قال عبد الله بن عباس: دخلت على امير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلت لا قيمة لها، فقال عليه السلام: والله لهي أحب الي من امرتكم، الا ان أقيم حقا، او ادفع باطلا.
يتقلد أصحاب الحظوظ الوافرة التيجان، ويقيموا عروشهم على ممالك وبلدان، ثم بعد غمضة عين، وتداول السنوات، يتقلد اخرون غيرهم تلك التيجان ويرثون عروش وممالك وبلدان، ويسجل التاريخ أرقاما من سنوات، ويتبعها الاخرون بحوادث ووقائع، كلها تقريبا تئن بالشكوى والمواجع للملايين من الناس، تحت وطأة ما كابدوه في حياتهم نتيجة أوامر ورغبات أصحاب التيجان والعروش.
ومصدر ذلك الانين المتواصل، تسمعه اذاننا حتى الان، رغم اختلاف الأزمنة والامكنة، ورغم اختلاف التسميات لتلك العروش والتيجان، وانتقالها الى تسميات من قبيل حكام ورؤساء وامراء وملوك وسلاطين، ورغم اختفاء التيجان بوجودها المادي الا قليلا، أقول مصدر ذلك الانين، هو الظلم والتعسف الذي يرزح تحته المظلومون نتيجة سياسات الحاكمين واهوائهم وشهواتهم، مع ما يقوم به المحيطون بأولئك الحاكمين، وهم طبقة المتملقين، والمصفقين، والمبتذلين، وكل أصناف من انحطت بهم الحيوانية في دركها الأسفل.
لا يتفق التاريخ في تدوينه لسير أصحاب التيجان والعروش، الا في موارد قليلة تنصب في معظمها على فتوحات عسكرية، او اوابد عمرانية كانت شاخصة ثم اندثرت تحت الرمال، او قوانين لم تحقق العدل للجميع.
وهي تتفق أيضا في ملمح اخر عند التدوين لتلك السير، وهو حجم الصراعات والنزاعات التي سادت علاقة التيجان والعروش المتنافسة، وهو صراع ونزاع كان ينهج أسلوبا ميكافيليا ينزع الى قوانين الغاب الشرسة، واقصاها البقاء حتى على جثث ورؤوس ودماء واشلاء الضحايا، وإذا بالمنجز المنقوص أصلا، لا يساوي شيئا امام تلك الغايات الدنيئة.
التاريخ في تدوينه للماضي، ونحن الان شهودا على حاضرنا، وسيأتي من يدون هذا الحاضر بصيغة الماضي بعد عقود وقرون، تطول او تقصر حسب همة المدونين، يكتشف، وهو اكتشاف مستمر لكننا لا نستفيد منه، ان كل صراعات التيجان والعروش هي صراعات على السلطة، وصولا اليها، والبقاء عندها، ونكتشف دائما، كما اكتشفنا سابقا، ان (السلطة تتلون الى درجة ان الانذال يثقلون صدورهم بأوسمة الشرف، والجهلة يتشدقون بالقاب العلم والمعرفة، والقتلة والفاجرين يتسترون بدعاوى الايمان فيكون السكوت عن الظلم والفساد مطلبا دينيا، وموالاة الظالمين بديهة وطنية مطلقة). عبد اللطيف الحرز/علي ناموس المعنى.
دوّن تاريخنا الإسلامي كل شاردة وواردة، منطلقا في تدوينه من سيرة النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وسيرة الكثيرين من أصحابه، لكن المفارقة في عملية التدوين تلك، ان عليا بن ابي طالب (عليه السلام) كان واحدا من هؤلاء الكثيرين، مع غيره ممن نسب او صنف ضمن الصحابة، لافرق بين كاشف عورته، وبين من لا تشبع بطنه، ومن كنز الذهب والفضة، والوزغ بن الوزغ، والقرود التي ستتنازع مقعد صاحب الدعوة والرسالة التي بدأ التدوين الإسلامي منها.
تلك المفارقة حكمت على المدون الرسمي للتاريخ، ان (يستعير/يسرق/يستبيح) فضائل علي بن ابي طالب (عليه السلام) لغيره ممن نسب او صنف على الصحابة، لنكون بإزاء تاريخ متخيل من الفضائل والمحامد والتبجيل. ولم يكتف بفعل الاستعارة والسرقة والاستباحة، بل مارس فعل التبخيس والتنقيص لشخصية بن ابي طالب (عليه السلام)، امام الاخرين الذين لم يكونوا ليعرفوا الا من خلال مقارنتهم به، وتلك المفارقة الأعظم في هذا التدوين.
(لكنهم وهم ينهبون عليا كماض، فانهم كانوا يتورطون في مثوله كمستقبل، حتى وهم يدفنونه ويشوهونه كإنجاز، بقي ذلك الخطر الداهم كوعد). عبد اللطيف الحرز/علي ناموس المعنى
تساقطت تلك التيجان تحت وقائع الأيام والاحداث، وتهاوت العروش مندكّة الى الأرض، وبقيت نعال علي بن ابي طالب (عليه السلام) اعلى من تلك التيجان والعروش، وهي شاهدة على انين المظلومين المتواصل، حيث لا يقام حق ولا يدفع باطل.
وعليّ هو ذلك البطل الموجع المتألم، والفارس الصوفي، والامام الشهيد ذو الروح العميقة القرار التي يكمن في مطاويها سر العذاب الإلهي. الباحث الفرنسي كارا ديفو
اضف تعليق