q
مثلما منح الإمام كل تلك الحريات التي لم تصل إليها دول تُعرَف اليوم بدول الحريات، كان يقدم مواقف إنسانية سامية، ويجسد عملياً قيماً أخلاقية نبيلة، فالذين خرجوا ضده، اقتضت سياسة الإمام (التي هي سياسة النبي الأكرم والإسلام ومنهجهما في الحكم، ألاّ يستخدم سيف التخويف، ولا يُقال...

في عصر، كان العالم يقبع تحت قهر استبداد الحكّام المستبدين والظالمين، عاش شعب دولة الإسلام في عهد أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) الحريات بأوسع أشكالها وأبهى صورها، في الوقت كانت دولة الإمام بحجم ومساحة زهاء خمسين دولة من دول عالم اليوم، فكان المسلمون واليهود والنصارى والمجوس والمشركون –كالمسلمين- يعيشون بحرية وعزة وكرامة ورفاه. فإن الرؤية الإنسانية للإمام (عليه السلام) لا تنحصر في إطار المسلمين، بل تتسع إلى كل الناس، فهو من قال: (الناس صنفان: أما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق). وهي المقولة الخالدة التي تؤسس لطبيعة الرؤية إلى الآخر (الموافق والمخالف)، لإخماد حرائق الحروب والأحقاد والضغائن، ثم الانطلاق بثقة وسلام على طريق التعاون بين الناس لبناء عالم يسوده العدل والحرية والرفاه.

في دولة عليّ (عليه السلام)، رغم أن الأمة قد أجمعت على بيعة أمير المؤمنين (عليه السلام) برز من يعارضه من أفراد أو جهات، وكان المنهج العلوي في التعامل مع الرعية والمعارضين والمعتدين مما لا يجده الإنسان في التاريخ أبداً، يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): (إن أمير المؤمنين ليس لأسلوبه السياسي ونهجه في الحكم والسلطة شبيه ولا نظير، فلابد من ملاحظة سياسات الحكومات المناوئة له، وذلك تتميماً للفائدة المبتغاة لمعرفة عظمة مشروع الإمام السياسي الذي خلده التاريخ، ليعلم العالم أن جذور ما عانى منه المسلمون في القرون التي مضت، وما نعانيه اليوم من أصناف الفساد في البر والبحر، كفيل بحل أزماته ومشاكله المنهج الإلهي لأهل البيت).

ومثلما منح الإمام (عليه السلام) كل تلك الحريات التي لم تصل إليها دول تُعرَف اليوم بدول الحريات، كان (عليه السلام) يقدم مواقف إنسانية سامية، ويجسد عملياً قيماً أخلاقية نبيلة، فالذين خرجوا ضده، اقتضت سياسة الإمام (عليه السلام)، التي هي سياسة النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإسلام ومنهجهما في الحكم، ألاّ يستخدم سيف التخويف، ولا يُقال عن المعارضين للحكم أنهم منافقون، وإنْ كانوا منافقين حقاً! فمن أجل إدارة الحكومة، ومراعاة المصلحة الأهم، واهتماماً باستقرار البلاد، نهى الإمام (عليه السلام) حتى عن أن يُقال عن المعارضين إنهم منافقون. يقول المرجع الشيرازي (دام ظله): (لم يأذن الإمام أمير المؤمنين -في أيّام حكومته- بقطع عطاء محاربيه بعد هزيمتهم في ساحة القتال، بل نهى عن أن يسمّيهم أحد آنذاك بالمنافقين، مع أنهم كانوا من أظهر مصاديق المنافقين). كما أن من عدل الإمام أمير المؤمنين ورحمته، أنه وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، في الجمل وصفّين والنهروان، لم يعاقب مثيري الفتنة، ومشعلي نار الحرب، رغم انتصاره عليهم، وتمكّنه منهم.

وقبل ذلك، انقلبت فئة على وصية النبي (صلى الله عليه وآله)، وبسبب تلك الفئة وانقلابها أمضت الأمة أربعة وعشرين عاماً تتخبط بين (طخية عمياء) و(حوزة خشناء) وقوم (يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع)، بحسب كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية. والإمام صابر لأن الصبر (أحجى)، لكنه صَبَر (وفي العين قذى، وفي الحلق شجا)، وهكذا يكون القادة الحريصون على نقاء المبدأ ومصلحة الشعب، يصبرون عندما يرون الأمور تسير بعكس الاتجاه الذي يجب، ولكنهم يظلون مع ذلك متمسكين بقيمهم ومبادئهم، حتى ِيَقْضِيَ اللهُ (أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً). ورغم الانقلاب وتداعياته كان الإمام يقول: (لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه).

أيضاً، رغم الخلافات التي أشعلتها تلك الفئة المنقلبة، إلا أن الإمام لازم السلامة العامة للبلاد والعباد، وقد وقع عليه ظلم عظيم وحيف كبير، يقول (عليه السلام): (ومَا أَصْنَعُ بِفَدَك وَغَيْرِ فَدَك، وَالنَّفْسُ مَظَانُّهَا فِي غَد جَدَثٌ، تَنْقَطِعُ فِي ظُلْمَتِهِ آثَارُهَا، وَتَغِيبُ أَخْبَارُهَا، وَحُفْرَةٌ لَوْ زِيدَ فِي فُسْحَتِهَا، وَأَوْسَعَتْ يَدَا حَافِرِهَا، لاَضْغَطَهَا الْحَجَرُ وَالْمَدَرُ، وَسَدَّ فُرَجَهَا التُّرَابُ لْمُتَرَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الأكْبَرِ، وَتَثْبُتَ على جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ).

وإن مجرد احتمال وجود جياع في أبعد نقاط الحكومة الإسلامية يعتبر في ميزان الإمام (عليه السلام) مسؤولية ذات تبعات، لذا فهو (عليه السلام) يؤكد للحكام ضرورة أن يجعلوا مستوى عيشهم بنفس مستوى عيش أولئك، وأن يشاركوهم شظف العيش. يقول (عليه السلام): (أَأَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ: أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَلاَ أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ).

إن جميع المسلمين ومعهم غير المسلمين، من الإخوة في الدين والشركاء في الأوطان والنظراء في البشرية، معنيون في التأمل في القيم العلوية لدراستها وفهمها، ويبدو إن الكثير ممّن بحاجة لها، هم بعض من الذين يدّعون ولايتهم لصاحبها، ليس في العراق فحسب، بل في غيره أيضاً، فالبشرية اليوم تحتاج إلى عليّ، فلو لم يُوجب الله ورسوله طاعة عليّ (عليه السلام)، لَوجَب أن يُطاعَ لعدله وإنسانيته، ولو لم يُحذّر الله ورسوله من عدم اتباعه، لوَجَب أن يتبعه كل عاقل لعلمه ونبوغه ونجاحه في قيام دولة العدل والإنسان، ولم ينجح أحد غيره سوى أستاذه ومعلمه ومربيه ونبيه، الذي لا نبي من بعده.

اضف تعليق