علينا أن نوصل فكر المبعث الشريف، ونور القرآن، وندعو العالم إلى المنظومة القيمية الحضارية التي جاءت من عند الله وجسَّدها على أرض الواقع الرسول الأعظم في هذه الحياة، ومن بعده أهل البيت الأطهار لا سيما الإمام علي الذي اعتبروه في هيئة الأمم المتحدة أعدل حاكم عرفته البشرية عبر التاريخ...
في 27 رجب المرجَّب كان المبعث الشريف ونزول أوَّل القرآن الحكيم
مقدمة نورانية
الحديث عن النور في هذه الدنيا هو حديث واحد ومستغرق لأن النور واحد وبسيط، يكشف الأشياء فتُعرف به، ولكن هو خفي بنفسه ويصعب على كل الأشياء تعريفه إلا بنفسه، لأنه من أشكل المشكلات توضيح الواضحات، والنور من أوضح ما في الوجود.
ولذا عندما أراد الباري تعالى أن يُعرِّفنا النور ضرب لنا مثلاً لنعرفه من خلال هذا المَثَل فقال: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (النور: 35)
هذا المَثل النوراني مؤلف من شقين؛ نور نازل من السماء إلى الأرض هو (القرآن الصامت)، ونور منبعث منه في الأرض وهي العترة الطاهرة، (القرآن الناطق)، فهما منبع الخيرات والبركات في هذه الحياة، وهما متكاملان ولا يمكن أن ينفصلا ولا بأي شكل من الشكال، وتضييع أو ترك أي منهما سيُؤدي إلى ضياع الآخر حتماً.
وهذا المَثَل لم تفهمه هذه الأمة، ولن تفهمه لأنها تُعاند الحق الواضح الصريح، الذي جاء على لسان رسولها الكريم (ص) فيما يُسمَّى بحديث الثقلين المتواتر، كحديثُ زَيد بن ثابتٍ قال (ص): (إني تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهل بيتي؛ فإنَّهما لن يفترقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ).
وحديث زَيد بن أرقمَ عنه (ص): (إنِّي تاركٌ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي - أحدُهما أعظمُ من الآخَر -: كتاب الله، حبْلٌ ممدودٌ من السَّماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ولن يتفرَّقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ، فانظروا كيف تَخلُفوني فيهما).
وحديثُ جابرِ بن عبد الله الأنصاري عنه (ص): (يا أيُّها الناس، إني تركتُ فيكم ما إنْ أخذتُم به لن تضلُّوا: كتاب الله، وعِترتي أهْلَ بَيتي).
وحديث أبي سعيدٍ الخُدريِّ عنه (ص): (إنِّي قد تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به، لن تضلُّوا بعدي: الثَّقلَينِ - أحدهما أكبرُ مِن الآخَر - كتاب الله، حبْلٌ ممدود من السَّماء إلى الأرض، وعِترتي أهل بيتي، ألَا وإنهما لن يَفترِقَا حتى يرِدَا عليَّ الحوضَ).
فهذا الحديث يُوحِّد بين الثقلين في هذه الدنيا، ويجعل مسيرتهما واحدة فالقرآن نصٌّ مكتوب صامت كدستور سماوي، والعترة الطاهرة مفسر ومؤوِّل لهذا النص، فهم قرآن ناطق، جعلهم الله خزان علمه وحكمته، وعيبة كتابه وأحكامه، ولا أحد يستطيع أن يدَّعي من هذه الأمة أو من غيرها، أن عنده أو لديه علم القرآن الحكيم تفسيراً وتأويلاً إلا أهل البيت (ع).
ولكن المشكلة في هذه الأمة اكتفت بالقرآن الصامت، وأخذت بحروفه وراحت تتأوَّله كما تشاء لها الأهواء، وذلك منذ أن قال رجل قريش الناطق باسمها في رزية يوم الخميس: (إن نبيَّكم يهجر حسبنا كتاب الله)، فحسبهم كتاب الله وهم لا يُحسنون حرفاً منه فكيف يتم ذلك يا عقلاء الدنيا؟
يوم المبعث الشريف
هو اليوم الذي بدأت فيه الرسالة الخاصة لرسول الله (ص) والتي استغرقت من ثلاث إلى خمس سنوات من عمره المبارك، وفيه نزل ملاك الوحي جبرائيل (ع) عليه وهو في غار حراء في أعلى جبل حراء (غار النور في جبل النور)، ولم يكن معه إلا ابن عمه وأخيه علي بن ابي طالب (ع) وكان فتى في العاشرة من عمره، ونأخذها من معدنها الذهبي، ونبعها الصافي، ولا نلتفت إلى تلك الروايات الكدرة التي يرويها القوم ولا نفهم منها إلا الطعن في شخصية النبي الأعظم (ص)، والانتقاص منه والعياذ بالله.
قَالَ الإمام العاشر عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الهادي (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): (إِنَّ رَسُولَ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) لَمَّا تَرَكَ اَلتِّجَارَةَ إِلَى اَلشَّامِ، وَتَصَدَّقَ بِكُلِّ مَا رَزَقَهُ اَللَّهُ تَعَالَى مِنْ تِلْكَ اَلتِّجَارَاتِ، كَانَ يَغْدُو كُلَّ يَوْمٍ إِلَى حِرَاءَ يَصْعَدُهُ، وَيَنْظُرُ مِنْ قُلَلِهِ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اَللَّهِ، وَأَنْوَاعِ عَجَائِبِ رَحْمَتِهِ، وَبَدَائِعِ حِكْمَتِهِ، وَيَنْظُرُ إِلَى أَكْنَافِ اَلسَّمَاءِ، وَأَقْطَارِ اَلْأَرْضِ، وَاَلْبِحَارِ، وَاَلْمَفَاوِزِ، وَاَلْفَيَافِي، فَيَعْتَبِرُ بِتِلْكَ اَلْآثَارِ، وَيَتَذَكَّرُ بِتِلْكَ اَلْآيَاتِ، وَيَعْبُدُ اَللَّهَ حَقَّ عِبَادَتِهِ.
فَلَمَّا اِسْتَكْمَلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً، نَظَرَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى قَلْبِهِ فَوَجَدَهُ أَفْضَلَ اَلْقُلُوبِ، وَأَجَلَّهَا، وَأَطْوَعَهَا، وَأَخْشَعَهَا، وَأَخْضَعَهَا، أَذِنَ لِأَبْوَابِ اَلسَّمَاءِ فَفُتِحَتْ، وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَأَذِنَ لِلْمَلاَئِكَةِ فَنَزَلُوا، وَمُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَأَمَرَ بِالرَّحْمَةِ فَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ مِنْ لَدُنْ سَاقِ اَلْعَرْشِ إِلَى رَأْسِ مُحَمَّدٍ وَغَمَرَتْهُ، وَنَظَرَ إِلَى جَبْرَئِيلَ اَلرُّوحِ اَلْأَمِينِ اَلْمُطَوَّقِ بِالنُّورِ، طَاوُسِ اَلْمَلاَئِكَةِ هَبَطَ إِلَيْهِ، وَأَخَذَ بِضَبْعِهِ وَهَزَّهُ وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اِقْرَأْ.
قَالَ: وَمَا أَقْرَأُ؟ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ؛ (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ `خَلَقَ اَلْإِنْسٰانَ مِنْ عَلَقٍ) إِلَى قَوْلِهِ: (مٰا لَمْ يَعْلَمْ)، ثُمَّ أَوْحَى مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى اَلْعُلْوِ، وَنَزَلَ مُحَمَّدٌ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) مِنَ اَلْجَبَلِ وَقَدْ غَشِيَهُ مِنْ تَعْظِيمِ جَلاَلِ اَللَّهِ، وَوَرَدَ عَلَيْهِ مِنْ كَبِيرِ شَأْنِهِ مَا رَكِبَهُ بِهِ اَلْحُمَّى وَاَلنَّافِضُ.
يَقُولُ وَقَدِ اِشْتَدَّ عَلَيْهِ مَا يَخَافُهُ مِنْ تَكْذِيبِ قُرَيْشٍ فِي خَبَرِهِ، وَنِسْبَتِهِمْ إِيَّاهُ إِلَى اَلْجُنُونِ، [وَ أَنَّهُ] يَعْتَرِيهِ شَيْطَانٌ، وَكَانَ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ أَعْقَلُ خَلِيقَةِ اَللَّهِ، وَأَكْرَمُ بَرَايَاهُ، وَأَبْغَضُ اَلْأَشْيَاءِ إِلَيْهِ اَلشَّيْطَانُ، وَأَفْعَالُ اَلْمَجَانِينِ، وَأَقْوَالُهُمْ.. فَأَرَادَ اَللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَشْرَحَ صَدْرَهُ وَيُشَجِّعَ قَلْبَهُ، فَأَنْطَقَ اَلْجِبَالَ وَاَلصُّخُورَ وَاَلْمَدَرَ، وَكُلَّمَا وَصَلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا نَادَاهُ: [اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ] اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا وَلِيَّ اَللَّهِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا حَبِيبَ اَللَّهِ، أَبْشِرْ فَإِنَّ اَللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ فَضَّلَكَ، وَجَمَّلَكَ، وَزَيَّنَكَ، وَأَكْرَمَكَ فَوْقَ اَلْخَلاَئِقِ أَجْمَعِينَ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ، وَاَلْآخِرِينَ لاَ يَحْزُنْكَ قَوْلُ قُرَيْشٍ: إِنَّكَ مَجْنُونٌ، وَعَنِ اَلدِّينِ مَفْتُونٌ، فَإِنَّ اَلْفَاضِلَ مَنْ فَضَّلَهُ [اَللَّهُ] رَبُّ اَلْعَالَمِينَ، وَاَلْكَرِيمَ مَنْ كَرَّمَهُ خَالِقُ اَلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، فَلاَ يَضِيقَنَّ صَدْرُكَ مِنْ تَكْذِيبِ قُرَيْشٍ وَعُتَاةِ اَلْعَرَبِ لَكَ، فَسَوْفَ يُبَلِّغُكَ رَبُّكَ أَقْصَى مُنْتَهَى اَلْكَرَامَاتِ وَيَرْفَعُكَ إِلَى أَرْفَعِ اَلدَّرَجَاتِ).
هكذا كان المبعث الشريف ونأخذ تفاصيله ممَّن حضر ذلك الوقت والحين لنعرف حقيقة الأمر جليَّة وواضحة منه، وهو أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (ع) كما يُحدِّثنا في خطبته القاصعة الرائعة: (وَلَقَدْ قَرَنَ اَللَّهُ بِهِ (صلى الله عليه وآله) مِنْ لَدُنْ أَنْ كَانَ فَطِيماً أَعْظَمَ مَلَكٍ مِنْ مَلاَئِكَتِهِ يَسْلُكُ بِهِ طَرِيقَ اَلْمَكَارِمِ وَمَحَاسِنَ أَخْلاَقِ اَلْعَالَمِ لَيْلَهُ وَنَهَارَهُ وَلَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اِتِّبَاعَ اَلْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلاَقِهِ عَلَماً وَيَأْمُرُنِي بِالاِقْتِدَاءِ بِهِ، وَلَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ فَأَرَاهُ وَلاَ يَرَاهُ غَيْرِي وَلَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي اَلْإِسْلاَمِ غَيْرَ رَسُولِ اَللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَخَدِيجَةَ وَأَنَا ثَالِثُهُمَا أَرَى نُورَ اَلْوَحْيِ وَاَلرِّسَالَةِ وَأَشُمُّ رِيحَ اَلنُّبُوَّةِ.. وَلَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ اَلشَّيْطَانِ حِينَ نَزَلَ اَلْوَحْيُ عَلَيْهِ صلى الله عليه و آله فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ مَا هَذِهِ اَلرَّنَّةُ فَقَالَ هَذَا اَلشَّيْطَانُ قَدْ أَيِسَ مِنْ عِبَادَتِهِ إِنَّكَ تَسْمَعُ مَا أَسْمَعُ وَتَرَى مَا أَرَى إِلاَّ أَنَّكَ لَسْتَ بِنَبِيٍّ وَلَكِنَّكَ لَوَزِيرٌ وَإِنَّكَ لَعَلَى خَيْرٍ).
هكذا نزل سيدنا جبرائيل (ع) بكل احترام وتقدير مكللاً بالنور، والهيبة، والجمال إلى رسول الله (ص)، وليس كما يُصوِّرونه من حيث الخشونة والغلظة وأنه (غطَّه، أو غتَّه) ثلاث مرات وفي كل مرة يكاد أن يموت، وهو يقول له إقرأ، فيجيب الحبيب: ما أنا بقارئ، إلى أن يقول له: (إقرأ باسم ربك..)، ثم ينزل متزلزل قلبه، ويرتجف فؤاده، ويذهب إلى السيدة خديجة فتطمئنه وتأخذه إلى ابن عمِّها النصراني فيؤكد له أنه هذا النَّاموس الذي كان ينزل على موسى، ولماذا النصراني ينسب الناموس إلى موسى وليس عيسى (ع) وكلها من الاسرائيليات التي ابتلينا بها وتريد أن تطعن بالقرآن الحكيم، والرسول الكريم (ص) لإظهاره بتلك الصورة التي يُؤكدها رجال قريش من أنه متزلزل الشخصية ولذا أراد أن ينتحر مراراً من شاهق، وأن السيدة خديجة هي كانت أثبت منه وأربط جاشاً وأقوى قلباً.
أبداً رسول الله (ص) كان في غاية القوة والثبات، لأنه قد نزلت عليه السَّكينة لأول مرة في ذلك اليوم، ولم ينزل عليه ما يصفون من الأوهام القرشية أبداً، نعم كان يعظُم عليه أقوال قريش بحقِّه، ووصفهم له بما جاء فيما بعد حقيقة من الجنون، والسِّحر، والشعر وغيرها.
والعجيب أنك تراهم إلى اليوم يُنكرون يوم المبعث أصلاً ويقولون: أنه يوم الإسراء والمعراج لأنهم يعتقدون نزول القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان المبارك وهي ليلة 27 منه، فضاعوا وضيَّعوا الأمة في تلك المتاهات التي لم ولن تخرج منها إلا برحمة من الله تأتيهم في آخر الأيام بإذن الله تعالى على يدي آخر الثقلين المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).
نزول النور القرآني
في ذلك اليوم الأغر وهو عيد من أعياد الله حيث نزل أول النور القرآني، وبدأت خيوط فجره تُنير الأفق العالمي بقوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1 – 5)
فأوَّل خيوط الفجر الإنساني يجب أن تكون من القراءة باسم الرب سبحانه وتعالى، لأن الإنسان مخلوق لأجل ربه وعبادته وطاعته، وليس لأجل الدنيا والشيطان وغيره، فنزول آيات القرآن في ذلك اليوم وبهذه البداية الحضارية تُعطينا المنطلق الحضاري لحياة الإنسان السليمة والصحيحة في هذه الدنيا، فكل شيء يبدأ باسم الله، وينطلق في الحياة باسم الرب سبحانه، لأنه هو المربِّي، والمؤدِّب، والمراعي لشؤون البشر وتدبيرهم بما يحب ويرضى.
انبِعَاثُ القِيَمِ الحَضَارِيَّة
وبنزول القرآن الحكيم كدستور خالد للحياة تكون قد انبعثت مجموعة القيم الحضارية التي تضبط الحياة البشرية في كل تفاصيلها، من قبل الولادة، وعالم الأرحام، وحتى عالم الموت ومن ثم البرزخ وما بعده من العوالم..
فالحضارة لا يمكن أن تقوم إلا على منظومة قيمية إنسانية وحضورها الفاعل في جميع نواحي الحياة البشرية، وتلك المنظومة التي تسعى إلى كتابتها وإيجاها البشرية اليوم بما يُسمى منظمات الأمم المتحدة وكل ما يلحق بها، وقد صرفت ملايين الصفحات في الكتابة والتعديل والاضافة والاختصار وكلها تحتاج إلى تفسير والتفسير يحتاج إلى تفسير أيضاً وقد أجملها بما لا مزيد رب العالمين في هذه الصحيفة النورانية (القرآن الحكيم) منذ ذلك اليوم المبارك في حياة البشر، إلا أنهم تركوا دين الله ورسالته وراحوا يبحثون عن دستور يليق بهم فلم يستطيعوا لذلك من سبيل، ولن يستطيعوا لأنهم بشر وهم مركَّبون على النَّقص والضَّعف فكيف يريدون أن يكتبوا بما يشمل البشرية كلها ولبناء حضاريتها الراقية؟
وجميل ما يقوله الإمام الشيرازي الراحل (رحمة الله عليه) في مقدمة كتابه الراقي (فقه العولمة): " إن الله تعالى شرّع الإسلام وضمّنه كل ما يحتاج إليه الانسان من اقتصاد وسياسة، واجتماع، وعولمة وغيرها، وجعله يمتاز على غيره من الأديان والمبادئ بامتيازات كثيرة، وإن من أهم تلك المميزات هو؛ الاهتمام بالإنسان وجعله المحور في هذا الكون، حيث سخَّر له كل ما فيه، وخاطبه بالأحكام والتكاليف، وراعى فيه جانبيه الذين أودعهما تعالى فيه؛ جانب الروح، وجانب الجسم، أو جانب المعنى، وجانب المادة.
بينما الغرب ليس كذلك، فإنه ـ عادة ـ ينظر إلى الأشياء كلها من الجانب المادي فقط كما إنه لا يهتم بالإنسان كمحور في هذا الكون، ولذلك جاءت عولمته التي طرح فكرتها وحاول تطبيق نظريتها في العالم خالية من المعنويات، ومن الاهتمام بالإنسان، وإنما تتمحور عولمته حول الاقتصاد والماديات، وترى التنمية والنمو الاقتصادي للبعض فقط هو كل شيء حتى وإن كان ذلك على حساب سعادة الإنسان بل وحياته أيضاً، فكانت عولمته ناقصة، فيها النمو والازدهار الاقتصادي في الجملة للبعض على حساب الآخرين، وليس فيها العدل والأخلاق في الجانب الإنساني.
وعلى أثر ذلك نتج الفقر والحرمان، والجهل والمرض، والحرب والدمار، فملايين الجائعين، وملايين المرضى، وملايين الأميين، وملايين المعوّقين، وملايين المشرّدين والمهجّرين، وما إلى ذلك من المآسي والويلات المترتبة على مادية الغرب ومادية عولمته.
بينما عولمة الإسلام الناظرة إلى الجانب الروحي والمادي معاً، والمراعية للمعنويات أيضاً، والمهتمة بالإنسان كمحور أساسي، جاءت كاملة شاملة تجمع بين النمو والازدهار الاقتصادي، وبين العدل والأخلاق في الجانب الإنساني، فهي وحدها الصالحة لإصلاح العالم ولإسعاد العالمين، لأنها تجمع بين النمو والازدهار، والعدل والأخلاق".
وتلك هي من بركات المنظومة القيمية الحضارية للدِّين الإسلامي العظيم، وأما العولمة والحضارة الرقمية فإنها كارثة بكل ما في الكلمة من معنى، فما عشناه من بداية هذا القرن الحضاري وحتى اليوم نرى كرة النار تكبر وتتدحرج، وفهل تُشعل الحرب الأكرانية حرباً عالمية نووية تدمر الجميع بعد أن دمَّروا بلادنا بالحرب التقليدية الأيام ستُجيب؟
فالمبعث الشريف على العالم أن تحتفل فيه، لأنه بداية نزول النور القرآني والدستور السماوي الخالد، وانطلاق وانبعاث منظومة القيم الحضارية الإنسانية العامة والشاملة لكل البشر في كل زمان ومكان والتي تقوم على العدل في الحكم، والقسط في المجتمعات، والتساوي في الحقوق والواجبات، فالجميع سواء في الإنسانية، والفضل والتمايز بالتقوى وليس بالأقوى كما هو قانون الغاب السائر في الحضارة الرقمية المعاصرة.
فعلينا أن نوصل فكر المبعث الشريف، ونور القرآن الحكيم، وندعو العالم إلى المنظومة القيمية الحضارية التي جاءت من عند الله سبحانه وتعالى وجسَّدها على أرض الواقع الرسول الأعظم (ص) في هذه الحياة، ومن بعده أهل البيت الأطهار (ع) لا سيما الإمام علي (ع) الذي اعتبروه في هيئة الأمم المتحدة أعدل حاكم عرفته البشرية عبر التاريخ.
اضف تعليق