنا لاستنقاذنا من تلك الآصار والأغلال التي انغمسنا فيها بقوة.
وفي حديث شريف آخر يستكمل هذا الكلام، نلاحظ أن عملية النهضة عند الإمام (عليه السلام) تكاملية، يقول عن نفسه (عليه السلام): (إِنَّمَا مَثَلِي بَيْنَكُمْ كَمَثَلِ السِّرَاجِ فِي الظُّلْمَةِ يَسْتَضِيءُ بِهِ مَنْ وَلَجَهَا فَاسْمَعُوا أَيُّهَا النَّاسُ وَعُوا وَأَحْضِرُوا آذَانَ قُلُوبِكُمْ تَفْهَمُوا)، فالإمام علي (عليه السلام) هو النور المضيء في الطريق، الدليل المرشد للإنسان حتى يصل إلى أن يكون حرّا في طريق الاسترشاد.
إن وجود الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، تمكين للإنسان من حرية الاختيار، دون قسر او إكراه على سلوك هذا الطريق أو ذاك كما يفعل الطواغيت، وهذا هو الفرق بين الطواغيت وبين الأئمة والرسل، فطريقهم هو تمكين الإنسان في أن يختار بنفسه وإزاحة الحجب عن العقل الإنساني، حتى يستطيع أن يسترشد ويذهب في الطريق نحو الأهداف الصحيحة. (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ...) البقرة 256.
يقول الإمام (عليه السلام): (فيستضيء به من ولجها)، أي يسترشد به من يدخل في الطريق وبعضهم لا يدخل، مع أن هذا الطريق هو الذي يوصل الإنسان إلى الواقع الصحيح، إذا كنت تريد أن تختار واقعا صحيحا وليس واقعا بديلا مزيفا أو كاذبا أو مضللا كما تصنعه اليوم بعض وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، فالدخول في واقع صحيح يعتمد على الصدق بشكل كامل هو عبر (يستضيء به من ولجها)، ولكن كيف يدخل الإنسان؟، لابد من وجود مفاتيح وليس مغاليق، تفتح بابا تصل من خلاله إلى الواقع المطلوب.
القلب وعاء للخير والشر
ما هي شروط الدخول في هذا الطريق، يجيب الإمام (عليه السلام) في قوله (فاسمعوا أيها الناس) اسمعوا سمعا حقيقيا، لأن بعض الناس عندما تنصحه نصيحة حقيقية لا يسمع منك، ويقول لك نحن لا نريد مثاليات، أو يسمع بهذه الأذن ويخرج الكلام من أذنه الثانية دون أي تأثير، فيغلق سمعه، أو لا يستمع بعمق ودقة. (وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) نوح 7.
ان الجدال هو نتيجة لعدم السماع الجيد للآخر، فكل شخص يتكلم ويقول ما يريد قوله، لكنه لا يسمع ولا يقرأ للآخرين كما يحدث في شبكات التواصل الاجتماعي، وهذه مشكلة موجودة عند الإنسان حيث يريد من الآخرين أن يسمعوه ولا يسمعهم هو، (وأحضروا آذان قلوبكم)، أي أجبر نفسك بقوة كي تسمع وتعي وتفهم.
القلب يمتلئ بالخير أو بالشر من خلال الحواس الموجودة عند الإنسان، هناك كثير من الناس يستمعون لأشياء غير جيدة، كالكذب والبهتان والتهمة والنميمة والغيبة، ولأشكال كثيرة من المحرمات، فيمتلئ قلبه بتلك الآثار السلبية، ويصبح أسود.
نلاحظ في كلمات الإمام علي (عليه السلام) قوة المعنى وعمق التعبير، فكيف يكون للقلب أذن؟، القلب يمتلئ بما تستمع، حيث قد يكون للإنسان قلب سليم من خلال الأشياء التي يسمعها، فكلما يسمع أشياء جيدة يصبح قلبه ممتلئا بالنور، لذا لابد أن يجبر الإنسان نفسه على الاستماع الجيد (ويحضر آذان قلوبكم) حتى (تفهموا).
أي أنك سوف تفهم كل شيء كما هو وليس ملتبسا، أو مغلَّفا بأشياء أخرى، أو مزيّفا ومزوَّقا، وإنما سوف تفهم الحقيقة، فيعطيك الإمام علي (عليه السلام) طريقا تفهم الحياة من خلاله، فأغلب الناس لا يفهمون الحقائق، أو أنهم يصدقون بالأشياء المضلّلة أو المزيفة، يصدقون كل شيء ولا يحكّمون وعيهم وإدراكهم، ولا يبحثون عن الحقيقة.
العلاقة بين القلب والعقل
الإنسان الذي لا يستمع بشكل جيد، فقلبه أيضا لا يستمع بشكل جيد لعقله، أما العقل فهو ثابت ولا يتغير، لكن لماذا لا يصل الإنسان إلى عقله، لأن قلبه امتلأ بالسلبيات والسيئات، لكن عندما يمتلئ قلب الإنسان بالإيجابيات فإن عقله سوف يتواصل مع قلبه ويرشده ويدله على الطريق الصحيح.
أما كيف يتواصل عقله مع قلبه؟، فيتم ذلك بحسن الاستماع، الذي يؤدي إلى الوعي والإدراك، فيمتلئ قلبه بالمشاعر الطيبة، والعاطفة الجيدة، والتفاعل الإيجابي مع الحياة، ويستطيع الإنسان أن يفهم ويدرك الصحيح في حياته، وكما جاء في الحديث الأسبق (مَا اسْتَوْدَعَ اللَّهُ امْرَأً عَقْلًا إِلَّا اسْتَنْقَذَهُ بِهِ يَوْماً مَا).
عندما ينهار الإنسان وينكشف أمام نفسه ويعرف بأنه وصل إلى طريق مسدود، فيطلب الغوث، وتبدأ ظلمات وسيئات قلبه تنزاح وتتضاءل، فينفتح قلبه على عقله فيستنقذه عقله في يوم ما، لكن بعض الناس لا يؤمنون أو لا يعترفون بأن عقلهم سوف ينقذهم في يوم ما، بسبب التكبر والتبلّد وقسوة القلب، التي تؤدي بالإنسان إلى انغلاق تام بين قلبه وعقله. (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ، أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) محمد 23-24.
فنصل إلى هذه النقطة الأساسية حول معنى كلمة (تفهموا)، حيث أن كل الأشياء التي تساعد الإنسان على التغيير تبدأ من الإنسان نفسه.
لماذا لايفهم الانسان؟
الشيء الأساس الذي نحتاج إلى فهمه، أن الإنسان الشيطاني تتلوث غرائزه، فتستحكم الغرائز وينبذ عقله، وهذه الحالة هي من اختيار الإنسان، ولا يُقبل من الإنسان قوله أن الخطاب لم يصلني، فكل إنسان له قدرة على التفكير، ومعرفة الصحيح من الخطأ، فالمشكلة أن هذا النوع من الناس هو الذي يريد أن يعيش الحياة الفانية، فيواجه الآخرين باللامبالاة ويعيش الملذات والمتع.
هذا الانحراف الفكري الكبير الذي يحصل عند الإنسان، يجعله (لا يفهم)، بأن كل ما يعيش فيه من انحراف وملذات شيء خاطئ، وأن جميع هذه الملذات والمتع وهمية، ثم عندما ينغمس في هذا العالم يستسلم وينهار، ويبقى يعيش ذليلا في حياته التي خلقها التراكم المستمر لهذا العالم المتخلف، وهو لا يفكر بالتغيير، ويستسلم للتخلف لأنه يعتقد أن التغيير لا يبدأ من نفسه، في حين أن كل تغيير يبدأ من داخل الإنسان نفسه وبإرادته، حتى يتحول إلى حالة جماعية، ومن حالة جماعية إلى حالة اجتماعية.
صلاح الولاة باستقامة الرعية
في حديث عن الإمام علي (عليه السلام)، وهو من الأحاديث التي تتطلب تأمّلا متعمقا في نظام الحكم والعلاقة بين الشعب والحكومة، حيث يقول (عليه السلام): (فَلَيْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِيَّةُ إِلَّا بِصَلَاحِ الْوُلَاةِ وَلَا تَصْلُحُ الْوُلَاةُ إِلَّا بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِيَّةِ).
هذا الحديث يؤكد بالنتيجة على أن الحاكم الظالم هو نتيجة لإهمال المجتمع الذي قرّر أن يتخلى عن استقامته الأخلاقية والفطرية، واتجه نحو العيش الفوضوي، فالاستقامة في مقابل الفوضى والعشوائية والارتجالية في الحياة التي تفتقد للمبادئ وإنما تقوم على الانغماس في المصالح الفئوية والذاتية.
التورط المشترك بين الحاكم والرعية
المشكلة التي نعيشها في مجتمعاتنا اليوم تكمن في أن الرعية تسبّ وتشتم الحكام دائما، ولكنها تتخلى عن مسؤولياتها، ولو أن الإنسان غيّر نفسه وطورها وتصدى لمسؤولياته باستقامة لكان هذا أفضل من أن يشتم الحكام فقط، فمجموع الاستقامات التي تُصنَع في المجتمع سوف تؤدي بالنتيجة إلى إجبار الحكام على الأداء الصحيح.
الحاكم بدوره يتلاعب بالناس، ويستغل أخلاقيات وسلوكيات الناس الموجودة في المجتمع، فحين يرى أن الناس تذهب وراء الطمع، فإنه يغذي هذا السلوك المؤذي والمُضعف للمجتمع، وهكذا يحدث نوع من التورط المشترك بين الحاكم والرعية، فالجميع يتورط في منظومة فاسدة، لذلك فإن صلاح الوالي يبدأ من صلاح الرعية، واستقامة الرعية تؤدي إلى صلاح الحاكم.
لا يمكن أن يأتي حاكم فاسد إذا كانت الرعية مستقيمة، مع صدق الناس وأخلاقهم إلى تحمّل المسؤولية، (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ...) آل عمران 110، الصلاح والتقدم الاجتماعي والنهضة الشاملة تأتي من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن وقوف الناس بوجه الحاكم الظالم والفاسد، هذا هو التغيير الأساس في الإنسان، والذي يبدأ من ذاته أولا.
ما الذي يميّز منهج الإمام علي (عليه السلام)؟
ما الذي يميّز منهج الإمام علي (عليه السلام) عن المناهج الأخرى، سوف نوضح مجموعة نقاط تعطينا الرؤية الشاملة عن تميّز منهجه (عليه السلام)، فقد لاحظنا المدّعين اليوم وانكشف زيفهم، كل الذين يدّعون التقدم الحداثة وما بعد الحداثة، والتقدم التكنولوجي انكشف زيفهم، وهم يعيشون اليوم أزمة معقدة جدا، وقلق وجودي كبير، وفراغ معنوي هائل، وهذا يدل على أن مناهجهم قد فشلت.
هناك نجاح مادي بسيط تمكنوا من تحقيقه، ولكن الشيء الذي جعلهم اليوم متماسكين، هو النظام أو السيستم الذي صنعوه، وأصبحوا يعيشون في إطار هذا النظام، ولا يستطيعون الخروج منه، ولنفترض أن هذا النظام قد انهار في يوم ما، ماذا سيحصل؟، النتيجة هي الفوضى، لأنه لا يمكن أن تفرض نظاما بالقوة والقسر والإكراه، فالنتيجة هي الانفلات وحدوث الفوضى.
لابد أن يكون النظام قائما على الوعي، والالتزام الإنساني، وهم التزموا بجزء بسيط من القدرة على النجاة، وهناك بعض القوانين والقواعد التي التزموا بها جيدة، مثلا الديمقراطية بشكلها النسبي البسيط، أو الالتزام بالقانون بشكل نسبي بسيط أيضا، ولكن يفتقدون إلى أشياء كثيرة من حيث البناء المعنوي للإنسان.
أولوية البناء المعنوي
لا يمكن أن يُصنع المجتمع المتقدم والمنظّم والقانوني، دون وجود بناء معنوي للإنسان، فإذا كان الناس فارغون معنويا، فإن البشرية سوف تصل إلى أزمة هائلة جدا، وهي أزمة القلق الوجودي التي تحدّثوا عنها هم كما حدث في جائحة كورونا، فهذه القضايا تحتاج إلى مراجعة وتأمّل، طبعا هم (اصحاب المناهج الأخرى) تخلّوا عن الأديان لدواعٍ كثيرة لا مجال للخوض فيها، فقد خلقوا مناهج حاولوا أن يضعوا فيها معنويات لكنهم فشلوا، لم يستطيعوا أن يصنعوا معنويات كبديل عن المعنويات التي تقدمها بعض الأديان.
لذلك فإن منهج الإمام علي (عليه السلام) منهج متكامل، وهناك نقاط عديدة تميّز منهج الإمام علي (عليه السلام) هي:
أولا: منهجه قائم على المبادئ
إن منهجه قائم على المبادئ الممتدة إلى الأبد، أي لا يتخلى عن المبادئ مطلقا، وليس هناك شيء أكثر من المبادئ لأنها هي الهدف المطلوب، فلا يمكن القول (إن الغاية تبرر الوسيلة)، وقد كان أحد الشباب يناقشني فيقول، حبذا لو أن الإمام تفاهم مع هؤلاء الموجودين آنذاك، وأعطاهم السلطة والمال، فيستخدم منهج (الغاية تبرر الوسيلة) كي يصل إلى السلطة، ثم بعد ذلك يغيّر منهجه، لكن لا يمكن التغيير.
آنذاك قال أحدهم للإمام علي (عليه السلام) ناصحا له في إبقاء حكم معاوية: فاكتب إليهم بإثباتهم على أعمالهم، فإذا بايعوا لك، واطمأن أمرك، عزلت من أحببت، وأقررت من أحببت.. فقال (عليه السلام) مقولته الشهيرة: (لا اُداهن في ديني ولا اُعطي الدنيّة في أمري).
فرسالة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) تختلف عن سلوكيات الحكام الطغاة، لأن رسالتهم هي أن يفتحوا الأبواب للبشرية كي تعيش حياة نزيهة طاهرة، لذلك لا يداهنون ولا يستخدمون الوسائل السيئة من أجل غاياتهم، وإذا تم استخدام الوسائل السيئة من أجل الغايات فإن الأخيرة سوف تسقط وتنتهي ولا تبقى هناك غايات، لأن الوسيلة لابد أن تكون منسجمة مع الغاية.
لا نصر في الظلم
وقد اعترضوا على الإمام علي (عليه السلام) لما ساوى بين الناس في العطاء، حيث لم يقدم الأبيض على الأسود، ولا العربي على الأعجمي، فلم تكن عنده طبقية مع فئات المجتمع، والجميع عنده سواسية، فهذا الأسلوب في العدالة والمساواة أثار الذين يعتبرون أنفسهم متفوقين.
ومن كلام للإمام علي (عليه السلام) لما عوتب على التسوية في العطاء قال: (أَ تَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ...)، أي يستخدم عملية جذب الرؤوس والأقوياء والرؤساء بالمال والعطاء، حتى يستطيع أن يستحكم ويحكم ويسيطر على كل البلاد، مثلا يمكن أن تتعامل لفترة مع معاوية وأعوانه، ثم أزلهم وغيِّرهم، للقبض على السلطة والتسلط على الناس، لكن الإمام علي (عليه السلام) لم تكن السلطة غايته.
الإمام علي (عليه السلام) كان يطلب الخير للبشرية، ويطلب المبادئ والحقائق، ومبدأ (الوسيلة تبرر الغاية) فيها جور وظلم، أي استخدام الظلم لتحقيق العدل، فهل يُعقل ذلك، أن تكون عادلا بالظلم!!، هذا ما يسمى بجمع النقيضين.
ظلم العدالة البعضية
هذا الأسلوب هو ما يفعله الناس اليوم، مثال ذلك هناك بعض الدول العظمى تريد أن تحقق الديمقراطية وحقوق الإنسان بالقوة والإكراه، ومن خلال الظلم والحروب، ولكن لا يمكن أن يتحقق هذا الشيء، الظلم يبقى ظلما مهما كان الهدف ساميا، فالعدالة البعضية ليست عدالة وإنما هي ظلم لأن العدالة عملية تكاملية شاملة.
ثانيأ: منهجه إنساني قائم على المساواة وعدم التمييز
يقول الإمام (عليه السلام): (الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لَا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ ولَا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ)، وهذا ما يُسمى بالبناء الاجتماعي الراسخ، وهذا هو المجتمع الحقيقي حيث تتكامل الحقوق، فالمجتمع الذي يوجد فيه نوع من التمايز بين الطبقات، فهو مجتمع هشّ وغير مستقر، وغير سلمي وفيه جريمة ولصوصية وفساد، فيه حاكم يعطي امتيازات للبعض ويجعل البعض الآخر خادما لأصحاب هذه الامتيازات، أي إقطاعيات.
الإقطاعي هو شخص يعطيه الحاكم أو الملك أراضٍ كثيرة، ثم يجلب عددا من الناس يعملون في هذه الأراضي ويصبحون عبيدا للمالك، هذا هو نظام الإقطاع ويسمى بحكم اللصوص حسب المصطلح الذي يستخدم اليوم في علم الاقتصاد وعلم السياسة وهو (كليبتوقراطية) أي حكم اللصوص، لأنه يعطي امتيازات لطبقة، ويسلب الحقوق من طبقة أخرى لكي يكونوا عبيدا لهؤلاء، يتم ذلك عبر الانتخابات أو عن طريق منح الرواتب وتوزيع الامتيازات، لذلك يصبح بعض الناس عبيدا خوفا على نفسه، ويستحكم الفساد المالي والإداري والسياسي والاجتماعي الذي يؤدي إلى تفكك المجتمع وتناثره فلا يبقى حجر على حجر.
التكامل الحقوقي الشامل
يبدأ منهج النهضة للإمام علي (عليه السلام) من هذه القضايا لضمان التكامل الحقوقي الاجتماعي الشامل.
ولابد أولا أن يكون الحاكم مثاليا، ونموذجا في تطبيق المساواة والعدالة، يقول الإمام الباقر (عليه السلام) في وصفه للإمام علي (عليه السلام): (والله، إن كان علي (عليه السلام) ليأكل أكل العبد، ويجلس جلسة العبد، وإن كان ليشتري القميصين السنبلانيين فيخير غلامه خيرهما، ثم يلبس الآخر...)، وهذا هو الحاكم الذي يصدقه الناس ويخلده التاريخ.
لذلك فإن الإمام علي (عليه السلام) هو نموذج ناصع لتلك العظمة الإلهية الكبيرة، والوجود الإلهي الناصع، لقد جعل الله سبحانه وتعالى الإمام علي (عليه السلام) وجودا ناصعا كنموذج حي وباقٍ إلى أبد الدهر، لذلك فإن الإنسان الذي يستطيع أن يقدم هذا النموذج يمكنه أن يغيّر الناس، وختاما فإن الإمام علي بطل في قوة مناهجه.
اضف تعليق