ولادة الإمام علي (ع) كانت في الكعبة وشهادته كانت في محراب مسجد الكوفة، في شهر رمضان، وفي ليلة القدر. وما بين الولادة والشهادة عاش الإمام علي في أحضان رسول الله طفلاً، وفي أحضان الإسلام فتى يافعاً، ثم شاباً مدافعاً، ورجلاً مكافحاً، وكهلاً مناضلاً، وشيخاً مجاهداً، فكانت حياته كلها لله...
في 21 من شهر رمضان سنة 40ه استشهد الإمام علي (ع) في محرابه
مقدمة مفجعة
التاريخ يتحدَّث: أن ولادة الإمام علي (ع) كانت في الكعبة المشرفة..
وشهادته كانت في محراب مسجد الكوفة المعظم، في شهر رمضان، وفي ليلة القدر المباركة..
وما بين الولادة المباركة، والشهادة المفجعة عاش الإمام علي (ع) في أحضان رسول الله (ص) طفلاً، وفي أحضان الإسلام فتى يافعاً، ثم شاباً مدافعاً، ورجلاً مكافحاً، وكهلاً مناضلاً، وشيخاً مجاهداً، فكانت حياته كلها لله وفي الطريق إلى الله، ولذا لا عجب مَنْ وُلد في البيت المحرَّم، أن يستشهد في محراب المسجد المعظم.
ولكن لماذا يُقتل الإمام علي (ع) في مسجده، وبسيف من سيوف الغدر من أمته؟
لماذا يُضرب أمير المؤمنين (ع) على قرنه وفي صلاته، وفي محرابه في مسجده؟
لماذا تُنتهك به حُرمة الشهر الكريم، والمسجد المعظم، والليلة المباركة، وشخصيته المقدسة؟
لماذا أيها الشقي؛ يا ابن اليهودية – كما وصفه روحي فداءه بقوله: (قتلني ابن اليهودية) – فجعت الحياة والإنسانية بميزان الفضيلة والقيمة والإنسانية فيها؟ هلَّا تجرَّأتَ أيها الجبان أن تبرز له في ميدان القتال إذا كنت ملئ إهابك، وتظن نفسك رجلاً؟
فالحق والحقيقة تقول: أن علياً لم يُقتل، بل فاز بالشهادة الموعودة، ولذا لما أحسَّ بوقع الضربة على رأس الحكمة صاح: (فزتُ ورب الكعبة)، ولكن أي خسارة خسرنا، وخسرت الحياة، والإنسانية بفقدك سيدي ومولاي يا أمير المؤمنين (ع)، فأنتَ فزت بالشهادة، ولكن صرت فوزاً للفائزين من هذه الأمة التي ما عرفتك، وكثير منها جحدك حقك، وأنكر فضلك، وسعى في إطفاء نورك الذي خلقه الله من نور ذاته وجعلك مقياساً وميزاناً ومعياراً لخلقه فبك فاز مَنْ فاز، وبك خسر مَنْ خسر ومَن خسرك كان في جهنم وذلك هو الخسران المبين يا أمير المؤمنين.
رواية الشهادة العلوية
نأخذها مختصرة من ولده سماحة الإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) في كتابه (من حياة الإمام علي (ع)، حيث يقول: قُتل أمير المؤمنين (ع) سنة أربعين من الهجرة في شهر رمضان، متأثراً بضربة ابن ملجم المرادي (لعنه الله) حيث ضربه ليلة تسع عشرة، ليلة الأربعاء، وقُبض ليلة الجمعة ليلة إحدى وعشرين، وعمره ثلاث وستون سنة.
وقد نعى الإمام (ع) نفسه قبل مقتله، فكان يقول: (ما يمنع أشقاكم أن يخضب هذه من هذه ـ يعني لحيته من دم رأسه ـ كما أخبرني أخي رسول الله (ص)، وروي: أنه (ع) لما أراد أن يخرج من البيت إلى مسجد الكوفة أقبل الأوز يصحن في وجهه فطردوهن عنه، فقال: (ذروهن فإنهن صوائح تتبعها نوائح)، فضربه ابن ملجم المرادي في ليلته تلك.
وورد أنه سهر علي(ع) في الليلة التي ضُرب في صبيحتها، فقال: (إني مقتول لو قد أصبحت).
وفي حديث آخر: جعل (ع) يعاود مضجعه فلا ينام، ثم يعاود النظر في السماء ويقول: (والله ما كذبت ولا كُذّبت، وإنها للّيلة التي وُعدت)..
وعن الحسن بن الجهم، قال: قلتُ للرضا (ع): إن أمير المؤمنين (ع) قد عرف قاتله والليلة التي يُقتل فيها والموضع الذي يقتل فيه، وقولـه لما سمع صياح الإوز في الدار: صوائح تتبعها نوائح، وقول أم كلثوم (ع): لو صليت الليلة داخل الدار وأمرت غيرك يصلي بالناس، فأبى عليها، وكثر دخولـه وخروجه تلك الليلة بلا سلاح، وقد عرف (ع) أن ابن ملجم قاتله بالسيف كان هذا مما لم يجز تعرضه؟ فقال: (ذلك كان، ولكنه خُيّر تلك الليلة لتمضي مقادير الله عز وجل).
وفي التاريخ أنه: كان سبب قتل الإمام (ع) أن عبد الرحمن بن ملجم المرادي، والبرك بن عبد الله التميمي الصريمي ـ واسمه الحجاج ـ وعمرو بن أبي بكر التميمي السعدي وهم من الخوارج، اجتمعوا فتذاكروا أمر الناس وعابوا الولاة، ثم ذكروا أهل النهر فترحموا عليهم! وقالوا: ما نصنع بالبقاء بعدهم فلو شرينا أنفسنا لله! وقتلنا أئمة الضلال وأرحنا منهم البلاد.
فقال ابن ملجم: أنا أكفيكم علياً.
وقال البرك بن عبد الله: أنا أكفيكم معاوية.
وقال عمرو بن بكر: أنا أكفيكم عمرو بن العاص.
فتعاهدوا ألا ينكص أحدهم عن صاحبه الذي توجه إليه حتى يقتله أو يموت دونه، وأخذوا سيوفهم فسموها واتعدوا لتسع عشرة أو سبع عشرة من رمضان.
فأتى ابن ملجم الكوفة فلقي أصحابه بها وكتمهم أمره، ورأى يوماً أصحاباً لـه من تيم الرباب ومعهم امرأة منهم اسمها قطام بنت الأخضر التيمية قُتل أبوها وأخوها يوم النهر (النهروان)، وكانت فائقة الجمال؛ فخطبها فقالت: لا أتزوجك إلاّ على ثلاثة آلاف، وعبد، وقينة، وقتل علي"! (من حياة الإمام علي (ع): ص180)
هذا ما يُروى في التاريخ، وتناقلته الأقلام والألسن عبر العصور والدهور، ولكن هل يمكن أو يُعقل أن يُقتل أمير المؤمنين (ع) بهذه الطريقة، والتآمر عليه وعلى هؤلاء الثلاثة الذين كانوا قادة المناطق الثلاثة الأكبر في الرقعة التي كان يحكمها الإسلام /الحجاز والعراق، الشام، مصر/ من قبل ثلاثة من الخوارج في موسم الحج وعند بيت الله الذي ولد فيه الإمام علي (ع)، ولم ينجح في هذه المؤامرة الخبيثة إلا عبد الرحمن بن ملجم المرادي؟
فهل تدخَّل القدر في ذلك؟ أو أن المؤامرة كانت بغير ما شاعت في الأمة، وأطرافها لم تكن مقتصرة على هؤلاء الثلاثة من الخوارج، بل كانت هناك مؤامرة أكبر من ذلك بكثير، وبقيت مخفية في طي الأيام، والتاريخ، ولكن لنا أن نتساءل لماذا ينجو عمرو بن العاص تماماً ويُقتل رئيس الشرطة عنده، ويُصاب معاوية في إليته، ويُقتل أمير المؤمنين فقط (ع)؟
فكل مَنْ يقرأ هذه القصة يجدها غير كاملة، وفيها من الألغاز والزوايا المعتمة فيها، فالمؤامرة هل كانت من قبل عمرو بن العاص، لقتل كل من الخصمين /الإمام علي، ومعاوية / ليكون هو الحاكم العام للدولة الإسلامية، لا سيما وأنه كان له مثل هذه البادرة، وذلك حين طلب الإمام علي (ع) معاوية للمبارزة، فقال له: أنصفك الرجل، فقال له معاوية: أطمعت فيها يا عمرو؟
وليُثبت ولاءه لسيده معاوية برز إلى الإمام علي (ع) ولكن بعد أن خلع لباسه وأعدَّ نفسه للتخلُّص من سيف أمير المؤمنين (ع) الذي يعرف أن نقع الموت تحته لا محالة، فألقى بنفسه ورفع رجليه لمعرفته أن أمير المؤمنين (ع) يعفُّ عنه ولا ينظر إلى سوءة قط.
فسيرة ومسيرة عمرو بن العاص ودهاءه معروف وخبثه وطمعه في الحكم والكرسي هو الذي جعله يبيع دينه بدنيا معاوية، لأنه عندما جاء إليه، طلب منه مصر طعمة، وقال: أنا أبيعك ديني، وآخذ شيء من دنياك فتوافقا على ذلك، رغم أن ولده عبد الله كان ينهاه من تنفيذ هذه الصفقة المعادية لأمير المؤمنين (ع) لأنه لا قياس بينه وبين عدوَّه معاوية.
دور الخوارج بمساعدة المجرم
نُسبت الجريمة إلى الخوارج بكلها، رغم أنه لم ينجُ منهم يوم النهروان إلا شخصان عبد الرحمن بن ملجم المرادي قالت الإمام علي (ع)، وشمر بن ذي الجوشن قاتل الإمام الحسين (ع)، فهل يُعقل بأن هذين الشخصين منفردين أم أن كان وراءهم الكثير من المنافقين والمجرمين؟
يروي الشيخ المفيد في (الإرشاد): وقد كانوا قبل ذلك ألقوا إلى الأشعث ما في نفوسهم من العزيمة على قتل أمير المؤمنين (ع) وواطأهم على ذلك، وحضر الأشعث في تلك الليلة لمعونتهم، وكان حجر بن عدي في تلك الليلة بائتاً في المسجد، فسمع الأشعث يقول لابن ملجم: "النجاء، النجاء لحاجتك فقد فضحك الصبح"، فأحسَّ حجر بما أراد الأشعث، فقال: "قتلته يا أعور"، وخرج مبادراً ليمضي إلى أمير المؤمنين (ع) ليُخبره الخبر ويُحذِّره من القوم، وخالفه أمير المؤمنين (ع) في الطريق فدخل المسجد.
فلما خرج علي (ع) نادى: (الصلاة، الصلاة)، فضربه شبيب بالسيف فوقع سيفه بعضادة الباب أو الطلق، وضربه ابن ملجم على قرنه بالسيف، وقال: "الحكم لله لا لك يا علي ولا لأصحابك". فقال علي (ع): (فزتُ ورب الكعبة).
وقال ابن ملجم: "لقد ابتعت سيفي بألف، وسممته بألف، ولقد ضربته ضربة لو قسمت بين أهل الأرض لأهلكتهم". (الإرشاد: ج1 ص19)
فإذن هناك مؤامرة كبيرة جداً استمرَّت من أيام صفين الأخيرة، وربما كانت تُعدُّ في أيام التحكيم وتم التعاهد والتعاقد على تنفيذها بدقة وكان هدفها الأول أمير المؤمنين (ع) الذي لم يستطع رجال قريش وشياطينها وطغاتها لتنفيذها في مكة المكرمة، ولا في المدينة المنورة، ولم يستطيعوا الوقوف بوجهه في الحرب، ولا اغتياله فيه أيضاً لأن فكرة اغتيال النبي (ص) والإمام علي (ع) كانت مع فكرة اغتيال سيدنا الحمزة من قبل هند الهنود أم معاوية، ولكن اعتذر الخبيث عن اغتيال النبي بالتفاف أصحابه حوله، والإمام علي كان شديد الحذر في الحرب وكان يدور كحجر الرحى وتدور المعركة حوله فلا يمكن اغتياله، ولذا اختار الحمزة أسد الله ورسوله.
وكذلك القصص الكثيرة التي حاولت السلطة القرشية فيها اغتيال الإمام علي (ع) فخالد بن الوليد سيف الخليفة حاول ثلاث مرات، ولكن لم يُفلح، كما أفلح مع غيره من المعارضين حيث اغتالوهم ونسبوا قتلهم إلى الجن كسعد بن عبادة وغيره، أو بواسطة السم الذي كان يدسه معاوية في العسل ويقول: "إن لله جنوداً من عسل"، كما فعل بمالك الأشتر.
فالإمام علي (ع) في الحقيقة التاريخية المشوَّهة والمشوَّشة هو شهيد هذه المؤامرة الخبيثة التي نفَّذها هذا المجرم شقيق عاقر ناقة صالح عبد الرحمن بن ملجم، والعجيب أن الطاغية معاوية يُقال: أنه عفى عن الذي ضربه لأنه بشَّره بمقتل الإمام علي بنفس اليوم، وأن صاحبة الجمل سجدت شكراً لعبد الرحمن بن ملجم، وسمَّت عبدها تيمناً باسمه وراحت تُنشد شعراً طرباً وفرحاً بتلك البشارة:
فألقت عصاها واستقرت بها النوى-----كمـا قرَّ عيـنا بالإياب المسافر
ثم قالت: فمَنْ قتله؟ فقيل: رجل من مراد فقالت:
فإن يك نائيــاً فلقـد نعــاه غـلام ليـس في فـيه التـراب (تاريخ الطبري: ج4 ص 115)
وقالت لمّا بلغها مقتله (ع): "لتصنع العرب ما شاءت فليس لها أحد ينهاها"،
وعن مسروق أنه قال: "دخلتُ على عائشة فاستدعت غلاماً باسم عبد الرحمن، فسألتها عنه. فقالت: عبدي. فقلتُ: كيف سميته بعبد الرحمن؟ قالت: حباً لعبد الرحمن بن ملجم قاتل علي"!
جبرائيل في السماء ينعاه (ع)
نعم؛ هكذا تظهر الشماتة من أعداء أمير المؤمنين (ع)، فجبرائيل ملاك الوحي المقدس ينعاه في السماء، حيث ورد أنه: (فاصطفقت أبواب الجامع، وضجَّت الملائكة في السماء بالدعاء، وهبَّت ريح عاصف سوداء مظلمة، ونادى جبرئيل (ع) بين السماء والأرض بصوت يسمعه كل مستيقظ: (تهدمت والله أركان الهدى، وانطمست والله نجوم السماء وأعلام التقى، وانفصمت والله العروة الوثقى، قُتل ابن عم محمد المصطفى، قُتل الوصي المجتبى، قُتل علي المرتضى، قُتل والله سيد الأوصياء، قَتله أشقى الأشقياء). (من حياة الإمام علي (ع): ص183)
فالملائكة الكرام ينعونه – روحي فداه – وشياطين الإنس تشمت فيه وتفرح، فلماذا نلغي دورهم إذن بهذه المؤامرة التي قضت على أعظم شخصية في الوجود بعد ابن عمه رسول الله (ص)؟
في الحقيقة التاريخية أيضاً، أن الذين تآمروا على رسول الله (ص) في رزية يوم الخميس وسقوه الدواء (لدُّوه) رغم أنه نهاهم عن ذلك، فسقوه ما سقوه حيث انتقل إلى الرفيق الأعلى (ص) وهم تراكضوا إلى السقيفة المشؤومة ولم يخرجوا منها إلا بخلفة وولي عهد يُزفُّون إلى المسجد زفَّة العروس، ورسول الله (ص) جثَّةً هامدة بين أهله يبكونه، فالمؤامرة واحدة وحقكم إخوتي..
اضف تعليق