الإنسان لا يعرف قيمة الأشياء الموجودة لديه بل وربما لا يشعر بوجودها، بمعنى لا يشعر بوجوده لأنه متوفر لديه، يحاول بقدر الإمكان أن يصل إلى ما فقده، ويحاول أن يوفر مقومات ومقدمات الوصول إلى ذلك الكمال المفقود، إذا كان الأمر يحتاج لهذه المقومات، ومنها الشعور...
نحن نعيش حالياً (عهد الغيبة) ويعني عهد الفقدان فيقوم الله سبحانه وتعالى بتربية البشر وينمّي فيهم الكمالات النفسية والفكرية والعملية بالغيبة
يوجد هنالك مقطعٌ في دعاء كميل الذي علّمه مولانا أمير المؤمنين (صلوات الله وسلامه عليه) لكميل بن زياد النخعي (1)، جاء في مقطع من هذا الدعاء: (... ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين).
نلاحظ أن هذا المقطع والمقاطع المتقدمة والمتأخرة من الدعاء، مصدرةٌ بـ(إنْ)، الشرطية ومن المعروف في علم العربية أنَّ (إنْ) الشرطية تفيد التعليق، فمثلا نقرأ في بداية هذه المقاطع:
(لإنْ تركتني ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين ولأنادينّك أين كنت يا ولي المؤمنين)، فـ (إنْ) كما يبدو هنا تفيد التعليق: (إنْ تركتني ناطقاً).
وهذا يعني: إنه من المحتمل ألا يُترك أهل جهنم ولو في بعض الحقب والفترات ناطقين، وجاء في بعض الكتب أن آخر كلمة يقولها أهل جهنم وهم يخاطبون الله تعالى: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)(1)، فيقول الله تعالى لهم: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ)(2)، ثم بعد ذلك يُختم على أفواههم ولا يُسمع منهم إلا الشهيق والزفير والعواء، فلا يَفهمون ولا يُفهِمون.
فتُسلب منهم النعمة الكبيرة للنطق والإفهام والتفهّم، فلا يفهم أحدٌ منهم ماذا يقول له الآخر، ولا يستطيع أحدٌ أن يُفهم الآخرين أيضا، ولعلّ (إنْ) الشرطية التعليقية الواردة في دعاء كميل هي بمثابة إشارةٍ إلى هذه القضية: (لأن تركتني ناطقاً لأضجنَّ إليك بين أهلها ضجيج الآملين ولأصرخنّ إليك صراخ المستصرخين، ولأبكينَّ عليك بكاء الفاقدين)، فما هو بكاء الفاقدين؟
إن بكاء الفاقدين يمثل مظهراً لثلاثة أمور تكتنف وتتعقب الفقدان، فعندما يفقد الإنسان شيئاً، ستعقب ذلك ثلاث حالات أو آثار هي: الأثر النفسي، والأثر الفكري، والأثر العملي.
الأثر الأول: الحالة النفسية
ما هي الحالة النفسية؟
لعله - ونكرر مفردة (لعله) - والله أعلم، فهو تعالى أعلم بمراده.
ربما يمكن أن يكون في قوله تعالى: (وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا)(3) إِشارة إلى هذا المعنى، حيث هنالك فراغات في النفس البشرية تحتاج إلى ملء، فعندما يجد الإنسان ما يحتاجه سيُملأ الفراغ ولكن عندما يفقد الإنسان ما ينبغي أن يجده سيشعر بفراغ.
نضرب مثالا واضحا لتقريب هذه الفكرة، فهنالك فراغٌ في النفس البشرية يمكن أن نطلق عليه بفراغ الأبوة، فالأطفال الذين لهم آباء وأمهات، يكون فراغ الأبوة والأمومة لديهم مملوءاً، تذكر بعض الكتب الجديدة: إن الطفل لا يكتفي بسماع صوت أمه، لنفترض أن هناك طفلا في الأشهر الأولى وله من العمر ثمانية أشهر، فحين تناديه أمه وتناغيه وهي في المطبخ لا يكتفي بهذا الصوت بل يريد أن يراها وينظر إلى عينيها ووجهها.
إذن مثل هذا الفراغ يجب أن يُملأ، فالطفل اليتيم الذي فقد أباه أو أمه يوجد لديه فراغ نفسي كبير، لكننا لا نشعر بذلك، لا أدري إذا كنتم لاحظتم الأطفال الأيتام أم لا؟ ويُقال: إن هناك خمسة ملايين يتيم في العراق في الوقت الحاضر، ستشعر من نظرات الطفل اليتيم وحركاته بأنه يعاني من فراغ نفسي، تماما مثل طفل عنده بيت فيشعر أن لديه ملجأ أمين يأوي إليه، وآخر ليس له بيت فيشعر أنه من دون ملجأ يحميه.
نذكر هنا هذه القضية - بين قوسين - يُنقل أن المرجع المعروف المرعشي النجفي (رحمه الله)(4) كان ذاهبا في شبابه إلى الحمام ومعه أطفاله، فقال لأطفاله: لا تنادوني بالحمام: بابا، يا بابا.
فسألوه: لماذا؟
قال لهم: لأنه يوجد في الحمام مجموعة من الأطفال اليتامى، فإذا ناديتموني كأب ستتحرك مشاعر الأبوة لديهم فيشعرون بالألم، فالأطفال الآخرون لديهم آباء وهؤلاء اليتامى لا آباء لهم.
أحياناً إذا سافر إنسان عزيز علينا سنشعر بوحشة في البيت وفي النفس، كأننا نفتقد شيئا مهما ولا نعرف ماذا نعمل؟ فلا نستطيع النوم ليلاً، فقد يبكي الإنسان على أثر هذا الشعور، (ولأبكينّ عليك بكاء الفاقدين)، لكن هنالك إنسان يفقد الله تعالى، إننا كم نتألم حين نفقد كمالاً محدوداً؟ فكيف إذا فقد الإنسان مصدر كل الكمالات؟
لعلّ هذا أشد عذاباً من أي شيء لأهل جهنم، حين يشعر الإنسان أن الله طرده بعيداً عن رحمته وعنايته، (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(5).
فإذا امتعض الأب من ابنه يوماً ما على أثر قضية ما، ولم يعاتبه وجهاً لوجه ولم يكلّفه بشيء ولم يكلمه أيضا بل أخذ يكلف أخاه، فكم سيتألم ويتأثر هذا الابن؟ فإذا قال الأب لابنه: أنا لن انظر إليك ثانية، ويطرق رأسه ويغض بصره عن ابنه فكم سيشعر بالألم؟ كل ذلك مصاديق لحالة الفقدان.
ويمكن أيضاً أن يكون الإنسان فاقداً لربه في هذه الدنيا، ونحن يجب أن نبكي في هذه الدنيا، فالذين يفقدون الله تعالى سيفقدون عنايته أيضا.
الأثر الثاني: الحالة الفكرية
وهو ما يحدث في منطقة الفكر، وهذا الأثر يعني بأن الإنسان لا يعرف قيمة الأشياء الموجودة لديه بل وربما لا يشعر بوجودها، بمعنى لا يشعر بوجوده لأنه متوفر لديه، هنالك مثال عجيب حول هذا الموضوع، يُقال لو أننا نعيش في ظلام دائم فلن نعرف قيمة النور ومراتبه، وربما لم نكن نشعر بوجوده، نحن نرى كل شيء، نرى الجدار والأفراد والأشياء، ونرى هذا الفراش، لكن أين النور؟! إننا نرى هذا الجدار وها أنا أرى جسدي، لكن أين النور؟ إنه غير موجود! فالنور الذي هو أوضح الأشياء وبه نرى كل الأشياء، لا نعرف بوجوده لأنه متوفر، وعندما يُفقد النور، سنشعر بوجوده وقيمته.
الأثر الثالث: الحالة العملية
إن الإنسان يحاول بقدر الإمكان أن يصل إلى ما فقده، ويحاول أن يوفر مقومات ومقدمات الوصول إلى ذلك الكمال المفقود، إذا كان الأمر يحتاج لهذه المقومات، ومنها الشعور بالفراغ والشعور بقيمة الشيء المفقود وتعميق الرابطة النفسية والروحية، ثم السير لتحصيل الكمال المفقود.
وثمة مثال واضح حول هذا الموضوع، وهو أبونا آدم (على نبينا وآله وعليه الصلاة والسلام)، فلعل أبانا آدم (عليه السلام) وكما يبدو خُلق للدنيا ولم يُخلق للجنة، والدليل على ذلك قول الله تعالى: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(6) لا في الجنة، فلعله كما يبدو من هذا الآية الكريمة، أن آدم (عليه السلام) خُلق للدنيا ولم يُخلق للجنة، ولكنه عاش فترة في الجنة وعرف بركاتها وخيراتها، ثم بعد ذلك خرج منها وفقد ذلك الكمال الذي تتصف به الجنة، فماذا فعل آدم؟ وبماذا أثّر هذا الفقدان؟
إن الأثر النفسي الخارجي واضح، فقد جاء في الأحاديث وبعضها مذكورة في (البحار) وأخرى في (معاني الأخبار) بخصوص رواية آدم (عليه السلام)، عن الإمام الصادق (صلوات الله عليه) أنه: (طاف حول الكعبة مائة عام)(7)، فمن أين جاءته تلك الطاقة؟ إن من يعيش كمالاً ثم يفقده، فسوف يدفعه الشوق إلى ذلك الكمال لمضاعفة العمل. تذكر بعض الروايات أن الفاصلة الزمنية بين أكل آدم (عليه السلام) من الشجرة وقبول الله تعالى توبته هي ثلاثمائة عام(8)، فكيف كانت حالة آدم (عليه السلام) في هذه الفترة؟ تقول هذه الرواية: (إنه طاف بالبيت مائة عام ولم ينظر خلالها في وجه حواء)(9)، لأن الفرد حين يعيش حالة الفقدان، فلن يفكر في الملذات المادية.
وجاء في حديث آخر في كتاب (الخصال) للشيخ الصدوق باب الخمسة، (إن البكّائين خمسة وهم: آدم ويعقوب ويوسف والصديقة الكبرى فاطمة والإمام زين العابدين (صلوات الله عليهم أجمعين)).
وقد جاء في الحديث: (فأما آدم فبكى على الجنة)، ليس لكونها مظهرا للنعم المادية فقط، وإنما لكونها مظهرا للنعم المعنوية أيضا، ولأنها دار كرامة الله تعالى ودار قرب إليه سبحانه، ولا تعني إخراج آدم من جنة النعيم فقط وإنما كان إخراجاً من جنة الرضوان أيضا، ولعل البعد الثاني في القضية هو الذي كان يُؤذي ويؤلم أبانا آدم أكثر، فيقول الحديث: (فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خدّيه أمثال الأودية)(10)، والوادي هو: المنخفض بين جبال، ويبدو من هذا الحديث ظاهراً أن الدمع قد أثر في خدّه تأثيراً كبيراً، لأن الخد عضو رقيق جداً، وماء الدمع يحتوي على أملاح فيؤثر على الخد حين تجري فوقه.
وجاء في حديث آخر أن آدم (عليه السلام) بكى على الجنة أربعين صباحاً وهو في حالة السجود(11).
إن هذا التوجه وهذه الحالة حدثت أثر الفقدان، نحن أيضا نركض وراء الجنة مع أننا لم نرَها ولكننا سمعنا ببركاتها وخيراتها، فكما ركض آدم (عليه السلام) وراء جنة النعيم والرضوان، نحن أولاده أيضا نركض وراء جنة النعيم وجنة الرضوان.
إن احد العوامل المحتملة للغيبة واستمرارها، هو سَوق البشر نحو التكامل النفسي والفكري والعملي من خلال الفقدان، إن الله سبحانه وتعالى هو الرب (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) فماذا تعني مفردة رب؟
إن من معاني الرب هي: المربي وهو المنمّي من الإنماء، فالله تعالى هو رب العالمين، جمع عالم، فيوجد لدينا عالم النبات وعالم الجماد وعالم الحيوان، إن الله تعالى يربي النبات، وقبلها يربي البذرة وينمّيها بالعناصر الموجودة في التربة، وبالأملاح والأشعة والحرارة، فهذه المجموعة من العوامل هي التي تساعد في نمو الشجرة، ويُقال: توجد في ظهر نواة التمر -إذا لاحظت ذلك- حفرة تطلع منها النخلة فتنمو لتصبح بهذا الحجم الكبير، ويعبر القرآن الكريم عن هذه الحفرة بالنقير(12): (وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)(13).
نحن البشر من العالمين أيضا، والله تعالى رب العالمين، فأحد عوامل تربيتنا وتكاملنا، هو التربية بالفقدان، فقد جاء النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى البشرية ووضع لهم منهجا متكاملا، ثم عيّن من بعده أمير المؤمنين وأئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) لكي يكونوا القيّمين على تطبيق هذا المنهج، لكن بعض البشر لم يعرفوا قيمة النبي الأعظم وقيمة أئمة أهل البيت، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، حيث كان بعض الناس يأتون إلى النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) وهو أشرف الأولين والآخرين ويرفعون صوتهم فوق صوته (لَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ)(14) فقد كان بعضهم ينام ويتمدد على بطنه أمام النبي (صلى الله عليه وآله) ــ كما في بعض الروايات التاريخية ــ ثم يقولون: حدثنا يا محمد!
وقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) في فراش المرض وهم يقولون: إن الرجل ليهجر(15)! وهذا وارد هذا في صحيح البخاري، أو أن النبي (صلى الله عليه وآله) غلب عليه الوجع(16)، فلم يعرفوا قيمة أئمة أهل البيت (صلوات الله عليهم) الذين منَّ الله بهم على البشرية وبالنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)، لكن هنالك صفوةٌ مُستثناة من الناس المؤمنين، فلا شك في ذلك وهو أمر واضح، ولكن الطابع العام ليس طابع معرفة الناس بقيمة النبي وأهل بيته فلقد قتلوهم وشرّدوهم:
بعضٌ بطيبة مدفون وبعضهم-----بكــربلاء وبعــض بالغريينِ
وأرض طـــــــوس وســــامراء-----وقد ضمنت بغداد بدريــــن(17)
التربية بسوط الغيبة
نحن نعيش حالياً (عهد الغيبة)، ويعني عهد الفقدان، فيقوم الله سبحانه وتعالى بتربية البشر وينمّي فيهم الكمالات النفسية والفكرية والعملية بالغيبة، وبتعبير موجع بـ(سوط الغيبة)، وهي بحد ذاتها تُعد تربية، فنحن نشعر في الزمن الحالي بالفقدان، وهذا نوع من أنواع الأثر نفسي، في صبيحة يوم الجمعة يجتمع ملايين المؤمنين في شرق الدنيا وغربها عبر العصور المختلفة ويقرؤون (دعاء الندبة)، وهذا يعني أنهم يبكون على فقدانهم لإمامهم، كما يفعل الأبناء حين يجتمعون ويبكون على فقدانهم لأبيهم، اقرأ مقاطع من دعاء الندبة، مقاطع التوجع والتفجّع والتألّم، أتعلم كم ينمّي مثل هذا العمل النفس البشرية؟ وكم يعمّق الارتباط بإمام زماننا؟
إن قضية الارتباط ليست هيّنة بل مهمة جداً، فهنالك مقياس للارتباط في الأمور المعنوية ومقياسها في الأمور المادية، فحين تكون جالسا في الغرفة فإن بركات الشمس ستشملك، فهي موجودة في كل مكان، ولكن عندما تقيمون علاقة مباشرة مع أشعة الشمس وتتعرضون لها مباشرة، ستنالون بركاتها في الجانب المادي، ومن العجائب الموجودة في الطب أن الأطباء ينصحون الإنسان بوجوب التعرض مباشرة للأشعة وأن لا يكون بينهما حاجز حتى لو كان من وراء الزجاج، ومن العجائب أيضا أنهم يقولون في الفقه بأن الشمس مطهّرة شريطة أن تشرق على الشيء مباشرة. فالتعرض غير المباشر للشمس غير مطهّر كما يقول الأطباء، أما التعرض المباشر فيختلف عن التعرض غير المباشر.
لذا عندما يرتبط الإنسان بإمام زمانه سيكون هذا الارتباط مهماً جداً، فأحد الأشياء التي يقولها بعض العلماء في السيدة رقية (صلوات الله عليها)، إن الله تعالى أعطاها مقاماً عظيماً، فكم مليونٍ من الزوار زاروا السيدة رقية بنت الإمام الحسين (عليه السلام) من ألف عام حتى اليوم؟ لقد لاحظ كثيرون منّا كيف يأتي الناس إلى مقامها كي يتقربوا إلى الله تعالى بحبها، ويجعلونها شفيعة لهم إلى الله تعالى.
إن مرقد السيدة رقية (18) عظيم مع أنها كانت طفلة تبلغ من العمر بين ثلاثة أو أربع أعوام، وكانت للإمام الحسين (صلوات الله عليه) بنات متعددات، لكن رقية متميّزة بينهنَّ، ويرى بعض العلماء أن هذه المكانة جاءت على أثر علاقة رقية بإمام زمانها وهو سيد الشهداء، فينقل لنا الخطباء الكرام (حفظهم الله) عن هذه العلاقة ومظاهرها، سواء في حياة الإمام أو بعد موته (عليه السلام)، حيث كانت العلاقة مهمة جداً.
كان هنالك رجلان أحدهما يملأ القلوب والأسماع حتى الآن، فيُذكر في البحوث العلمية وفي المنابر والكتب وهو السيد مهدي بحر العلوم(19)، لكن لماذا يُذكر ؟ إنه يذكر بسبب علاقته المعروفة بالإمام سيد الشهداء وبالإمام الحجة (صلوات الله عليهما)، وهنالك أخ لبحر العلوم وهو رجل عالم ومؤمن أيضا وله مقامه وجلاله ولكن ربما لم يسمع كثيرون باسمه لأنه لم تُنقل عنه تلك العلاقة المهمة.
إن العلامة الاميني(20) (رحمة الله عليه) كان مجتهداً وله إجازة اجتهاد كما ذكرت بعض الكتب من المحقق النائيني والسيد أبي الحسن الأصفهاني والشيخ عبد الكريم الحائري، فقد دفعه حُبه لأهل البيت لأن يسخّر نفسه لأهل البيت، ولأمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، لا بأس أن ننقل هذه القضية التي تخص هذا الموضوع: يُنقل أن اثنين من العلماء ذهبا إلى عيادته في طهران حين كان يعاني من المرض الذي مات فيه، وحين وصلا إليه كان نائما، ثم حين دخلا إليه واطمأنّا على صحته سأله أحدهما: هل تأذن لي أن أسألك عن مسألة علمية؟
فقال العلامة الأميني: حول أي شيء يدور سؤالك؟
فقال العالم: حول الصديقة الكبرى فاطمة (صلوات الله عليها)، وكان العلامة الأميني مضطجعا لكن بمجرد أن سمع بهذا الاسم المبارك وإذا به يحاول النهوض من منامه، فطَلبَ منه العالمان أن يظل راقداً كما هو، لكنه رفض ذلك وقال: إن هذا يخالف الأدب أن تُذكر فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) وأبقى نائماً، ثم حاول أن يجلس بصعوبة، وجاء احد أفراد عائلته وذكّره قائلا: شيخنا لقد منعك الأطباء من التحرك، فالحركة لا تناسب وضعك الصحي.
لكنه قال: لا يمكن أن تُذكر الصديقة الزهراء وأنا نائم، فهو خلاف الأدب، ثم جلس بصعوبة وقال للعالم الزائر: ما هي مسألتك؟ فسأله العالم عن مصدر هذا الحديث: (ولولا فاطمة لما خلقتكما)(21)، فقال له: إن هذا الحديث موجود في (كذا...) كتاب من كتب العامة، إذ ليس الخاصة فقط من رووا هذا الحديث، بل السُنة أيضا رووه، إذن هذا هو معنى الارتباط بأهل البيت.
ألم الفقدان وروحية التكامل
لذلك فإن دعاء الندبة مهم جداً، فهو يعني ندبة الغائب والمفقود، فعندما يقرأ ملايين المسلمين في شرق الدنيا وغربها وعلى مرّ القرون في يوم الجمعة دعاء الندبة يستشعرون ألم الفقدان، ويتعمق الارتباط في نفوسهم، فعلى مرّ التأريخ يذهب مئات الألوف من الناس إلى مسجد السهلة ليحظوا بلقاء الإمام الحجة (صلوات الله عليه)، حيث أن من يذهب إلى مسجد السهلة أربعين ليلة الأربعاء كما هو معروف سينال لقاء الإمام، فكم يعمّق هذا الفعل قضية الارتباط؟ وكم يربي هذا العمل روحية العلاقة بالإمام (عليه السلام)؟
إن ملايين الناس يواظبون على زيارة ليالي الأربعاء، وملايين منهم يأتون إلى (جمكران)(22) على مرّ الأعوام، لأن هذا المسجد له نوع من الارتباط بالإمام الحجة (صلوات الله عليه)، فكل هذه المفردات تسوق البشر نحو التكامل، حيث يجب أن يتكامل البشر نفسياً لأنه يشعر بالألم، (اللهم إنا نشكو إليك فقد نبيّنا وغيبة وليّنا)(23) فشكوانا هذه يوّلده الفقدان، بمعنى أن أحدنا حين يشعر بألم الفقدان سيشكو من ألمه فتبدأ النفس البشرية تتكامل نفسياً، ويشعر الإنسان بالألم وهو يعمّق العلاقة فيبكي ويستمر في البكاء.
هنالك روايات كثيرة تؤكد على أهمية البكاء كما في (البحار)، وبالإمكان مراجعة (مستدرك سفينة البحار) حول بكاء المعصومين والأنبياء (عليهم السلام) (24)، حيث يوجد تأكيد كبير على البكاء لأنه يطهّر النفس ويرفع من جوهرها، إن جمود العين وعدم البكاء من علامات شقاء الإنسان، كما جاء في الروايات.
في أول الأمر يَحار الإنسان لأنه لا يفهم ألم الفقدان، ولكن كلما اصطدم بالمشكلات الفكرية والعملية والعلمية للحياة أكثر، كلما شعر بمرارة الفقدان حتى يصل إلى حالة التضرع، حيث تترك آثارها النفسية والفكرية، وسيشعر الإنسان بقيمة الإمام الغائب والآثار العملية لهذه الغيبة أيضا، (بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(25)، حيث يشعر الإنسان أنه محروم ويمكنه أن يُزيل هذا الحرمان، ولكن يحتاج إلى جهد، فالإنسان إذا شعر بأنه قد تطهّر فيمكن أن يصل إلى ذلك الفيض والكمال المطلوب، وكم من الأفراد حتى العاديين منهم تجدهم قمماً روحية، ناهيك عن العلماء الذين كان لديهم هذا التوجه فأصبحوا قمماً روحية أيضا.
هنالك قضية معروفة في التاريخ لا أريد أن أفصّلها، وهي أن (علي بن مهزيار)(26) كان يفكر بأن يلتقي بالإمام الحجة (عجل الله فرجه)، فهذا الإنسان كان يفكر بأن يبدل الغيبة إلى حضور، فكم سيحتاج إلى جهد، لأنه ليس ظاهرا وإنما باطن، فالإمام لا ينظر إلى الظاهر وإنما ينظر إلى الباطن، فكم يحتاج الإنسان إلى تطهير باطني لكي يصل إلى هذه الدرجة، فيذهب علي بن مهزيار إلى الحج -يمكن مراجعة تفاصيل هذه القضية في كتاب (كمال الدين)(27) للشيخ الصدوق- لكي يلتقي بالإمام (عليه السلام)، وهذا أمل كثير من العلماء والمؤمنين وكثير منهم وفقوا لذلك، إن بحث اللقاء بالإمام (عليه السلام) بحث مستقل، وقد نالت كثيرا منهم عناية الإمام، أما نحن فكثير منا محرومون لأننا لا نمتلك القابلية المطلوبة.
فكم يحتاج علي بن مهزيار الذي كان يفكر في لقاء الإمام (عليه السلام) إلى مواظبة ومراقبة في علم الأخلاق وباب المراقبات وكم يحتاج من جهد ليطهّر نفسه؟ فقد ذهب إلى الحج في العام الأول والثاني حتى تكرر حجه تسعة عشر عاما، ثم بعد ذلك في العام العشرين نال توفيق اللقاء بالإمام (عليه السلام) (28)، فحين نرى امتلاك أتباع أهل البيت (صلوات الله عليهم) لهذه القمم الروحية الأخلاقية، فلأنهم يمتلكون هذا التوجه.
إذن؛ يمكن تلخيص العامل السابع من عوامل الغيبة، بأن الغيبة تمثل مفردةً من مفردات سَوق البشر إلى التكامل فكرياً ونفسياً وعملياً، وهي مظهر من مظاهر التربية الإلهية للإنسان، وإن أحد النماذج التأريخية الموجودة في هذا الجانب هو أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، فقد أعرض الناس عن أمير المؤمنين بعد وفاة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) ولكن لمسوا الواقع وأدركوا مرارته، فحين ذهب الإمام (عليه السلام) إلى الصحراء واشتغل بغرس النخيل، كان سبب ذلك كما جاء في نهج البلاغة على ما أتذكر، أن الإمام (صلوات الله عليه) قال: (لا يريدني فلان إلا أن أكون كالجمل الناضح، فيقول لي: أقبل فأقبل وأدبر فأدبر)(29).
لقد أبعدوا الإمام (عليه السلام)، وقد لاحظ الناس نتائج إبعاد الإمام وغيبته، ولذلك انهال الناس بعد قتل عثمان على أمير المؤمنين، فقال الإمام (صلوات الله عليه): (فما راعني إلا والناس كعرف الضبع إليّ) لأن عرف الضبع يحتوي على شعر كثيف (ينثالون عليّ من كل جانب. حتى لقد وُطئ الحسْنان) الحسنان هما الإبهامان، فداسوا قدم أمير المؤمنين صلوات الله عليه من شدة زحامهم، (وشُقّ عطفاي) أي شُقّ رداء الإمام (عليه السلام) بسبب زحام الناس، (مجتمعين حولي)(30)، إذن فقد ربّت هذه الغيبة الناس وجعلتهم يشعرون بقيمة الإمام الغائب، وإننا أيضا يمكن أن نتخذ من الغيبة وسيلة من وسائل تربية أنفسنا نفسياً وفكرياً وعملياً.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
اضف تعليق