والتاريخ الإسلامي يشهد بأن رسول الله (ص) لم يُزكِّ أحداً كما زكَّى ابنته فاطمة، ولم يوصِ بأحد كما أوصى الأمة فيها وبزوجها وبنيها، فهو الذي كان إذا أقبلت إليه استقبلها وقبَّل يدها وأجلسها في مكانه، وكذلك هي تفعل به إذا دخل عليها، وقال فيها الكثير العظيم...
الرواية الأولى: شهادتها في 8 ربيع الآخر بعد أربعين يوماً من وفاة النبي (ص)
فاطمة الزهراء (ع) هل هي مجرَّد بنت من بنات رسول الله (ص)، أو أنها امرأة من أشراف قريش في مكة المكرمة، أو أنها امرأة من نساء العالمين؟ فالذي يُراجع أو يقرأ التاريخ العربي والإسلامي ويطَّلع على السيرة النبوية الشريفة يجد أن هناك فرق جوهري، وأساسي تميَّزت فيه فاطمة عن كل النساء في هذه الدنيا، وذلك بمراجعةٍ سريعة على العشرات من الروايات التي ترويها كتب الفرق الإسلامية كلها، والتي تجعل من هذه السيدة العربية، القرشية، الهاشمية سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
فاطمة الشهيدة الأولى
والتاريخ الإسلامي يشهد بأن رسول الله (ص) لم يُزكِّ أحداً كما زكَّى ابنته فاطمة، ولم يوصِ بأحد كما أوصى الأمة فيها وبزوجها وبنيها، فهو الذي كان إذا أقبلت إليه استقبلها وقبَّل يدها وأجلسها في مكانه، وكذلك هي تفعل به إذا دخل عليها، وقال فيها الكثير العظيم، فقد رُوي عن مجاهد قال: خرج النبي (صلى الله عليه وآله) وهو آخذ بيد فاطمة (عليها السلام) فقال: (مَنْ عرف هذه فقد عرفها، ومَنْ لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي التي بين جنبي، فمَنْ آذاها فقد آذاني، ومَنْ آذاني فقد آذى الله).
وروي عن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن الله ليغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها)، وعنه (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إن فاطمة شجنة مني يسخطني ما أسخطها ويرضيني ما أرضاها).
وعن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله: (إن فاطمة شعرة مني فمَنْ آذى شعرة مني فقد آذاني ومَنْ آذاني فقد آذى الله ومَنْ آذى الله لعنه الله ملء السماوات والأرض). (بحار الأنوار: ج ٤٣ ص ٥٤)
فهذه الروايات كلها قالها رسول الله (ص) لمَنْ؟ هل كان يقصد بها اليهود والنصارى، أو أنه كان يقصد الأمة الإسلامية عامة والصحابة خاصة الذين يروه ويسمعوه ومن المفروض أن يكونوا أكثر الناس حفظاً لوصيته وإحتراماً لأهل بيته، وبالأخص لبضعته الطاهرة التي يغضب الله لغضبها ويرضا لرضاها، بشهادتهم جميعاً لا سيما السلطان الحاكمة فلماذا فعلوا ما فعلوا بها؟
فاطمة المظلومة المقهورة
يقول الإمام الشيرازي الراحل (رحمه الله): "إن القوم ظلموا الصديقة فاطمة (ع) بعد أبيها رسول الله (ص)، فهجموا على دارها، وأحرقوا الباب، وضربوها، وكسروا ضلعها، وأسقطوا جنينها، وهم يريدون بذلك قتلها (صلوات الله عليها) لأنهم علموا بأن الصديقة (ع) تفضحهم كل يوم، وتطالبهم بإرجاع الخلافة إلى علي (ع) وصي رسول الله _ص).. فخطّطوا للقضاء عليها.. وهكذا أصبحت مظلومة مقهورة حتى ماتت شهيدة بسبب ما جرى عليها. (من حياة فاطمة الزهراء (ع) السيد محمد الشيرازي: ص240)
قال علي (ع): (إن فاطمة (ع) بنت رسول الله (ص) لم تزل مظلومةً، من حقها ممنوعة، وعن ميراثها مدفوعة، لم تحُفَظ فيها وصية رسول الله (ص)، ولا رُوعي فيها حقّه، ولا حق الله عزّ وجلّ، وكفى بالله حاكماً ومن الظالمين منتقماً). (الأمالي، للشيخ الطوسي: ص156)
فلماذا ضاقت صدورهم ذرعاً بطلبها وهو الحق الصراح، ولماذا لم يُصدِّقوها وهي الصادقة المصدَّقة، وكيف تجرَّؤوا على طلب البيِّنة منها وهي صاحبة ملك ويد، وكيف ردُّوا شهادة أمير المؤمنين الإمام علي (ع) والله تعالى شهَّده من فوق سبعة أرقعة في قوله تعالى: (قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ) (الرعد: 43)، فالله تعالى يستشهده على صدق رسالته ورسوله (ص) وسلطة قريش لا تقبل شهادته لأنه (يجر النار إلى قرصه) كما يدَّعون.
ولذا كان رسول الله (ص) كثيراً ما يذكّر الذي يجري على أهل بيته (ع) من بعده، لا سيما على الصديقة فاطمة (ع)، وكان (ص) يبكي على مصابهم، ويُحذّر القوم من ظلمهم وإيذائهم، ويلعن الظالمين لهم والغاصبين لحقوقهم في كثير من الروايات من بعد الآيات الكريمة..
قال رسول الله (ص): (وإني لما رأيتُها ذكرتُ ما يُصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذُلّ بيتها، وانتهكت حُرمتها، وغُصبت حقها، ومُنعت إرثها، وكُسر جنبها، وأُسقطت جنينها، وهي تنادي: يا محمداه، فلا تجُاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونةً مكروبةً باكيةً، تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرّة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنّها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجّدت بالقرآن، ثم ترى نفسها ذليلةً بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة، فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران فتقول: يا فاطمة (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وطَهَّرَكِ واصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ).. يا فاطمة (اقْنُتِي لِرَبِّكِ واسْجُدِي وارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران: 43)
ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض فيبعث الله عزّ وجلّ إليها مريم بنت عمران (ع) تمرّضها وتؤنسها في علّتها، فتقول عند ذلك: يا رب إني قد سئمت الحياة وتبرمّت بأهل الدنيا فألحقني بأبي (ص)، فيلحقها الله عزّ وجلّ بي، فتكون أول مَنْ يلحقني من أهل بيتي، فتُقدم عليَّ محزونةً مكروبةً مغمومةً مغصوبةً مقتولةً، فأقول عند ذلك: اللّهم العن مَنْ ظلمها وعاقب مَنْ غصبها وأذلَّ مَنْ أذلّها وخلّد في نارك مَنْ ضرب جنبيها حتى ألقت ولدها فتقول الملائكة عند ذلك: آمين). (الأمالي، للشيخ الصدوق: ص176)
عن عبد الله بن العباس قال: لما حضرَت رسول الله (ص) الوفاة بكى حتى بلّت دموعه لحيته، فقيل له: يا رسول الله، ما يبكيك؟ فقال (ص): (أبكي لذريتي، وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة (ع) بنتي وقد ظُلمت بعدي وهي تنادي: يا أبتاه، يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي)!، فسمعت ذلك فاطمة (ع) فبكت، فقال رسول الله (ص): (لا تبكي يا بنية)، فقالت: (لست أبكي لما يُصنع بي من بعدك، ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله)، فقال لها: (أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي). (الأمالي، للشيخ الطوسي: ص188)
وعن أمير المؤمنين (ع) قال: (بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله (ص) إذ التفت إليّ فبكى فقلت: (ما يبكيك يا رسول الله؟)، قال: (أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعن الحسن في فخذه والسم الذي يُسقاه، وقتل الحسين). (مناقب آل أبي طالب: ج2 ص52)
فالحقيقة المرة تقول: إن الصديقة فاطمة (ع) هي أول شهيدة بعد جنينها محسن السقط في الدفاع عن ولاية أمير المؤمنين علي (ع) وفضح مَنْ غصب الخلافة، وقد لبثت بعد رسول الله (ص) قليلاً، فروي: أنها لبثت أربعين يوماً". (من حياة فاطمة الزهراء (ع) السيد محمد الشيرازي: ص242)
فأي أمة كانت لديك يا رسول الله، وأي صحابة أجلاء كان لديك وأنت فعلت لهم كل ما يفخرون بهم وأنقذتهم من الجاهلية الجهلاء ومآسيها ورفعتهم ملوكاً يدين لهم العرب والعجم ويحكمون الأرض ولكن لم يتحملوا ابنتك الوحيدة وبضعتك الغالية فقتلوها في الأربعين من رحيلك لترضى سلطة قريش، ومنعوها حتى البكاء عليك بدل أن يسعدوها بذلك، وقطعوا الأراكة التي كانت تجلس وتبكي تحتها، ثم قطعوا عنها الهواء بضغطها في الباب، فقتلوها حتى لحقت بك شهيدة سعيدة بلقائك، ولكنها مظلومة مكلومة مقهورة فاستخبرها حال أمتك وستُخبرك بحالها ومآلها.
اضف تعليق