يبرز هذا الكتاب ويتميّز من جهات عدة، يأتي في مقدمتها أن مؤلفه طرق أبوابًا جديدة لم يسبقه إليها أحد تقريبًا لا قبله ولا بعده، خارجًا بذلك عن النسق المألوف، متخطيًّا ما كان سائدًا، فلم يسبقه أحد آنذاك في الحديث عن قضايا من قبيل العلاقة بين...
زكي الميلاد
-1-
جرداق.. والأدب المتميّز
في الأدب الوفير المدوّن حول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الممتد وغير المنقطع من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة، يبرز في هذا الأدب ويتميّز كتاب الأديب اللبناني المسيحي جورج جرداق (1913-2014م) الموسوم بعنوان: (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، المكوّن من خمسة أجزاء، الصادر ما بين أواخر الخمسينات ومطلع ستينات القرن العشرين، وضم لها المؤلف لاحقًا كتابًا عدَّه جزءًا سادسًا بعنوان: (روائع نهج البلاغة).
يبرز هذا الكتاب ويتميّز من جهات عدة، يأتي في مقدمتها أن مؤلفه طرق أبوابًا جديدة لم يسبقه إليها أحد تقريبًا لا قبله ولا بعده، خارجًا بذلك عن النسق المألوف، متخطيًّا ما كان سائدًا، فلم يسبقه أحد آنذاك في الحديث عن قضايا من قبيل العلاقة بين الإمام علي وحقوق الإنسان، والعلاقة بين الإمام والثورة الفرنسية، وكذلك العلاقة مع الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط (470-399 ق.م).
طرق جرداق هذه الأبواب الجديدة وتميز بها، مقدمًا إسهامًا فكريًّا جادًّا ومهمًّا بات يمثل مرجعًا لا غنى عنه لمن يطرق هذه الأبواب أو يقترب منها، فاتحًا دروبًا لم تكن سالكة من قبل عند الكتّاب والباحثين في حقل الدراسات العلوية، محتفظًا لنفسه بمكانة لا ينازعه عليها أحد من المتقدمين أو المتأخرين.
ويبرز هذا الكتاب ويتميز، كونه أحدث نقلة أدبية مهمة انعطف بها نحو أفق الفكر الحديث، الأفق الذي كان غائبًا عن الأذهان، وبعيدًا عن الالتفات عند الكثيرين من المعاصرين، فقد وجد جرداق بنباهته وأفقه الواسع أن الإمام يكاد يستغرق كليًّا في نمط من الدراسات التاريخية والكلامية، وأراد أن يفك هذا الحصار عن الإمام مقتحمًا أفق الفكر الحديث.
وقد أحسن جرداق كثيرًا بهذا الاختيار، وكان بارعًا فيه وذكيًّا، جعله متفرّدًا على غيره من هذه الجهة ومتفوقًا، ولم يعد هناك من يتماثل معه ويتشابه، فلو كان عمله ينحصر بحقل التاريخ ويتضيق بهذا الأفق، لكانت له وضعية مختلفة في ظل الكم الكبير والممتد من الدراسات التي تتصل بهذا الحقل الواسع، وكذا لو كان عمله يتصل بحقل الدراسات الكلامية وينحصر عليها، لكانت له وضعية مختلفة كذلك، لكنه بدلًا عن ذلك اختار أفقًا جديدًا يتصل بالفكر الحديث.
ويبرز هذا الكتاب ويتميز كذلك، كونه قدم الإسهام الأبرز في دفع مكانة الإمام شخصًا وفكرًا وعدلًا وأخلاقًا إلى الوجهة الإنسانية، وقد أقدم جرداق على هذه الخطوة منطلقًا من قناعة راسخة ترى أن الإمام ليس للشيعة فحسب ولا للمسلمين أو المسيحيين، وإنما هو للإنسانية كافة، وليس لعصر من العصور الإنسانية فحسب، وإنما لكل العصور الممتدة من الأزمنة القديمة إلى هذه الأزمنة الحديثة وما بعدها.
ولولا هذا المنظور الإنساني العام الذي اكتشفه جرداق في شخصية الإمام وفكره وأدبه، لما أولاه كل هذا الاهتمام الذي تجلى في كتابه الموسوعي مدوّنًا أكثر من ألف صفحة، ولما تعلّق به كل هذا التعلق الذي بقي مستمرًّا ولم ينقطع منذ عرفه صغيرًا، وظل معه وعرف عند الآخرين بعاشق الإمام، وهو الوصف الذي اختارته صحيفة النهار اللبنانية عند رحيله.
فالإمام عند جرداق هو عملاق الضمير الإنساني، وعده من العبقريات الكبرى في التاريخ، ومن آباء الإنسانية الكبار، وصوت العدالة الإنسانية التسمية القوية التي اختارها عنوانًا لكتابه الكبير.
ويبرز هذا الكتاب ويتميز أيضًا، كونه جمع بين الأدب والفكر والتاريخ، وظهر مميزًا في كل جانب من هذه الجوانب الثلاثة، التي نادرًا ما تجتمع بهذا التميز في عمل واحد، فمن ناحية الأدب فالكتاب بأكمله من أوله إلى آخره وبأجزائه الخمسة يعد كتابًا أدبيًّا رائعًا، مميزًا ببيانه الموصوف عند الكثيرين بالجميل والبديع، وليس غريبًا أن يظهر الكتاب بهذا الوصف الأدبي المميز فمؤلفه أديب من طراز رفيع.
ومن ناحية الفكر، فالكتاب ظهر متجليًا بهذه الناحية الفكرية، كاشفًا عن سعة اطلاع المؤلف، ودرايته بسيرة الفكرين العربي والأوروبي، وتمرسه في المقابلة بينهما والموازنة، وهي السمة التي ميّزت الكتاب ورفعت من رصيده الفكري، فالمؤلف إلى جانب براعته في الأدب العربي كان قريبًا من الفلسفة التي درّسها لفترة في بيروت.
أما ناحية التاريخ، فما كان بالإمكان أن يغيب هذا الجانب، باعتبار أن الموضوع في أصله يرجع إلى التاريخ، ومن هذه الناحية حضر التاريخ العربي إلى جانب التاريخ الأوروبي، فالتاريخ العربي حضر وتركز في الجزء الرابع عند الحديث عن علي وعصره، وظهر جرداق في هذا الجانب بوصفه صاحب رأي في تحليل أحداث ذلك العصر، مناقشًا بعض الآراء، وناقدًا آراء مجموعة من المؤرخين المصريين المعاصرين ومخالفًا لهم، أمثال: أحمد أمين (1295-1373هـ-1887-1954م) في كتابه (فجر الإسلام)، والدكتور طه حسين (1306-1393هـ/1889-1973م) في كتابه (الفتنة الكبرى)، والدكتور حسين مؤنس (1329-1416هـ/1911-1996م) في تعليقاته على كتاب (تاريخ التمدن الإسلامي) للمؤرخ اللبناني جرجي زيدان (1278-1332هـ/1861-1914م)، والدكتور محمد الطيب النجار (1334-1411هـ/1916-1991م) في كتابه (الموالي في العصر الأموي)، يضاف لهم السوري محمد كرد علي (1293-1372هـ/1876-1953م) في كتابه (الإسلام والحضارة العربية).
ومن هذه الجهة، رأى الأديب اللبناني مخائيل نعيمة (1889-1988م) أن كتاب جرداق احتوى على اجتهادات جديدة في تفسير بعض الأحداث التي رافقت حياة الإمام، تفسيرًا يغاير النمط الذي درج عليه مؤرخوه حتى اليوم[1].
أما التاريخ الأوروبي، فقد حضر وتركز في الجزء الثاني عند الحديث عن علي والثورة الفرنسية، إذ افتتحه جرداق بحديث موسع عن تاريخ الإنسانيات القديمة والمتوسطة والحديثة وكيف تطورت في التاريخ الأوروبي حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم في النهوض بقضايا العدالة والحريات وحقوق الإنسان.
هذه بعض الاعتبارات المهمة التي ترفع مكانة كتاب جرداق، وتميزه في سيرة الأدب المدوّن حول الإمام وفي حقل الدراسات العلوية.
والذين تعرفوا على هذا الكتاب منذ صدوره، ميزوه بهذه المكانة المميزة، وجعلوه فريدًا على غيره من كتب السابقين واللاحقين، وكانوا واثقين بهذا الرأي وجازمين، فقد أشاد به الأديب اللبناني الشيخ سليمان ظاهر (1290-1380هـ/1873-1960م) وميزه قائلًا: «لا نغالي إذا قلنا: إن هذا الكتاب من خيرة إنتاج الفكر العربي واللبناني في مختلف العصور... وحسبه ميزة عن كل ما كتب في موضوعه قديمًا وحديثًا، من عصر الجاحظ وابن أبي الحديد وميثم البحراني ومن لا يحصى بعدهم، أنه الكتاب الوحيد بين مئات الكتب المؤلفة في حياة الإمام العظيمة الذي يدهشك... إن للمؤلف الحكيم في دراسته العميقة هذه، قيمًا يبرز بها على كل من تناول هذا البحث من علماء العرب وحكمائهم على اختلاف الملل والنحل قديمًا وحديثًا، ومن علماء الفرنجة المعروفة دراستهم بدقه النظر»[2].
وأشاد به كذلك وميزه ورفع من مكانته، العالم اللبناني الشيخ محمد جواد مغنية (1322-1400هـ/1905-1979م) متحدثًا عنه مرات عدة، إذ كتب عنه قائلًا: «قرأت هذا السفر مرارًا كثيرة ولا أزال، فشعرت وأنا أقرؤه أني اكتشفت كنزًا فوق الكنوز مجتمعة، فلقد كتب السلف والخلف عن شخصية الإمام ولا يسعك إلَّا أن تقف موقف التواضع والإكبار مما كتبوا وألفوا، ولكن أين كل ما كتبه الأولون والآخرون بما فيهم عباس محمود العقاد وطه حسين مما كتبه الأديب اللبناني الشاب الأستاذ جرداق الذي يدهشك بسحر البيان، وقوة العلم، وعظمة الفن، حتى يستولي عليك ويسيطر على عقلك وشعورك فلا تعود تشعر إلَّا بالكاتب والكتاب... إن قلمي ليعجز عن وصف هذا الكتاب العظيم والسفر الخالد، كما يعجز عن بلوغ الثناء على مؤلفه كما يليق بفنه الأصيل، وعلمه الغزير، وفهمه العميق»[3].
وتناغمًا مع هذا المنحى جاء انطباع المؤرخ اللبناني السيد حسن الأمين (1908-2002م) الذي كتب عن صديقه قائلًا: إن «أول ما يروعك من كتاب الإمام علي هو هذا البيان القوي المتدفق الأصيل الذي يضع جورج جرداق في القمة بين أدباء العربية، وحين توغل في الكتاب يخيل إليك أن أحدًا من المفكرين لم يكتب عن علي قبل اليوم، وأن كتابًا قبل هذا الكتاب لم يوضع عن ابن أبي طالب، وإلَّا فأين كانت هذه الصور المشرقة التي جلَّاها قلم جورج جرداق المبدع الخلَّاق، وأين كانت هذه الكنوز الخبيئة التي كشف عنها بيان جرداق الساحر؟!»[4].
وليس بعيدًا عن هذا المنحى الذي يميز الكتاب ويرفعه، ما ذهب إليه الكاتب المصري إحسان توفيق قائلًا: إن «في هذا الكتاب تبدو شخصية علي بن أبي طالب غير الشخصية التي ألفنا معرفتها عن طريق جميع الذين درسوا عليًّا من القدماء والمعاصرين»[5].
وحين أشار إليه الشيخ مرتضى المطهري (1341-1400هـ/1920-1980م) عده من أفضل الكتب التي كتبت في حق أمير المؤمنين (عليه السلام) [6].
هذه بعض الآراء والانطباعات التي جاءت وكشفت عن تميُّز كتاب جرداق في حقل الدراسات العلوية.
-2-
جرداق والإمام.. بدايات المعرفة وأطوارها
أقبلت على كتاب جرداق وطالعته كاملًا بأجزائه الخمسة، مدفوعًا لمعرفة ماذا كتب ولماذا كتب هذا الأديب العربي المسيحي عن الإمام؟ وكيف صبر وبذل كل هذا الجهد المضني والكبير مدوّنًا موسوعة تخطت ألف صفحة، وضم لها لاحقًا كتابًا سادسًا، متفردًا على غيره بهذا العمل!
من المؤكد لو صدرت هذه الموسوعة من مسلم شيعي لكان الأمر عاديًّا وطبيعيًّا، وحصل مثل هذا الأمر وما زال يحدث! وكذا الحال لو صدرت هذه الموسوعة من مسلم سني! لكن أن تصدر من مسيحي بهذا المستوى الكمي والكيفي فهذا الأمر لا بد أن يقف وراءه أمر ما لعله سر أو ما يشبه السر، ولا يحدث عادة من دون سبب قوي يخلق مثل هذه الإرادة التي عرف بها جرداق، لأننا نتحدث عن موسوعة كبيرة ومميزة استغرقت جهدًا وصبرًا، ولو كان الحديث عن مجرد كتاب مفرد لكان الأمر عاديًّا وطبيعيًّا، فما هو هذا السر؟
نفهم من هذا الأمر أن هناك ظاهرًا وباطنًا في هذا العمل، الجانب الظاهر من السهولة التعرف عليه لكونه منكشفًا، أما الجانب الباطن فمن المهم التعرف عليه، ومن دونه لا تكتمل الصورة، ولولا هذا الجانب ما ظهر العمل بالصورة المدهشة التي ظهر عليها، ونالت إعجاب الكثيرين بما في ذلك مراجع دين كبار مثل السيد محسن الحكيم (1306-1390هـ/1889-1970م) في العراق، والسيد حسين البروجردي (1292-1380هـ/1875-1961م) في إيران.
نعني بالجانب الباطن محاولة التعرف على ما ورائيات العمل التي شكّلت الإرادة وخلقت البواعث النفسية والعلمية عند المؤلف، وكان من ثمرتها هذا العمل الكبير.
وأظن أن معظم الذين تعرفوا على هذا الكتاب، أثار فضولهم التعرف على هذا الجانب الباطن، وأدركوا حاجة الاقتراب منه، وفك شيفرته، واستظهار حقائقه وأسراره.
عند مطالعة الكتاب بدا لي أن جرداق دوّن كتابه بتأن كبير، وبرغبة شديدة، وبراحة تامة، لم يتعجل أو يتسرع، وترك لقلمه التسطير بلا سأم ولا ضجر، يذهب مع الموضوع أينما اتجه، متنقلًا بين حقوله، متفرعًا بين خرائطه، متوغلًا في جزئياته وتفصيلاته، وكان سخيًّا وكتب بقلم سخي، فظهر الكتاب بهذه الصفحات التي فاقت الألف.
أحب جرداق الإمام حبًّا سكن قلبه ولازم عقله، مكوّنًا معرفة واسعة عنه، شملت سيرته ومناقبه وأدبه ونصوصه، وقال في الإمام قول العارف والمحب والعاشق، فهو القائل: «وليس في سير العظماء واحدة كسيرة ابن أبي طالب تحرك المشاعر، وتوقظ الأحاسيس الحية في كيان من يتعرض لها بدرس أو بحث»[7].
لهذا كان جرداق شغوفًا بالكتابة عن الإمام، وأراد أن يصنف كتابًا فريدًا عنه لم يسبقه إليه أحد، يعرف به ولا يقارن بغيره، وقد أنجز فعلًا كتابًا لا نظير له ولا مثيل، ولا يقارن بكتاب آخر في مواصفاته الكمية والكيفية، لكنه صنف كتابًا لن يقرأ كثيرًا، ولعل القليل من قرأ الكتاب كاملًا، فمن الذي يقوى في هذا الزمان ويكون صابرًا على قراءة ما يزيد على ألف صفحة، إلَّا قلة قليلة من الناس.
والسؤال كيف تعرف جرداق على الإمام كل هذه المعرفة؟ ولماذا أحبه كل هذا الحب وأعطاه كل هذه المنزلة وكتب عنه كل هذه الصفحات؟ متى كانت البداية؟ وما هي أطوارها؟
لم يُجب جرداق على هذه التساؤلات في عمله الموسوعي، ومثل هذا الجانب نقصًا واضحًا في بنية الكتاب وتركيبته، وكان يفترض منه أن يلتفت إليه، ويشير له بصورة من الصور في مقدمة الكتاب أو في مقدمات الطبعات الأخرى المتتالية، لأن لديه سيرة طويلة في هذا الشأن تستحق التدوين، وجديرة بالاطلاع، وتلبي رغبة الكثيرين الذين تملكهم شغف التعرف على هذا الجانب.
اقترب جرداق من هذه التساؤلات في حوارات متفرقة أجريت معه، وجاءت هذه الحوارات بدافع فضول الآخرين الذين تعرفوا على كتابه وأثار دهشتهم، وأرادوا معرفة من أين جاءت هذه المعرفة الفائقة؟ وكيف حصل هذا القرب الموصوف بالحميم الذي يرتقي في نظر بعض لمرتبة العشق بالإمام؟
يتكشف من بعض هذه الحوارات أن معرفة جرداق بالإمام بدأت منذ وقت مبكر، وبقيت هذه المعرفة وتواصلت وتجددت ولم تنقطع أو تتوقف، ويمكن ضبط هذه المعرفة وتحديدها في ثلاثة أطوار أساسية هي:
الطور الأول: تعرف جرداق على الإمام منذ كان طفلًا صغيرًا، ويرجع الفضل في ذلك إلى شقيقة الأكبر الشاعر فؤاد جرداق (1334-1385هـ/1915-1965م)، الذي تأثر به جرداق في صغره، وأسهم في توجيهه، ومنه تعرف على كتب (نهج البلاغة)، جلبه له، وشجعه على مطالعته، وطالبه بحفظ ما أمكن منه، وذلك بعد أن عرف بحبه للشعر والأدب.
والبداية كانت مع حادثة رواها جرداق مرارًا في أحاديثه وحواراته، حصلت معه في أيام الدراسة إذ كان يهرب من المدرسة كلما تتاح له الفرصة، ويذهب ويجلس بين أشجار وينابيع منطقته مرجعيون الواقعة في أقصى الجنوب اللبناني، ويقرأ هناك بنهم في ديوان المتنبي وكتاب (مجمع البحرين) للأديب اللبناني ناصيف اليازجي (1800-1871م)، وحين علم شقيقه فؤاد بالأمر وبدل أن يعاتبه أو يعاقبه كافئه وأهداه كتاب (نهج البلاغة) وقال له: ادرس هذا الكتاب، واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه، فإن فيه الخير كل الخير لمن يطّلع عليه ويحفظ ما فيه.
ولما كانت ذاكرة جرداق جيدة كما يصفها، فإنه ما إن بلغ الثالثة عشرة من عمره، حتى كان يحفظ غيبًا الكثير من الكتب الثلاثة المذكورة، ويخص منها (نهج البلاغة)، وظلت هذه المحفوظات مخزونة في ذاكرته ولم تتلاش.
وتعزّز هذا المنحى عند جرداق وترسخ نتيجة المشاهد السمعية والبصرية المتكرّرة التي كانت تمر عليه في بيت أسرته، إذ كان يسمع ويشاهد ويصغي لشقيقه فؤاد وهو ينشر على مسامع زوار البيت قصائده الكثيرة حول الإمام، تتناول عبقريته وسمو فكره وعظمته الإنسانية إلى جانب الحديث عن سيرته المشرفة، ورأى من والده مهندس البناء وهو ينحت بيده كلمات الإمام على الحجر.
هذه المواقف والمشاهد رسمت في مخيلة جرداق صورة أولية لرجل عظيم بقيت في ذاكرته، وترسخت مع مرور الأيام وتعاظمت.
الطور الثاني: بدأ هذا الطور حين انتقل جرداق إلى بيروت لمتابعة دراسته ملتحقًا بالكلية البطريركية سنة 1949م، حصل ذلك بعد أن رفض جرداق العرض الكبير الذي قدمه له قريبه عالم الرياضيات منصور جرداق للابتعاث إلى أوروبا لدراسة العلوم الطبيعية والرياضية، متعللًا بتعلقه الشديد ببلدته وبيئتها الطبيعية والروحية، وميله الكبير إلى الشعر والأدب.
اختار جرداق الكلية البطريركية لشهرتها في تخريج أقدر الطلاب في حقل اللغة العربية وآدابها، وكان من أساتذته الذين يعتز بذكرهم والاعتراف بفضلهم، الأديب والناقد رئيف خوري (1912-1968م) صاحب كتاب (الفكر العربي الحديث.. أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي) الصادر سنة 1943م، والأديب والمؤرخ فؤاد أفرام البستاني (1904-1994م) صاحب كتاب (نهج البلاغة درس ومنتخبات) الصادر سنة 1932م، والأديب والشاعر ميشال فريد غريب.
مثّلت الدراسة في هذه الكلية محطة مهمة في سيرة جرداق وفي تطور تجربته الفكرية والأدبية، لدرجة كان يرغب دائمًا في الحديث عنها، معترفًا لها بالفضل المعنوي والأدبي، ومفتخرًا بالانتساب إليها، والتخرج منها، فقد أسهمت في تعميق معارفه، وصقل مواهبه، وترسيخ علاقته باللغة والشعر والأدب، وهي التي فتحت عليه الأبواب، وعبَّدت له الدروب التي سلكها فيما بعد.
وسرعان ما لفت جرداق الانتباه إليه، حين نشر مبكرًا في الثامنة عشر من عمره كتابه الأول بعنوان: (فاغنر والمرأة) الصادر سنة 1950م، متحدثًا عن الشاعر الفيلسوف الألماني ريشارد فاغنر (1813-1883م) فنال الكتاب إعجابًا من جهة البيان، فقد امتدحه العالم اللغوي الشيخ عبدالله العلايلي (1914-1996م)، ونقل جرداق أن الدكتور طه حسين أدرجه في قائمة المؤلفات المعدودة التي يطلب من طلاب الأدب الجامعيين الاطلاع عليها.
بعد تخرجه من الكلية مارس جرداق إلى جانب الكتابة، التدريس في بعض معاهد بيروت سنة 1953م، ملتزما بمادتي الأدب العربي والفلسفة العربية، ومن خلال هاتين المادتين جدّد جرداق علاقته بالإمام، إذ وجد حسب البرنامج المقرر أن نتاج الإمام الأدبي والفكري مطلوب في هاتين المادتين، عندها رأى أن ما كان يحتفظ به منذ طفولته من خواطر ومشاعر غير كافٍ في مجال التدريس، الأمر الذي حفّزه للاطلاع من جديد على سيرة الإمام وميراثه الأدبي والفكري.
الطور الثالث: بدافع التدريس وتعميق المعرفة أخذ جرداق بقراءة ما كتب عن الإمام في مؤلفات السابقين والمعاصرين، فخرج بانطباعات ما كانت مرضية له، ولم يجد فيها ما كان يفتش عنه، ورأى أن عليًّا أكبر وأعظم مما جاء في هذه الكتب، فهي لا تقدمه إلى الفكر الإنساني عامة، وإلى الناس كافة، ولم تنصفه كما ينبغي.
وتبيّن لجرداق بعد مطالعة هذه المؤلفات، أن معظمها يدور حول أمور تاريخية محدودة بزمان ومكان معينين، وقد تعني فئة من الناس في بعض مراحل التاريخ ولا تعني جميع الناس في كل الأزمنة، وأكثرها يدور حول حق الإمام في الخلافة ومقدار هذا الحق في نظر المؤلفين، ورأى أن لكل من هؤلاء المؤلفين دوافع تحركه، ولا علاقة متينة لها بالموضوعية التي تدور في نطاق الفكر العلوي، وبنظرة الإمام إلى معنى الوجود ونواميسه الثابتة، ولشروط الحياة التي لا بد من إجرائها في المجتمع الإنساني ليكون مجتمعًا سليمًا في تكوينه، معافى في مسيرته، كريمًا في غايته.
وعلى ضوء هذا الانطباع ارتأى جرداق العودة من جديد إلى (نهج البلاغة)، متلمّسًا قراءة واعية تكون أوفى بالمراد من قراءته القديمة في ذلك السن المبكر، وحين قرأه من جديد تبيّن له أن الإمام أعمق وأعظم من كل ما دارت حوله أبحاث الكتّاب والباحثين قدامى ومحدثين، ووجد بخلاف هؤلاء أن إنسانية الإمام بكل عناصرها ودعائمها تنبثق من فكر صافٍ وشعور عميق بمعنى الوجود الحقيقي، وأن ما دعا إليه بمبادئه وسيرته يتجاوز حدود الزمان والمكان إلى كل زمان ومكان.
من هنا قرّر جرداق أن يخوض المعركة بنفسه، وبدافع من حبه للحقيقة، أن يضع كتابًا موسوعيًّا عن الإمام، يكون فيه بعض الإحاطة بهذه الشخصية العظيمة وبعض الإنصاف، واستدراك ما أهمله المؤلفون قبله، فجاء كتابه المشع بعنوانه، البليغ ببيانه، المدهش بحقائقه، المتجلي بإنسانيته، وعده جرداق من بين كل مؤلفاته الألصق بأعماقه.
-3-
لماذا الإمام علي؟
طالما واجه جرداق هذا السؤال، وظل يلاحقه دومًا وأينما ذهب، وشكّل فضولًا يتجدد عند الآخرين يريدون معرفة لماذا الإمام علي دون سواه؟ ناظرين إلى أن جرداق قدّم عملًا هو بكل المقاييس ليس عاديًّا لا من ناحية الكم ولا من ناحية الكيف، وجاء من رجل مسيحي أثار الدهشة بكتابه الموسوعي، متفوقًا على غيره من الكتاب العرب والمسلمين.
لكن جرداق يرى أنه قد أجاب مستفيضًا عن هذا السؤال، معتبرًا أن كتابه كله بكل صفحاته وأجزائه يمثل إجابة شافية عليه، ومن يرجع إلى الكتاب يجد فعلًا مثل هذه الإجابة مثبتة لكنها مبثوثة بين صفحاته التي تخطّت الألف، وموزعة بين أجزائه الخمسة أو الستة بإضافة كتاب (روائع نهج البلاغة) الذي عده جرداق جزءًا سادسًا.
الأمر الذي يعني أن الإحاطة بهذه الإجابة فيها قدر من المشقة، لأنها تستلزم مطالعة الكتاب من أوله إلى آخره وبكل أجزائه، ومن الذي يقوى على هذه المهمة ويصبر عليها، فلا يقوى عليها ويصبر إلَّا أولئك الذين امتحنوا قلوبهم بالعلم والمعرفة، وهم قلة من الناس في كل المجتمعات على اختلاف مِللها ونِحلها.
وعند النظر في الكتاب فحصًا وتتبعًا، يمكن الوصول إلى مثل هذه الإجابة أو الاقتراب منها، متحددة في الأمور الآتية:
أولًا: العدالة عند الإمام
مثّلت هذه القضية نقطة المركز في كتاب جرداق، ودارت حولها وتمحورت باقي القضايا والتفريعات الأخرى، فهي القضية التي أثارت دهشة جرداق وجعلته منجذبًا بقوة نحو الإمام شخصًا وتراثًا، وتجلى هذا الأمر حين عده صوت العدالة الإنسانية، مبرزًا كتابه ومعرفًا له بهذا العنوان العظيم.
ودل على ذلك قول جرداق: «وأما العدالة بوصفها قانونًا من قوانين الأخلاق الشخصية، ومنهجًا تلتزمه الجماعة إن شاءت أن تسعد، فتكاد أن تكون الموضوع الرئيسي لكتابنا عن ابن أبي طالب»[8].
كما أن كتاب جرداق يحفل بالعديد من النصوص الدالة على هذه القضية، من هذه النصوص الدالة قوة وبلاغة، قول جرداق: «هل عرفت في مواطن العدالة، عظيمًا ما كان إلَّا على حق ولو تألَّب عليه الخلق في أقاليم الأرض جميعًا، وما كان عدوه إلَّا على باطل ولو ملأ السهل والجبل، لأن العدالة فيه ليست مذهبًا مكتسبًا وإن أصبحت في نهجه مذهبًا فيما بعد، وليست خطة أوضحتها سياسة الدولة وإن كان هذا الجانب من مفاهيمها لديه، وليست طريقًا يسلكها عن عمد فتوصله من أهل المجتمع إلى مكان الصدارة وإن هو سلكها فأوصلته إلى قلوب الطيبين، بل لأنها في بنيانه الأخلاقي والأدبي أصل يتحد بأصول، وطبع لا يمكنه أن يجوز ذاته فيخرج عليها، حتى لكأن هذه العدالة مادة ركّب منها بنيانه الجسماني نفسه في جملة ما ركّب منه، فإذا هي دم في دمه وروح في روحه»[9].
وفي نص بليغ آخر، قال جرداق: «ليس غريبًا أن يكون علي أعدل الناس، بل الغريب ألَّا يكونه، وأخبار علي في عدله تراث يشرف المكانة الإنسانية والروح الإنساني... وتجري في روحه العدالة حتى أمام أبسط الأمور، فهو إذا استوى وأخذ الناس في حق باختيار متاع من أمتعة الدنيا آثر أن يكون هذا الاختيار من نصيب غيره لئلَّا يشعر هذا الغير بأن النصيب الأوفر من الحقوق ملازم للكبير دون الصغير... ووصايا الإمام ورسائله إلى الولاة تكاد تدور حول محور واحد هو العدل، وما تواطأ الناس عليه، أباعد وأقارب، إلَّا لأنه ميزان العدالة الذي لا يميل إلى قريب ولا يساير نافذًا ولا يجوز فيه إلَّا الحق»[10].
وفي نص ثالث، قال جرداق: «نضجت في ذهن الإمام القوي فكرة العدالة الاجتماعية على أساس من حقوق الجماعة التي لا بد لها أن تنتهي بإزالة الفروق الهائلة بين الطبقات... فكان صوته في معركة العدالة الاجتماعية هذه مدويًّا أبدًا، ودفاعه عن قيم الإنسان عظيمًا أبدًا، شديدًا لا هوادة فيه ولا لين، كان في حكومته المثل الأعلى للحاكم الواعي لحقوق الإنسان في تلك الحقبة من تاريخ البشر، العامل على تنفيذ منطوقها بكافة ما لديه من وسائل»[11].
ثانيا: المساواة عند الإمام
يرى جرداق أن الإمام كان سبّاقًا إلى إدراك المساواة كضرورة اجتماعية لا يستقيم بدونها مجتمع، واستطاع أن يوسّع حدود هذه المساواة، ويبلغ بها آفاق الإنسانية العامة، وحسب قوله: «أما هذه المساواة فقد رأينا أن ابن أبي طالب سبّاق إلى إدراكها كضرورة اجتماعية لا يستقيم بدونها مجتمع، ولا يشمخ له بناء، كما رأينا كيف عقل المفهوم الصحيح للمساواة وكأنه بذلك من مفكّري هذه العصور لا من أبناء القرن السابع للميلاد، عقلها في كافة الحقوق وكافة الواجبات، وجعل الناس كلهم أسوة لا فرق فيهم بين بعيد وقريب، أو عدو ونسيب، أو مسلم وغير مسلم، أو عربي وأعجمي، وبهذا يكون علي قد استأنس بما في الخُلق العربي من حب للمساواة، ثم وسّع حدود هذه المساواة حتى بلغ آفاق الإنسانية العامة، وأكسبها معناها الذي تريده طبيعية الإنسان وطبيعة المجتمع»[12].
ثالثًا: الحرية عند الإمام
لم يجد جرداق المدلول الواسع العام لمفهوم الحرية في ذلك العصر إلَّا في نهج الإمام، وحسب قوله: «فلو استعرض المرء لفظة الحرية في ذلك العصر لما وجد لها مدلولها الواسع العام إلَّا في نهج الإمام علي، فإن كلمة الحرية ومشتقاتها جميعًا لم يكن لها من المدلول في عصر الإمام إلَّا ما يقوم منها في معارضة الرق، فالحرية ضد العبودية، والحر ضد العبد أو الرقيق... أما عند علي بن أبي طالب فالأمر غير ذلك، ومفهوم الحرية أوسع وأعم... وهذا ما نراه واضحًا كل الوضوح في دستور علي في الناس، فهو يعترف للأفراد بحقهم في الانتخاب والاعتزال، وفي القول والعمل، وفي العيش الكريم، ثم يساوي بينهم جميعًا في الحقوق والواجبات، ولا يجعل لهذه الحرية حدودا إلَّا إذا اقتضت مصلحة الجماعة مثل هذه الحدود»[13].
كما وجد جرداق أن الإمام عاش الحرية، وعمل في سبيلها، وبنى مسلكه عليها، وكان المثل الحي المجسد لها والمدافع عنها، وأبان ذلك قائلًا: «هذه الحرية سواها علي ووجهها توجيهًا إنسانيًّا سليمًا، وجعلها مسؤولة، عاشها، وعمل في سبيلها، وبنى عليها مسلكه الشخصي ودستوره العام، ولا إخال القارئ يستزيدنا بحثًا في مفهوم الحرية عند علي بعد أن قرأ في هذا الموضوع وفيما يدور حوله أكثر من ألف صفحة من صفحات هذا الكتاب، ونوجز ذلك كله بأن ابن أبي طالب مثل حي لأجل مفاهيم الحرية، فمسلكه تجسيم للاعتراف بحرية الناس فيما يرون ويفعلون، شرط ألَّا يسيئوا إلى الهيئة العامة، ودستوره تنظيم لهذا الاعتراف وتعميم، وإحساسه بالحرية كقيمة إنسانية أساسية، تلقاه وراء مسلكه ووراء دستوره، وهو بهذه الأمور جميعًا، نموذج للشخصية العربية الحرة كما يجب أن تكون»[14].
رابعًا: البلاغة عند الإمام
ليس هناك أبلغ من جرداق حين يكتب عن بلاغة الإمام، ونراه شغوفًا حين الاقتراب من هذا الجانب، ويكفي معرفة أن من هذا الجانب البلاغي بدأت معرفته الأولى المبكرة بالإمام، وبتأثيره الساحر توطدت هذه المعرفة وتعمقت، فأنتجت مع مرور الوقت نصوصًا متجلية البيان، تليق به وهو يتحدث عن بلاغة الإمام التي مثلت عنده المثل الأعلى في البلاغة بعد القرآن الكريم.
من هذه النصوص الدالة، كتب جرداق قائلًا: «إن من شروط البلاغة التي هي موافقة الكلام لمقتضى الحال، لم تجتمع لأديب عربي كما اجتمعت لعلي بن أبي طالب، فإنشاؤه أعلى مثل لهذه البلاغة بعد القرآن، فهو موجز على وضوح، قوي جيّاش، تام الانسجام لما بين ألفاظه ومعانيه وأغراضه من ائتلاف، حلو الرنة في الأذن، موسيقي الوقع، وهو يرفق ويلين في المواقف التي لا تستدعي الشدة، ويشتد ويعنف في غيرها من المواقف، ولا سيما ساعة يكون القول في المنافقين والمراوغين وطلاب الدنيا على حساب الفقراء والمستضعفين وأصحاب الحقوق المهدورة، فأسلوب علي صريح كقلبه وذهنه، صادق كطويته، فلا عجب أن يكون نهجًا للبلاغة! وقد بلغ أسلوب علي من الصدق حدًّا ترفع به حتى السجع عن الصنعة والتكلف، فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة، أبعد ما يكون عن الصنعة وروحها، وأقرب ما يكون من الطبع الزاخر»[15].
وعن الخطابة وبلاغة الإمام، كتب جرداق قائلًا: «والخطباء في العرب كثيرون، والخطابة من فنونهم الأدبية التي عرفوها في الجاهلية والإسلام، ولا سيما في عصر النبي والخلفاء الراشدين لما كان لهم بها من حاجة، أما خطيب العهد النبوي الأكبر فالنبي لا خلاف في ذلك، أما في العهد الراشدي وفيما تلاه من العصور العربية قاطبة، فإن أحدًا لم يبلغ ما بلغ إليه علي بن أبي طالب في هذا النحو، فالنطق السهل لدى علي كان من عناصر شخصيته، وكذلك البيان القوي بما فيه من عناصر الطبع والصناعة جميعًا... وإنه لمن الصعب أن تجد في شخصيات التاريخ من اجتمعت لديه كل هذه الشروط التي تجعل من صاحبها خطيبًا فذًّا، غير علي بن أبي طالب ونفر من الخلق قليل، وما عليك إلَّا استعراض هذه الشروط، ثم استعراض مشاهير الخطباء في العالمين الشرقي والغربي، لكي تدرك أن قولنا هذا صحيح لا غلو فيه»[16].
خامسًا: عظمة الإمام
ما من أحد من المعاصرين فاق جرداق في الحديث عن عظمة الإمام، وقد ظل يصفه مرارًا بالعظيم، وعده عظيم طائفة العظماء في الشرق، بل إن كتابه من أوله إلى آخره جاء لتأكيد عظمة الإمام، ولإثبات كما يقول «أن في تاريخنا صفحات رائعة من الإشراق الإنساني العظيم، تشرفنا كعرب كما تضيف شرفًا إلى تاريخ الإنسان»[17].
وقبل أن يتطرق جرداق إلى جوانب من عظمة الإمام، لفت الانتباه إلى ملاحظة رأى فيها غبنًا بحق الإمام حصلت في أكثر المؤلفات التي دونت عنه وفيه، وحسب قوله: «أليس من الغبن أن يدور الحديث في أكثر المؤلفات الموضوعة عن ابن أبي طالب حول موضوعات تكاد تنحصر في واحد يدور فيه كل بحث وكل جدال، وهو إن جاوزه فللكلام على الضرب بالسيوف حتى تتقوس والطعن بالرماح حتى تتقصف، ثم عن مقاتليه تنحط عليهم الطير من السماء وتمزّقهم سباع الأرض؟ إن لهذه الأمور موضوعًا في تاريخ علي ولا ريب، لأن أخبارها انحسرت عن ألف قضية وقضية في التاريخ البعيد، ولكن جوانب العظمة الحقيقية في ابن أبي طالب أكثر من ذلك، وهي إن درست فلكي تتوضح بعض الخفايا التاريخية في حياة الرجل وحياة معاصريه، لا لكي يدور على محورها كل بحث وكل نقاش»[18].
ومن تلميحات جرداق بعظمة الإمام، تساءل قائلًا: «هل عرفت من الخلق عظيمًا يلتقي مع المفكرين بسمو فكرهم، ومع الخيّرين بحبهم العميق للخير، ومع العلماء بعلمهم، ومع الباحثين بتنقيبهم، ومع ذوي المودة بموداتهم، ومع الزهاد بزهدهم، ومع المصلحين بإصلاحهم، ومع المتألمين بآلامهم، ومع المظلومين بمشاعرهم وتمردهم، ومع الأدباء بأدبهم، ومع الأبطال ببطولاتهم، ومع الشهداء بشهادتهم، ومع كل إنسانية بما يشرفها ويرفع من شأنها، ثم إن له في كل ذلك فضل القول الناتج عن العمل، والتضحية المتصلة بالتضحية، والسابقة في الزمان!»[19].
وعلى هذا النسق من التلميح بعظمة الإمام، تساءل جرداق كذلك قائلًا: «هل عرفت عقلًا كهذا العقل، وعلمًا كهذا العلم، وبلاغة كهذه البلاغة، وشجاعة كهذه الشجاعة، تكتمل من الحنان بما لا يعرف حدودًا حتى ليبهرك هذا القدر من الحنان كما يبهرك ذلك القدر من المزايا تلتقي جميعًا وتتحد في رجل من أبناء آدم وحواء، فإذا هو العالم المفكر الأديب الإداري الحاكم القائد الذي يترك الناس والحكام وذوي المطامع والجيوش يتآمرون به، ليقبل عليك فيهز فيك مشاعر الإنسان الذي له عواطف وأفكار، فيهمس في قلبك هذه النجوى الرائعة بما فيها من حرارة العاطفة الكريمة قائلًا: «فقد الأحبة غربة»، أو «لا تشمت بالمصائب»، أو «ليكن دنوك من الناس لينًا ورحمة»، أو «واعفُ عمَّن ظلمك، وأعطِ من حرمك، وصِلْ من قطعك، ولا تبغض من أبغضك»»[20].
وبعد أن تتبع جرداق جوانب من عظمة الإمام، ختم قائلًا: «أعرفت هذا العظيم أم لم تعرفه، فالتاريخ والحقيقة يشهدان أنه الضمير العملاق، الشهيد أبو الشهداء علي بن أبي طالب صوت العدالة الإنسانية، وشخصية الشرق الخالدة»[21].
هذه كانت بعض الإشارات البارزة التي تجيب عن سؤال: لماذا اختار جرداق عليًّا بالذات ودون سواه؟ ولماذا عدَّه صوت العدالة الإنسانية؟ وفي الكتاب الكثير من الإشارات الدالة على ذلك، وفي المحور الآتي تتجلى بعض هذه الإشارات.
-4-
الإمام والفكر الإنساني
حاول جرداق أن يقدّم صورة نموذجية تكون جديدة للإمام تليق به سيرةً وتراثًا، وتضعه في قلب الأفق الإنساني، وفي ساحة الفكر الإنساني، بوصفه عظيمًا من عظماء الإنسانية، والعظيم الحق في نظر جرداق لا يخصّ طائفة من البشر ولا قومًا دون قوم، فعلي عظيم طائفة العظماء في الشرق.
أقدم جرداق على هذه الخطوة وكان واثقًا أنه سيضيف شيئًا مهمًا، مقدمًا للفكر الإنساني نموذجًا خلَّاقًا وعظيمًا، بإمكان الإنسانية كافة وفي مراحلها المختلفة التعلّم منه، والتواصل معه، داعيًا للارتباط به، والتعرف عليه، باعتباره من العبقريات الكبرى في التاريخ، معترفًا له بالريادة في عصره بعد العصر النبوي وما بعد عصره، وبقي وما زال يمثل نبعًا خلَّاقًا لا نظير له ولا مثيل.
وأراد جرداق من هذه المحاولة تخطّي النطاق العربي مرتقيًا إلى النطاق العالمي، وحسب قوله: «إننا إذ ننطلق من النطاق العربي إلى النطاق العالمي الوسيع، ومن حدود الزمان العربي المقيد بتاريخين متقاربين إلى حدود الزمان العالمي الذي يشمل بدء وجود الإنسان حتى عصر النهضة في أوروبا، والذي عاش فيه عباقرة عظام، وسنّت دساتير، وقامت ثورات اجتماعية وأخلاقية وسياسية، لا بد لنا أن ندرك أن لابن أبي طالب مكانة بين هؤلاء الأفذاذ أصحاب الدساتير، ومحدثي الثورات، فما هي هذه المكانة؟ وما هو محل الرجل بين أولئك الرجال؟»[22].
وفي هذا النطاق، ولهذا الغرض جاءت موضوعات الكتاب، التي تناولت أربع قضايا كبرى هي من صميم الفكر الإنساني، وبحسب ترتيبها هي:
أولًا: الإمام وحقوق الإنسان
لعل جرداق من أسبق الذين لفتوا الانتباه إلى مثل هذه المقاربة بين الإمام ومسألة حقوق الإنسان، وقد يكون أول من دوّن كتابًا في هذا الشأن، مسجّلًا موقعًا رياديًّا في تاريخ تطور الأدب العلوي الحديث، فاتحًا به أفقًا جديدًا، ومعبّدًا طريقًا للآخرين الذين سلكوه كثيرًا من بعده، فقد تطورت فيما بعد وتراكمت الدراسات حول هذه المقاربة.
كان من السهولة على جرداق الذي تعرّف على الإمام وميراثه الأدبي والفكري أن يتنبه لهذه المسألة، ويعطيها هذه الأهمية، ويختارها لتكون في المرتبة الأولى، مفتتحًا بها كتابه الموسوعي.
ومسألة حقوق الإنسان ليست حاضرة في سيرة الإمام وتراثه فحسب، وإنما هي متجلية وشفافة في هذا التراث العلوي الخلَّاق، بشكل لا يقارن بغيره بعد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على الإطلاق.
وفي نظر جرداق أن الإمام له شأن في تاريخ حقوق الإنسان، جازمًا بهذا الرأي وواثقًا، وساعيًا لترسيخ هذه الحقيقة في ساحة الفكر الإنساني الحديث، وحسب قوله: «قد كان لعلي بن أبي طالب في تاريخ حقوق الإنسان شأن أي شأن، وآراؤه فيها تتصل اتصالًا كثيرًا بالإسلام يوم ذاك، وهي تدور على محور من رفع الاستبداد، والقضاء على التفاوت الطبقي بين الناس، ومن عرف علي بن أبي طالب وموقفه من قضايا المجتمع أدرك أنه السيف المسلّط على رقاب المستبدين الطغاة، وأنه الساعي في تركيز العدالة الاجتماعية بآرائه وأدبه وحكومته وسياسته، وبكل موقف له ممن يتجاوزون الحقوق العامة إلى امتهان الجماعة والاستهتار بمصالحها، وتأسيس الأمجاد على الكواهل المتعبة»[23].
وليس باستطاعة العلوم الاجتماعية الحديثة في نظر جرداق، إلَّا تأييد ما جاء عن الإمام من آراء وأصول تتعلّق بحقوق الإنسان، ونص على ذلك قائلًا: «للإمام علي بن أبي طالب في حقوق الإنسان وغاية المجتمع أصول وآراء تمتد لها في الأرض جذور وتعلو لها فروع، أما العلوم الاجتماعية الحديثة فما كانت إلَّا لتؤيّد معظم هذه الآراء وهذه الأصول، ومهما اتخذت العلوم الاجتماعية من صور وأشكال، ومهما اختلف عليها من مسميات، فإن علّتها واحدة وغايتها واحدة كذلك، وهما رفع الغبن والاستبداد عن كاهل الجماعات. ثم بناء المجتمع على أسس أصلح تحفظ للإنسان حقوقه في العيش وكرامته كإنسان، ومحورها حرية القول والعمل ضمن نطاق يفيد ولا يسيء، وتخضع هذه العلوم لظروف معينة من الزمان والمكان لها الأثر الأول في تكوينها على هذا النحو أو ذاك»[24].
ثانيًا: الإمام والثورة الفرنسية
قارب جرداق العلاقة بين الإمام ومسألة حقوق الإنسان من زاويتين، زاوية خاصة تتعلّق بهذه العلاقة في نطاقها العربي والإسلامي، وزاوية عامة تتعلّق بهذه العلاقة في النطاق الإنساني.
الزاوية الخاصة كانت موضوع القسم الأول، وفيه حاول جرداق مقاربة مسألة حقوق الإنسان استنادًا إلى سيرة الإمام ونصوصه وكيف تجلّت في تربيته وأخلاقه وأدبه، وكيف ظهرت في مواقفه وأقواله مبرزة عناوين الحقوق والحرية والعدالة والمساواة وغيرها.
أما الزاوية العامة فكانت موضوع القسم الثاني، وفيه حاول جرداق مقاربة مسألة حقوق الإنسان من جهة المقارنة بين نصوص الإمام ومبادئ الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان في ناحية، وبين نصوص الإمام والإعلان العالمي لحقوق الإنسان في ناحية أخرى، لكون أن الإمام في نظر جرداق يمثل أحد عظماء الإنسانية الذين أسهموا في الإعلان عن حقوق الإنسان.
اعتنى جرداق بالثورة الفرنسية لأنه يرى في مبادئها تجميع ما في الإنسانيات من جليل في معنى حقوق الإنسان، ولكونها مثّلت محطة مهمة في تاريخ تطور فكرة حقوق الإنسان، إذ عرفت بإعلانها الشهير الموسوم بتسمية (إعلان حقوق الإنسان والمواطن) الصادر عن الجمعية التأسيسية سنة 1789م، والمكوّن من سبعة عشر مادة.
جاءت هذه المقاربة من جرداق مرتكزة على حجة وصفها بالحجة الكبرى، لكونها من المقاربات غير المألوفة، وتقع بعيدة عن الخيال، ولا تخطر على البال، فمن الذي يتنبّه لمقاربة بين الإمام والثورة الفرنسية، ومن يقترب من هذه المقاربة يتلمس الحاجة لتوثيقها بالحجة أو الحجج تحرّيًا لعلمية البحث وموضوعيته.
وعن هذه الحجة الكبرى قال جرداق: «وحجتنا الكبرى في هذه المقاربة ليست عثورنا على عبارة هنا وعبارة هناك لابن أبي طالب تقابل في المعنى تلميحًا أو تصريحًا هذه العبارة أو تلك من المبادئ السبعة عشر التي تتألف منها وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، والتي هي نتاج عمل الإنسانية المشترك خلال عصور التاريخ جملة، فتلك حجة واهية في أكثر الأحوال... وإنما حجتنا هي ما نراه في ابن أبي طالب من تماسك تام في الشخصية يجعل منه مفكرًا ذا أصول متلازمة وفروع منظمة الاتجاه... وهذا التماسك في شخصية ابن أبي طالب واضح ساطع في هذا التمازج المطلق بين تعاليمه وعهوده وخطبه ووصاياه، وبين مسلكه مع نفسه ومع الناس... كان يحيا فكرته بقلبه وبدمه قبل أن تصبح فكرة مصوغة بألفاظ وتعابير، فإذا هي تنبثق عن حياته ومسلكه انبثاقًا طبيعيًّا صافيًا لا يد فيه للصنعة، ولا عمل فيه لحمل النفس على ما لا تطيق، وهذه الحقيقة عنه هي التي تبعد الجفاف عن تعاليمه ودستوره، وتكسبها حرارة وحنانًا حتى لكأنها حديث الأب إلى ابنه أو مناجاة المرء لنفسه، فهي بذلك ليست من صنع العقل وحده، بل يشترك فيه إبداعها العقل والخيال والعاطفة الدافئة الحنون، وتلك من آيات ابن أبي طالب»[25].
وبعد أن تتبع جرداق المبادئ السبعة عشر لوثيقة حقوق الإنسان الفرنسية، متبوعًا كلٌّ منها بما أعطاه الإمام من أصول توافقها في المعنى، ومن نصوص ترادفها أو تماشيها في الغاية، بعد هذا التتبع خلص جرداق إلى نتيجة مهمة قررها قائلًا: «وإخالك قد أدركت ووعيت أن هذه المبادئ التي عاشها أدباء الإنسانية، ولم تأخذ صيغتها القريبة من الكمال إلَّا في عقول أدباء الثورة الكبرى وفي قلوبهم، إنما هي مبادئ فكّر بها منذ أربعة عشر قرنًا، عملاق العقل العربي علي بن أبي طالب، وصاغها صريحة تعلن عن ذاتها جوهرًا في كل حين، ونصًّا وجوهرًا في أكثر الأحيان! وإن في هذا الواقع ما يبرز لنا قيمة ابن أبي طالب بمقياس العظمة الحقيقية، عظمة الإنسان الذي يفكر عميقًا، ويعمل صادقًا، ويحيا خيرًا ويموت شهيدًا، ويترك في كل حالاته آثارًا إن إجريتها على محك العقل شمخت وتعالت، وإن أجريت عليها مقاييس الحنان الإنساني انتفضت وعاشت»[26].
بعد هذه المحطة التي ترتد إلى أخريات القرن الثامن عشر الميلادي، تحول جرداق إلى المحطة الأهم والأحدث زمنا مع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في أخريات النصف الأول من القرن العشرين، الذي ثبّته جرداق في هذا الجزء من كتابه، دافعًا القارئ ليرى بنفسه إن كان هنالك من فرق أساسي بين المذهب العلوي في الحقوق العامة وهذه الوثيقة، ثم ليدرك أين يستقر هذا الفرق وما هي أسبابه!
ومن جهته يرى جرداق أنه يصعب على المرء أن يجد اختلافًا بين المذهب العلوي وهذه الوثيقة الدولية من حيث الروح العامة، أما الفوارق في الفروع ثم في الصيغ فهي محتومة في نظره مع اختلاف الزمان، أما الأسس فليس من أساس في هذه الوثيقة إلَّا وتجد له مثيلًا في دستور ابن أبي طالب، بل تجد في دستوره ما يعلو ويزيد[27].
والفارق الرئيسي في نظر جرداق إنما يتعلّق في جهة الواضعين، ويتلخّص عنده في أربع نقاط هي:
أولًا: أن الوثيقة الدولية لإعلان حقوق الإنسان وضعها ألوف المفكرين ينتمون لمعظم دول الأرض أو لها جميعا، فيما وضع الدستور العلوي عبقري واحد هو علي بن أبي طالب.
ثانيًا: أن عليًّا يسبق واضعي هذه الوثيقة ببضعة عشر قرنًا.
ثالثًا: أن واضعي هذه الوثيقة، أو جامعي شروطها قد ملؤوا الدنيا عجيجًا فارغًا حول ما صنعوا وما يصنعون، وأكثروا من الدعاوة لأنفسهم على صورة ينفر منها الصدق والذوق جميعًا، وأزعجوا الإنسان بمظاهر غرورهم وما إليه، وحمّلوه ألف منة وألف حمل ثقيل. فيما تواضع ابن أبي طالب للناس ورب العالمين فلم يستعلِ ولم يستكبر بل رجا الله والناس في أن يغفروا له ما عمل وما لم يعمل!
رابعًا: أن معظم هذه الدول المتحدة التي أسهمت في وضع وثيقة حقوق الإنسان، واعترفت بها، هي التي تسلب الإنسان حقوقه، فينتشر جنودها في كل ميدان تمزيقًا لهذه الوثيقة وهدرًا لهذه الحقوق، فيما مزّق ابن أبي طالب صور الاستبداد والاستئثار حيث حطّت له قدم، وحيث سُمع له قول، وحيث أشرق سيفه مع نور الشمس، وسوَّى بها الأرض ومشّى عليها الأقدام، ثم قضى شهيد الدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات بعد أن استشهد في حياته ألف مرة![28].
وما إن أكمل جرداق هذه المقابلة أو المقارنة بين المذهب العلوي في الحقوق وبين مبادئ الوثيقتين الفرنسية الدولية لحقوق الإنسان، حتى بدا له التنبيه بأن أصالة النظر والتفكير عند الإمام لا تقف عند هذا الحد، بل إنها تجاوزت إلى ما هو أبعد من تلك الوثيقتين، وحسب قوله: «لا بد أن نذكر القارئ العربي بأن عملاق تاريخنا لم تقف به أصالته الأصيلة في النظر والتفكير عند هذا الحد الذي صوّرناه، بل تجاوزت به إلى ما هو أبعد من هاتين الوثيقتين، من تقرير حقائق اجتماعية ظل المفكّرون بعيدين عن إدراكها حتى أواسط القرن التاسع عشر، أو قل حتى أوائل القرن العشرين، كما ظل كثير من البشر بعيدين عن أن ينظروا فيها كحقائق صحيحة حتى يومنا هذا»[29].
ثالثًا: الإمام وسقراط
لعل الأرجح في هذه المقارنة بين الإمام وسقراط أنها الأولى من نوعها في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر، ولعلها الأولى كذلك في تاريخ الأدب الإنساني الحديث عامة، وإن لم تكن الأولى فهي من أنضج المقارنات وأعمقها.
وقد لا تثير هذه المقارنة دهشة العرب والشرقيين أو تلفت انتباههم كثيرًا وهم الذين لا يثير سقراط دهشتهم عادة، لكنها تثير دهشة الغربيين وتلفت انتباههم كثيرًا فهم الذين يثير سقراط دهشتهم عادة، وقد تدفعهم مثل هذه المقارنة لطرح تساؤل غريب عليهم حول من هو: علي بن أبي طالب الذي وضعته هذه المقارنة إلى صف سقراط الحكيم؟.
وليس من السهولة على ما يبدو التنبّه لمثل هذه المقارنة، كما ليس من السهولة كذلك الإقدام عليها؛ لأن من يعرف عليًّا قد لا يعرف سقراطَ بالقدر الكافي، ومن يعرف سقراطَ قد لا يعرف عليًّا بالقدر الكافي، ومن يعرفهما معًا قد لا يجد رابطًا يجمع بينهما، فأين عالم علي من عالم سقراط! فلا الدين جامع بينهما ولا الزمان ولا المكان، وكل واحد منهما له سيرته الفارقة والمغايرة، وإن جمعت بينهما الشهادة، فعلي شهيد الدين وسقراط شهيد الفلسفة.
أما جرداق فقد تنبّه لهذه المقارنة بذكائه وفطنته؛ لأنه أراد أن ينقل الإمام إلى ساحة الفكر الإنساني، دافعًا بهذا الفكر للاقتراب من عالم الإمام صاحب العبقرية الخلّاقة، ومعرّفًا له بعظيم يثير الدهشة بحكمته كما أثار سقراط دهشة بحكمته، وكأن لسان حاله مخاطبًا أصحاب هذا الفكر قائلًا: عليكم أن تتعرفوا على علي حكيم الكوفة كما تعرفتم من قبل على سقراط حكيم أثينا، وإذا كان لديكم سقراط العظيم في الغرب فلدينا علي العظيم في الشرق! وكل عظيم في نظر جرداق ليس خاصًّا بقومه ولا بأمته ولا بزمانه ومكانه، وإنما هو للإنسانية كافة، وهكذا هو علي الإمام!
لم يذكر جرداق أنه أول من أقدم على هذه المقارنة بين عظيم الكوفة وعظيم أثينا حسب وصفه، لكنه لم يذكر أحدًا سبقه إليها، ولو كان هناك من سبقه فعلًا لأشار إليه، وظهر عليه أنه تعامل مع هذه المقارنة كما لو أنه أول من طرقها وأول من تنبّه إليها، ودل على ذلك التساؤل الذي طرحه في مفتتح الحديث عن هذه المقارنة قائلًا: قد يتساءل المرء ومن حقه أن يتساءل: لماذا نتحدث عن سقراط ونحن نسوق الكلام على ابن أبي طالب وما عاصر سقراط عليًّا وما كان عربيًّا ولا مسلمًا أو مسيحيًّا، بل تقدمه في الزمان وكان إغريقيًّا وثنيًّا!
ومن جهته يرى جرداق أنه خاض في هذا الحديث عمدًا، لإظهار أمر لم نتعود عليه كون أن الحقيقة واحدة، وحسب قوله: «إنا عمدنا إلى هذا الحديث عمدًا؛ لأن سقراط لم يعاصر عليًّا ولم يكن عربيًّا ولا مسلمًا أو مسيحيًّا! وما ذاك إلَّا لإظهار أمر لم نتعود بعد أن نتمرس به كثيرًا وهو أن الحقيقة واحدة، وأنها لا تدنو منا ولا تبعد عنا بمقاييس العصور والجنسيات والأديان، وعلى ذلك يكون سقراط العظيم أخًا لعلي العظيم بما يلفُّ كل عصر وكل جنسية وكل دين، ألا وهو الإنسانية المؤمنة بالإنسان المبدع، وقيم الحياة الثابتة، وخير الوجود الشامل... وإن عليًّا وسقراط وإن باعدت بينهما ظروف ومناسبات وأزمان، لتجمع بينهما آفاق الكاملين من أبناء آدم وحواء، أولئك الذين ما عملوا عملًا إلَّا رأينا فيه صورة الإنسان المتفوّق العظيم في كل أرض، وما قالوا قولًا إلَّا أصغينا فيه إلى ضمير الإنسان المتحد بعدالة الوجود وقيم الحياة»[30].
وعلى طريقة الفارابي في الجمع بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، حاول جرداق الجمع بين حكيم الكوفة وحكيم أثينا، استنادًا إلى اتفاق وجده في حكمتهما، ناظرًا إلى أن الخطوط العامة لفلسفة سقراط مبنية على الأصل الأول في فلسفته، ويعني به قول سقراط: «اعرف نفسك بنفسك»، أمام هذا الأصل الأول تساءل جرداق: هل نجد مثل هذا الأساس في أعماق الحكمة العلوية، وفي روح التعاليم التي نشرها علي بن أبي طالب؟ ثم هل يتفق الحكيمان في التفاصيل الأخلاقية أم يختلفان؟
ومن دون مبالغة، وبعيدًا عن إنزال الأمور في غير منازلها، يرى جرداق أن «الأساس الأصل في فلسفة سقراط ومذهبه إنما عرفه علي بن أبي طالب معرفة لا تقل خطورة في نتائجها عنده، عمَّا هي عليه عند حكيم الأغارقة، وقد يحسب أننا نبالغ أو ننزل الأمور غير منازلها إذا قلنا: إن هذه النتائج كانت واحدة عند الحكيمين في معنى الأخلاق، مع فارق واحد في شكل المنهج الذي ارتضاه لنفسه كل منهما لا في جوهره وغايته!»[31].
وقد وجد جرداق أن قول سقراط المؤسس لفلسفته: «اعرف نفسك بنفسك»، يقابله ويوافقه قول الإمام: «حاسب نفسك بنفسك»، مضيفًا أن ما قصده الإمام في هذا القول يطابق ما قصده سقراط في قوله، ودل على ذلك -في نظره- قول كثير أطلقه الإمام يتصل بقول سقراط مبنى ومعنى، مع إشارات صريحة إلى النتائج العملية التي تترتب على مضمونها، ويرى جرداق أن «هذه الإشارات الصريحة إن لم يتّبع صاحبها خطة التدرج والتنظيم التي اتّبعها حكيم الأغارقة، لأعذار مقبولة، فإن فيها معناها وروحها وغايتها جميعًا»[32].
رابعًا: الإمام والعروبة
عند النظر في هذه المقاربة، يمكن الكشف عن ثلاثة أمور جوهرية لعلها أهم ما حاول جرداق التأكيد عليها لتظهر العروبة بالمظهر الإنساني الخلَّاق، هذه الأمور الثلاثة هي:
أولًا: العروبة والبعد الإنساني، يرى جرداق أن العروبة لا يمكن أن تكون واقعًا إلَّا إذا كان خطها العام خطًّا إنسانيًّا لا غبار عليه، ولا يمكن للمرء أن يخدم العروبة إذا حاد بمنهجه عن المعاني الإنسانية العامة.
ولإغناء العروبة بهذا البعد الإنساني، تتأكَّد الحاجة -في نظر جرداق- ربط العروبة بالإمام باعتباره يمثل الصيغة العالمية للشخصية العربية، وكونه يجسّم أكثر النواحي الإنسانية الإيجابية التي أدركها مفكرو العرب في تاريخهم الطويل.
ثانيًا: العروبة بين النهج الأموي والنهج العلوي، انتقد جرداق محاولة بعض ربط العروبة بالنهج الأموي وتحديدًا بشخص معاوية بن أبي سفيان لكونه تعصّب للعرب، وأظهر ميلًا للعنصر العربي مقابل الأجناس الأخرى، معزّزًا بهذا التفاضل فكرة العروبة.
وفي هذا السياق تساءل جرداق قائلًا: «من الذي يمثل الأصالة الإنسانية في الشخصية العربية، ويجسّم المعاني الإنسانية في القومية العربية، أو قل: من الذي يرسم الخط السياسي والاجتماعي للقومية العربية كما يجب أن تكون؟ أهو معاوية بن أبي سفيان المتعصّب للعروبة على زعم الزاعمين، والقائل لولاته: احلبوا من دم العرب مالًا وجيئوني به، أم علي بن أبي طالب الذي لم يتعصّب لعنصر أو لعرق، والذي لم يفضّل مشروفًا على شريف، ولا قرشيًّا على أعرابي، والقائل لولاته: ارفعوا كل ضريبة عن العرب إلَّا أن يكونوا في يسر ونعيم، ويدفعوا مما يفيض عن حاجاتهم، واعملوا على رفع الحاجة والفقر حتى يتساوى الناس في الخير؟»[33].
أمام هذا التساؤل يرى جرداق مفرّقًا بين النهجيين والأسلوبين قائلًا: «بمثل الأسلوب السفياني تنهار الشعوب، وتنحرف الأحاسيس الوطنية، ويمسخ معنى القومية، لأنه أسلوب غير إنساني في أصوله وغاياته، وبمثل الأسلوب العلوي تنهض الأمم وتتلاقى وتتعاون، وتستقيم المشاعر الوطنية، وتسمو المعاني القومية، لأنه أسلوب إنساني في ينابيعه ومجاريه ومصباته»[34].
وتتمّة لرأيه انتقد جرداق مدح بعض عصبية الأمويين وميلهم إلى إيثار العنصر العربي على غيرهم، شارحًا نقده قائلًا: إن «في هذه العصبية إساءة كبرى إلى فكرة العروبة، فإذا اعتبرنا أن هؤلاء الموالي ليسوا عربًا، وأننا لا نريد أن يكونوا عربًا، فليست القومية السليمة من هذا الجانب استعبادًا ولا استعمارًا ولا ظلمًا ولا غصبًا، بل هي تعاون وأخذ وعطاء. والقومية التي لا تعطي مكتوب عليها الفناء، كتلك التي لا تأخذ سواء بسواء! وإذا اعتبرنا أن هؤلاء الموالي عرب، وهم عرب استنادًا إلى المفهوم الصحيح للقومية كما رأيناه في الفصول السابقة، وإلى حقيقة الموالي الذين اندمجوا بالشخصية العربية وأخذوا منها وأعطوها، وساكنوا العرب وبنوا وإياهم مجتمعًا واحدًا، ثم أنتجوا أروع ما في التراث الفكري العربي، فليست القومية من هذا الجانب استئساد فئة من القوم على فئة، ولا استئثار طبقة من الناس بالخيرات دون طبقة، ولا تحكم قوي بضعيف، ولا إقامة مجتمع على أساس من الآكل والمأكول!»[35].
من جانب آخر يرى جرداق «أن السياسة الأموية في حقيقتها ليست سياسة عربية، حتى ولا سياسة قبلية، وإنما هي سياسة أسرة من العرب تريد أن تحكم العرب والموالي، وتنهب خيراتهم وتأكلهم جميعًا، فإذا هم متساوون من حيث إنهم أدوات إنتاج لهذه الأسرة. وهي سياسة تتركز في الدرجة الأولى على جمع المال والقوة والسلطان في يد واحدة، يمكنها أن تسند من يواليها ويؤيدها من العرب والموالي، وتبطش بمن يعارضها، وتخنق المجموعة الفقيرة من الجانبين نهبًا لما تحت أيديها من المال والغلال، فهي من هذه الناحية سياسة طبقية خالصة»[36].
ثالثًا: العروبة وآفة الاستبداد، في نظر جرداق إن «الاستبداد هو آفة القومية الكبرى، لأنه آفة إنسانية، ولا يستطيع أن يكون قوميًّا من لا يكون إنسانيًّا، كما أنه لا يكون إنسانيًّا من لا يكون قوميًّا، شريطة أن تكون ركيزة قوميته الأولى العمل من أجل رفع الحاجة عن الناس الذين يتألف منهم القوم، تمهيدًا لإشاعة الفضائل الإنسانية التي تعطي هذه القومية معناها الجميل وقيمتها الصحيحة»[37].
هذه الآفة التي يصفها جرداق بالآفة الكبرى، تعزز في تصوره ربط العروبة بالإمام، وحسب قوله: «والذي يعرف ما عاناه العرب في تاريخهم الطويل من ويلات الاستبداد السياسي، يدرك ما في نهج علي من جميل الروابط بين السلطة والشعب، وما فيه من خير الحاكم والمحكوم على السواء»[38].
من يتأمّل في هذه الأمور الثلاثة، يدرك أن جرداق قد قدم رؤية مهمة بإمكانها الإسهام في تجديد فكرة العروبة وتحديثها وأنسنتها، وتستحق هذه الرؤية انتباها جادًّا، وهي جديرة بالنقاش المركز والمعمق.
هذه كانت مطالعة استطلاعية وتحليلية تحرّت تكوين المعرفة بأطروحة جرداق حول الإمام كما ظهرت وتجلّت في كتابه الموسوعي الكبير والبديع (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية).
-5-
ملاحظات ونقد
بقي كتاب جرداق لزمن يتخطّى نصف قرن بعيدًا تقريبًا عن النقد والنظر النقدي مع شهرته الواسعة، وأحاطت به هالة كبيرة من الثناء والإعجاب صرفته عن التناول النقدي، وأبعدته عن دائرة النقد، كما أن حجم الكتاب الكمي الذي فاق ألف صفحة بأجزائه الخمسة صعّب على الكثيرين متابعة الكتاب إلى نهايته ومطالعته كاملًا، وهذا هو حال معظم المؤلفات الكبيرة والموسوعات التي تتكون من أجزاء عدة، فالذين تعرّفوا على كتاب جرداق كثيرون، لكن الذين طالعوا الكتاب كاملًا أظن أنهم قليلون جدًّا، ومن دون المطالعة الكاملة لا تتكشف الصورة النقدية الدقيقة للكتاب.
ما سأطرحه هو مجرّد لفتات نقدية عامة، لعلها تمهّد الطريق، وتشجع على محاولات أخرى تكون أكثر تفصيلًا وتوسعًا، من هذه الملاحظات النقدية:
أولًا: ظهر على كتاب جرداق ما يمكن تسميته بفائض الكلام، ونعني به أن الكتاب احتوى على كم غير قليل من الكلام كان بالإمكان الاستغناء عنه لعدم الحاجة الضرورية إليه، خاصة وأن الكتاب ليس من نمط المؤلفات الصغيرة أو الموجزة التي يمكن التسامح معها في هذه الناحية، وغض النظر عنها جبرًا لحجمها الصغير، وإنما هو من نمط المؤلفات الكبيرة المكونة من أجزاء عدة التي تلفت الانتباه بشدة إلى مثل هذه الملاحظة عند حصولها.
وتتأكد هذه الملاحظة وتشتد حين تتكرّر مرات عدة، وتحصل بطريقة موسعة فيها من الإسهاب الذي لا يقتصر على بضعه أسطر، وإنما يتخطى الصفحات الطوال.
من الأمثلة الدالة على ذلك، أراد جرداق أن يميز أسلوبه في تناول بعض قضايا تاريخنا عن أسلوب الآخرين، ليثبت أنه كان بعيدًا عن الأسلوب المتزمّت الذي يسعى أصحابه لأن يجعلوا من كل حبة قبة، وتوضيحًا للمقصود بهذا الأسلوب المتزمّت أشار جرداق لبعض المؤلفين منتخبًا قضايا تاريخية عدة بعيدة عن موضوع الكتاب وأطروحته، وكان من أمثلته على قضية الرق في الإسلام، كتاب الباحث المصري أستاذ التاريخ الإسلامي الدكتور محمد الطيب النجار صاحب كتاب (الموالي في العصر الأموي)، الذي رأى فيه جرداق مثالًا لأولئك الذين قال عنهم إنهم يطيلون: «الحديث المتكرر عوضًا عن أن يوجزوا، ويواربون حيث يجب أن يصارحوا، ويعقدون الأمور البسيطة حتى تخال أن الأمر قد التوى عليهم وعلى القارئ سواء بسواء»[39].
والمفارقة أن جرداق الذي تنبّه لهذه الملاحظة، فإنه توسع في عرض رأي الدكتور النجار متخطيًا أربع صفحات كبار، فائضًا كلامه عن الحاجة لأنه مجرد مثال على نقد أسلوب لم يكن وثيقًا بصلب الموضوع، ناظرًا للمؤلف بدل أن يكتفي بالحدود الموجزة في عرض الحقائق الواضحة، يراه جرداق أنه «يلف ويدور، ويغدو ويروح، ليضلل القارئ عن الحقيقة التي يجب عليه الاعتراف بها لأنها معترفة بنفسها، دون مداورة ودون محاورة، ولأن مجابهة الحقائق هي الشرط الأساسي في كل بحث يخدم التاريخ، ويخدم القارئ، ويخدم المعرفة»[40].
مثال آخر: تحدّث جرداق في ثلاث صفحات كبار عن مجرد تصوير افتراضي ما كان بحاجة لهذا الفائض من الكلام، فقد أراد أن يصور ما حصل في أوروبا من تحول بعدما تخطت مرحلة العصور الوسطى، شارحًا هذا الأمر بافتراض أن لويس الرابع عشر حاكم فرنسا المستبد في القرن السابع عشر بعث حيًّا في هذا العصر، وراح بألبسته الفضفاضة في نزهة بشوارع باريس أو في جولة بين رعاياه، فماذا سيرى وماذا سيفعل؟ فأخذ جرداق يفصّل الكلام ويسهب بطريقة يصدق عليه ما نسميه بفائض الكلام.
هذان مجرد مثالين، وهناك أمثلة عديدة تثبت هذه الملاحظة وتؤكّدها.
ثانيًا: اختلال التناسب المتوازن قبضًا وبسطًا في طريقة تناول بعض القضايا التي تترابط فيما بينها، إذ يظهر على بعضها البسط الواسع، وعلى بعضها الآخر القبض الضيق، من دون إيضاح من المؤلف ولا تعليل أو تفسير، مع شدة وضوح هذه الملاحظة وانكشافها.
والمثال الواضح والأبرز على هذه الملاحظة، ما ظهر في حديث جرداق عن المقاربة بين وثيقة حقوق الإنسان الفرنسية وما أعطاه الإمام من أصول توافقها في المعنى، ومن نصوص ترادفها أو تماشيها في الغاية، فالمبدأ الأول تحدث عنه جرداق بسطًا وشرحه وقاربه في أكثر من عشرين صفحة، بينما المبدأ الرابع تحدّث عنه جرداق قبضًا وشرحه وقاربه في أقل من صفحة واحدة، والأمر نفسه حصل مع المبدأ الخامس والسادس والسابع والعاشر والحادي عشر والثالث عشر والخامس عشر والسادس والسابع عشر.
وتتأكّد هذه الملاحظة وتبرز عند معرفة أن المبدأ الأول الذي بسط جرداق الحديث عنه في أكثر من عشرين صفحة، تطرق لأمر سبق لجرداق وبنص عبارته أن تحدث عنه طويلًا، علمًا أن هذا المبدأ جاء واضحًا وبيّنًا، وبسهولة وجد جرداق ما يقابله في أقوال الإمام وما يوافقه.
ولبيان الأمر، فقد نص المبدأ الأول في الوثيقة الفرنسية على أن (الناس يولدون ويظلون أحرارًا ومتساوين في الحقوق)، يقابله ويوافقه في الشق الأول قول الإمام: «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًّا»، فهذا القول في نظر جرداق يوافق «الشق الأول من الوثيقة الفرنسية روحًا وغاية ونصًّا، ولا حاجة بنا الآن لإيضاح ما هو واضح فيها، وقد سبق لنا أن تحدثنا طويلًا عن عمل علي في إيقاظ روح الحرية في الناس، وعن اعترافه الصريح بأن قوة الوجود جعلت الناس أحرارًا لهم أن ينظروا في شؤونهم فيستغنوا بها علموا لا إكراه في ذلك ولا قسر. ولهم أن ينكروا متى شاؤوا وأن يؤازروا وأن يكونوا من أمورهم جميعًا على ما يبدو لهم فلا سلطان لإنسان على إنسان بحكم المولد ولا بحكم آخر، ولا منّة يطوّق بها رجل عنق رجل بما أذن له به من حرية التصرف، فكلا الرجلين موجود حرًّا يرى ويفكر ويريد وينزع عن هذا الواقع لا عن سواه، ومن شاء فليرجع إلى فصلي الحرية وينابيعها، والحرية بين الفرد والجماعة، من هذا الكتاب، ففيهما دليل على النصوص العلوية بهذا الصدد، وعلى المنطق العلوي والمسلك العلوي»[41].
هذا المقدار كان كافيًا في بيان ما يريد جرداق مقاربته من جهة التوافق روحًا أو نصًّا أو غايةً بين الوثيقة الفرنسية وأقوال الإمام ونهجه، وإذا كانت هناك حاجة لمزيد من الشرح ليكن، لكن مع لحاظ التناسب المتوازن، وليس الإخلال بهذا التناسب قبضًا وبسطًا كما حصل وتحقّق فعلًا ووجودًا.
وتتأكّد هذه الملاحظة كذلك وتبرز من وجه آخر، فالمبدأ الرابع الذي تحدث عنه جرداق وقاربه في أقل من صفحة واحدة، كان وثيق الصلة بالبيان والشرح الموسع في المبدأ الأول، وحين وصل إليه وجد جرداق أن ما عنده من بيان وشرح قد بسطه من قبل في مقاربة ذلك المبدأ الأول، ولو كان ملتفتًا لضرورة التناسب المتوازن في القبض والبسط لخفف من شرح المبدأ الأول وحول الباقي لشرح المبدأ الرابع.
ولبيان الأمر، فقد نصَّ المبدأ الرابع في الوثيقة الفرنسية على أن (قوام الحرية أن يستطاع عمل كل ما لا يضر بالغير فردا أو جماعة)، وجاء بيان جرداق مستخدمًا كلمات تحيل لما سبق من شرح وبيان، مثل كلمات: علمنا ورأينا، ونص كلامه: «علمنا أن القاعدة في نهج علي هي إقرار حق الناس بأن يكونوا أحرارًا في ما يعملون، فليس لأحد أيًّا كان أن يقسر آخر أيًّا كان على عمل لا يرتضيه ولا يرى فيه خيرًا، غير أنا علمنا أيضًا أن هذه الحرية مقيّدة في نهجه بمصلحة الجماعة، فليس حرًّا في عمله من يحمل الأذى للآخر فيما يعمل، من ذلك ما رأينا مما أباحه للتجار وأهل الصناعة من حرية، ومما أوجبه على الحكومة من حمايتهم ورعايتهم حتى إذا استأثروا واحتكروا عدهم معتدين فقيد حريتهم إلَّا أن يتركوا الاحتكار، ومن ذلك ما رأينا مما أباحه للناس من حرية الاعتقاد والمذهب السياسي»[42].
تأتي هذه الملاحظة وتلفت الانتباه إلى الملاحظة السابقة التي أطلقنا عليها فائض الكلام، الفائض الذي تجلى هنا في شرح المبدأ الأول حين فاق عشرين صفحة.
ثالثًا: عند حديثه عن وظيفة الخلافة رأى جرداق أن الإمام خالف «ما ارتآه بشأنها أهل زمانه أجمعين، فيما كانوا لا يعترفون بهذا الحق إلَّا لأصحاب النبي من المهاجرين والأنصار، أو لذوي قرابته، تعظيمًا منهم لشأن هذه الوظيفة الخطيرة، كان علي وحده يخالف ما اجتمع عليه رأي الآخرين، فإذا به يصوغ ما ارتآه بشأنها صوغًا يدعونا لأن نعيد النظر في كل ما دسَّ عليه دسًّا في كتب التاريخ من تطلعه الدائم إلى هذا المنصب»[43].
وعقّب جرداق على هذا الكلام في هامش الكتاب بقول خصّ به الشيعة، وجاء تتميمًا لرأيه وتأكيدًا له، قائلًا: «لا شك في أن تألَّم الشيعة لما لحق بعلي من إجحاف، جعل بعضهم ينسبون إليه أقوالًا تصوره متألمًا جازعًا لوقوف بعض الصحابة دون وصوله إلى الخلافة، وهي في جملتها أقوال بعيدة عن نفسية علي ومنهجه العام، ومواقفه المختلفة الكثيرة التي تصرح بقوة شخصيته تنقض هذا الجزع البادي فيما دسّ عليه من أقوال»[44].
هذا الكلام جاء مرسلًا من جرداق، ولم يكن مسندًا بأدلة وبراهين تثبته وتؤكّده، مدّعيًا أن هناك دسًّا في كتب التاريخ حول موقف الإمام تجاه حقّه في الخلافة، لكن من دون أن يقدّم شاهدًا دالًّا على هذا الدس في كتب التاريخ.
وتكرّر هذا الموقف مرة أخرى، حين نقل جرداق كلامه إلى الشيعة، مدّعيًا كذلك أن بعضًا منهم دسَّ على الإمام أقوالًا بشأن القضية المذكورة، لكن من دون أن يقدّم شاهدًا دالًّا على ذلك.
وحقيقة الأمر أن الإمام كان يرى نفسه صاحب الحق في مسألة الخلافة، وعرف عنه تمسّكه الشديد بالحق متى ما بان له، لا يتهاون فيه ولا يتنازل، وبقي على هذا الموقف ثابتًا بثبات الحق الذي يراه بيّنًا، ويصرّح به متى ما اقتضى الحال، فهذه القضية بالنسبة للإمام هي قضية حق وليست مسألة منصب، مع ذلك لم يكن جزعًا ولا منصرفًا أو متخليًا عن الشأن العام، وعاش حياته مخلدًا سيرة عظيمة لا نظير لها ولا مثيل بعد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم).
اضف تعليق