البحث يتناول حركة علميّة عريقة لها تأريخها وظلالها على البشرية جمعاء، وذلك لأنّ كثيراً من العلوم مرتبطة بهذه الحركة العلميّة. هذه الحركة العلميّة لشخصية خالدة تكن لها البشرية فائق الإجلال والتقدير وهو الإمام الصادق، البحث أيضاً يسلّط الأضواء على رجال مجهولين عند الكثير وهم رجال الكوفة...
لايخفى على أهل الاطلاع أنّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) شهد حركة علمية رائدة مازالت البشريّة حتى اليوم ترغد تحت ظلالها وتستفيد من بركاتها في شتّى المجالات..
فإنّ كثيراً من العلوم لها ارتباط ما -ولو غير مباشر- بالحركة العلميّة التي فجّرها الإمام الصادق (عليه السلام).
ولا غرابة في ذلك فقد أُتيحت للإمام الصادق (عليه السلام) برهة زمنيّة بسيطة استطاع من خلالها أن يُغدق على البشرية من العلوم ما لم يتسنّ لغيره من الأئمة الأطهار (عليهم السلام) الذين عاشوا طيلة عمرهم تحت الكبت والاضطهاد من الحكومات الجائرة التي ألقت بأحقادها الدفينة عليهم عبر العصور المختلفة.
نعم كان للإمام الباقر (عليه السلام) دور عظيم في هذه الحركة المباركة لأنّ الانفراج البسيط الذي حصل كان في عهد الباقرين (عليهما السلام) وقد ساهم الإمام الباقر (عليه السلام) بشكل واضح في استثمار تلك البرهة الزمنيّة التي يمكن وصفها بأنّها المرحلة الذهبيّة للتشيّع.
ولكن الإمام الباقر (عليه السلام) لم يمكث طويلاً حتى فارق الحياة وبقي نجله الإمام الصادق (عليه السلام) مواصلاً لدعم الحركة العلميّة وتطويرها فنشر من علوم آل محمد (عليهم السلام) ما سارت به الركبان وصارت الأجيال تتحدّث به عبر العصور حتى نُسب التشيّع والشيعة إليه فقيل: المذهب الجعفري والجعفريين.
بالطبع قبل هذا الانفراج عاش الإمام الصادق (عليه السلام) كأجداده الطاهرين (عليهم السلام) مُضطهداً مظلوماً مُغيّباً عن الأنظار صعب الوصول إليه، حتى بلغ الأمر ببعضهم كي يحصل على حكم شرعي أن ينتحل مهنة بائع الخيار..
وقد كتب الكثير حول هذه الفترة وحول الحركة العلميّة المباركة للإمام الصادق (عليه السلام) ومن جهات متعدّدة ولكنّي لم أعثر- حسب تتبّعي- على من أفرد بحثاً مستقلاً مستوفياً حول دور الكوفيين في هذه الحركة المباركة علماً أنّ لرجال الكوفة وروّادها دوراً عظيماً فيها، فيمكن القول إنّ الإمام الصادق (عليه السلام) فجّر تلك الحركة المباركة وحملها رجال الكوفة ونشروها في مختلف أنحاء العالم.
فكثير من التراث العلمي الذي وصلنا اليوم من علوم أهل البيت (عليهم السلام) وصلنا عبر الإمام الصادق (عليه السلام) ومن خلال رجال الكوفة الذين كانوا بحق خيرة الرجال ونخبة الحواريين وصفوة التلامذة للإمام الصادق (عليه السلام).
فقد كان بين رجال الكوفة الكثير من طلّاب العلم ومتعطّشي المعارف ممّن رخصوا الغالي والنفيس من أجل نيل العلم والتفقّه في شتى العلوم فوجدوا في الإمام الصادق (عليه السلام) بغيتهم ومناهم خاصة أنّهم يعرفونه ويعتقدون بأنّه إمام حق مفترض الطاعة يُحدّث عن أجداده الطاهرين الذين يُحدّثون عن جدّهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى.
من هنا- ولأهميّة تلك الحركة العلميّة الرائدة التي قادها الإمام الصادق (عليه السلام) ولكي يطّلع العالم على دور رجال الكوفة في حفظ ونشر وإيصال العلوم العظيمة التي وصلتنا عبر الإمام الصادق (عليه السلام) -كتبت هذا البحث راجياً من الله القبول والتوفيق.
لماذا هذا البحث؟
هناك عدّة أمور جعلتنا ننتخب هذا البحث دون غيره ومنها:
1- أنّ البحث يتناول حركة علميّة عريقة لها تأريخها وظلالها على البشرية جمعاء، وذلك لأنّ كثيراً من العلوم مرتبطة بهذه الحركة العلميّة.
2- أنّ هذه الحركة العلميّة لشخصية خالدة تكن لها البشرية فائق الإجلال والتقدير وهو الإمام الصادق (عليه السلام).
3- أنّ البحث أيضاً يسلّط الأضواء على رجال مجهولين عند الكثير لم تُبرّز أدوارهم الكبيرة في دعم حركة علمية واسعة ألا وهم رجال الكوفة ممّن حملوا علوم آل محمد (عليهم السلام) التي حملها إليهم صادق آل محمد (عليه السلام).
4- أنّ البحث هو نوع تقدير ووقفة إجلال أمام هكذا حركة علميّة رائدة وأمام شخصيّات عظيمة مازالت البشريّة حتى اليوم تستفيد من بركاتهم.
5- أنّ البحث نوع تعريف للأجيال بهذه الحركة العلميّة الخالدة ودعوة لهم كي يفتخروا بتراثهم العلمي ويسيروا على خطاهم في حمل العلوم النافعة وإيصالها للأجيال اللاحقة.
نبذة عن الإمام الصادق (عليه السلام)
قبل أن نتعرّض إلى معالم الحركة العلميّة للإمام الصادق (عليه السلام) لا بأس أن نشير إلى نبذة يسيرة عن صاحب هذه الحركة العلميّة ورائدها ألا وهو الإمام الصادق (عليه السلام)، فنقول:
الحديث عن هكذا شخصيّة عظيمة لا يتأتّى لأمثالنا استيعابها، فأنّى للذرّة أن تستوعب المجرّة، وأنّى للخيال أن يجسّد الحقيقة، وأنّى للناقص أن يعرّف الكمال؟!
فهو من أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومنبع العلم، ومختلف الملائكة، كبيرهم لايقاس، وكبيرهم جمرة لا تداس...
فحتى نعرف هذا الإمام العظيم لابد أن نطرق باب الوحي ونسأل أهله أن يعرّفوه لنا فأهل الدار أدرى بما بها...
فقد ورد في الحديث القدسي الذي ورد فيه النص على الأئمة الاثني عشر في اللوح المحفوظ مايلي: (سيهلك المرتابون في جعفر، الراد عليه كالراد عليّ، حقّ القول منّي لأكرمن مثوى جعفر ولأسرنّه في أشياعه وأنصاره وأوليائه) (1).
وعن علي بن الحكم، عن طاهر، قال: (كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فأقبل جعفر (عليه السلام) فقال أبو جعفر (عليه السلام): (هذا خير البريّة أو أخير) (2).
وعن علي بن الحسين، عن أبيه عن جدّه (عليهم السلام)، قال: (قال رسول (صلى الله عليه وآله): إذ ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي ابن أبي طالب فسمّوه الصادق، فإنّه سيكون في ولده سُميّ له يدّعي الإمامة بغير حقّها ويُسمّى كذاباً) (3).
وعن أبي خالد الكابلي، قال: (دخلت على سيّدي علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام)، فقلت له: يا ابن رسول الله أخبرني بالذين فرض الله عزّ وجلّ طاعتهم ومودّتهم، وأوجب على عباده الاقتداء بهم بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟
فقال لي: يا كنكر إنّ أولي الأمر الذين جعلهم الله عزّوجلّ أئمة للناس وأوجب عليهم طاعتهم: أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ثم الحسن، ثم الحسين ابنا علي بن أبي طالب، ثم انتهى الأمر إلينا. ثم سكت.
فقلت له: يا سيّدي روي لنا عن أمير المؤمنين(علي) (عليه السلام) أنّ الأرض لا تخلو من حجّة لله عزّ وجلّ على عباده، فمن الحجّة والإمام بعدك؟
قال: ابني جعفر، واسمه في التوراة باقر، يبقر العلم بقرا، هو الحجّة والإمام بعدي، ومن بعد محمد ابنه جعفر، واسمه عند أهل السماء الصادق، فقلت له: يا سيّدي فكيف صار اسمه الصادق وكلكم صادقون، قال: حدّثني أبي، عن أبيه أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: إذا ولد ابني جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب فسمّوه الصادق) (4).
كما شهد المخالفون بفضل الإمام الصادق (عليه السلام) والفضل كما يقال ماشهد به الأعداء.
فقد قال المنصور الدوانيقي مؤبّنا الإمام الصادق (عليه السلام): (إنّ جعفر بن محمّد كان ممّن قال اللّه فيه: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (5) وكان ممّن اصطفى اللّه وكان من السابقين بالخيرات) (6).
وقال أبو حاتم محمّد بن حبّان عنه: (كان من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً و فضلاً) (7).
و قال أبو عبد الرحمن السلمي عنه: (فاق جميع أقرانه من أهل البيت (عليهم السلام) وهو ذو علم غزير وزهد بالغ في الدنيا وورع تام عن الشهوات وأدب كامل في الحكمة) (8).
وعن صاحب (حلية الأولياء): (ومنهم الإمام الناطق ذو الزمام السابق أبو عبد اللّه جعفر بن محمّد الصادق، أقبل على العبادة والخضوع و آثر العزلة والخشوع ونهى عن الرئاسة والجموع) (9).
وأضاف الشهرستاني على ما قاله السلمي عنه: (وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ويفيض على الموالين له أسرار العلوم ثمّ دخل العراق وأقام بها مدّة، ما تعرّض للامامة قط، ولا نازع في الخلافة أحداٌ، ومن غرق في بحر المعرفة لم يطمع في شط، ومن تعلّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حطّ) (10).
وسأل نوح بن درّاج ابن أبي ليلى: أكنت تاركاً قولاً كنت قد قلته، أو قضاء قضيته لقول أحد؟
فقال: لا إلا لرجل واحد، فقال ابن درّاج: ومن هو؟
قال: جعفر بن محمد(11).
وقال ابن أبي العوجاء للمُفضّل الذي تهجّم عليه في احدى المناظرات: إن كنت من أصحاب جعفر بن محمد الصادق فما هكذا تخاطبنا، ولا بمثل دليلك تجادل فينا، ولقد سمع من كلامنا أكثر ممّا سمعت، فما أفحش خطابنا، ولا تعدى في جوابنا وأنّه الحليم الرزين، العاقل الرصين، لا يعتريه خرق، ولا طيش ولا نزق يسمع كلامنا، ويصغي إلينا ويتعرف حجتنا، حتى إذا استفرغنا ما عندنا، وظنننا قطعناه، دحض حجّتنا بكلام يسير، وخطاب قصير، يلزمنا الحجّة، ويقطع العذر، ولا نستطيع لجوابه ردا، فإنّ من أصحابه فخاطبنا بمثل خطابه(12).
الإمام الصادق (عليه السلام) في عهد أبيه
عاش الإمام الصادق (عليه السلام) مع أبيه الإمام الباقر (عليه السلام) أربعاً وثلاثين سنة يتلقّى منه ما ورثه عن آبائه الأطهار (عليهم السلام) ويشاطره الحركة العلمية الرائدة التي رمت بظلالها كل مكان، فكان الإمام الصادق (عليه السلام) لأبيه خير عون في خير مسيرة علميّة.
وكما هو المفروض: أنّ الإمام اللاحق يكون صامتاً مع وجود الإمام السابق، ولا يتصرّف في شيء من الشؤون الخاصة بتصرف الإمام...
ولذا فإنّ الإمام الصادق (عليه السلام) إبان حياة والده الباقر (عليه السلام) كان يدعم مسيرة والده الجهادية ويرافقه في حلّه وترحاله دون أن يتصدّى بنفسه لأمور الإمامة.
وفي الحقيقة إنّ كثيراً من معالم الحركة العلمية للإمام الصادق (عليه السلام) رُسمت معالمها في عهد والده الإمام الباقر (عليه السلام) فهو الذي بلور المعالم الأوليّة لحركة الإمام الصادق العلميّة، والإمام الصادق (عليه السلام) واصل مسيرة أبيه أو بلورها وطوّرها وفق الظروف المؤاتية التي أُتيحت له.
وقد أوصى الإمام الباقر (عليه السلام) نجله الصادق (عليه السلام) عند الوفاة بأصحابه، فقال (عليه السلام): (يا جعفر أوصيك بأصحابي خيرا، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم- والرجل منهم يكون في المصر- فلا يسأل أحدا(13).
وهذه الوصيّة من الإمام الباقر (عليه السلام) تكشف عن أمور وهي:
أولاً: حرص الإمام الباقر (عليه السلام) على مواصلة المسيرة العلميّة التي أسّسها ورعاها بنفسه حيث أنشأ جيلاً من الفطاحل يحملون علوم آل محمد (عليهم السلام) ويوصلونها إلى الأجيال اللاحقة.
ثانياً: تعهّد الإمام الصادق (عليه السلام) بأن يواصل المسيرة ويسير على نفس النهج الذي أسّسه والده من البرّ بطلاب العلوم وتكفّل أمورهم وسد احتياجاتهم.
ثالثاً: مدى تعلّق الإمام الباقر (عليه السلام) بأصحابه وحبّه لهم.
رابعاً: ربما يتصور أنّ قول الإمام الصادق (عليه السلام): (والله لأدعنّهم- والرجل منهم يكون في المصر- فلا يسأل أحدا) منصرف إلى عدم السؤال في الحاجة المادية، ولكنّه بعيد والأصح أنّه (عليه السلام) تعهّد أن لايدع أحداً من أصحاب أبيه الباقر (عليه السلام) يسأل أحداً في كل المجالات، لأنّه لم يحدّد متعلّق السؤال وكما يقال: حذف المتعلّق يفيد العموم.
خصائص الإمام الصادق (عليه السلام)
لا يخفى أنّ الأئمة الأطهار (عليهم السلام) يشتركون في أمور ويفترقون في أمور أخرى، فهم يشتركون بالإمامة والعصمة والعلم وغيرها من الأمور اللازمة لكل إمام...
أمّا الأمور التي تميّز بها كل إمام عن غيره من الأئمة (عليهم السلام) فهي تختلف من إمام إلى آخر ومنها الخصائص التي حُبي بها كل إمام، وعلى سبيل المثال هناك عدّة خصائص كانت لأمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) اختص بها دون سائر الأئمة منها ولادته في الكعبة الشريفة، وتلقيبه بأميرالمؤمنين (عليه السلام)، وزواجه بالصدّيقة الزهراء (عليها السلام).
وكذا هم سائر الأئمة (عليهم السلام) فكل منهم كانت له خصائص ميّزته عن سائر الأئمة (عليهم السلام)، بالطبع ثبوت الخصائص لإمام دون بقيّة المعصومين (عليهم السلام) لا يعني أفضليته عليهم بل هي خصّيصة خُصّ بها ذلك الإمام.
وهذه الخصائص بعضها منصوص عليها في الأحاديث وبعضها مستفادة من الأحاديث أو التأريخ أو غيرهما.
والخصائص التي سنشير إليها للإمام الصادق (عليه السلام) هي مستفادة من إحدى هذه الأمور، فمن أهم الخصائص التي تميّز بها الإمام الصادق (عليه السلام) هي:
1- طول العُمر: فهو (عليه السلام) أطول أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عمراً، ممّا أتاح المجال أن بدور لم يتأت لسائر الأئمة (عليهم السلام) تحقيقه.
2- طول فترة إمامته: حيث امتدت فترة إمامته في الإمامة أربعة وثلاثين عاماً.
3- عاصر الإمام (عليه السلام) فترة تخلخل الوضع السياسي حيث عاش آخر أيام الدولة الأموية وبدايات الحكومة العباسيّة.
4- شهد عصر الإمام الصادق (عليه السلام) صراعات وتقلّبات فكرية كانت تقتضي من الإمام (عليه السلام) أن يتصدّى إليها ويصون عقائد الأمة من الانحراف.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة عن عصر الإمام الصادق (عليه السلام): (عصر الإمام الصادق هو عصر الجدل والنظر والبحث والدرس والفحص، وابتداء تدوين العلوم، وعصر ابتداه دراسة الكون والفلسفة والاتصال الفكري بين المسلمين وغيرهم من الأمم ذوات الحضارات القديمة والديانات المختلفة، فقد اختلطت فيه المبادئ الإسلامية السليمة، كما نقلها السلف الصالح، والفلسفة الهندية بتصوفها، والفلسفة اليونانية بعمق دراستها، والآراء الفارسية حول الملوك، وغير ذلك.
وقد ظهر كل هذا في السياسة وفي العلوم العقلية وفي الأفكار الفلسفية، وفي الدراسات الدينية التي تتبّع الأثر والدراسات التي تنهج منهاج العقل، وقد ظهرت في ذلك العصر المناهج المختلفة، وتولد عن اختلاف المناهج اختلاف الآراء واختلاف الفرق الإسلامية، ووجدت آراء غريبة عن الإسلام بعضها ينقض مبادئه المقررة، وبعضها لا يجانسه، ولكن لا ينقض عروة من عراه، وكان ذلك يظهر في السياسة وفي النحل الاعتقادية، ولم يظهر شيء من الانحراف في الفقه ودراسة الفروع) (14).
5- كثرة تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) وذلك لعدّة أسباب منها طول عُمره وإمامته، ومنها أنّه عاش نوعاً ما من الانفراج وانشغال السلطات عن مضايقته فالتف حوله كثير من التلامذة وطلاب العلم حتى قال الحسن بن علي بن زياد الوشّاء لأبي عيسى القمّي: إنّي أدركت في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة- تسعمائة شيخ كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد) (15).
وصرّح الشيخ المفيد أنّ أصحاب الحديث جمعوا أسماء الرواة الثقاة الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) فكانوا أربعة آلاف رجل(16).
ولا يخفى أنّ العبارة تحتمل احتمالات:
الأول: أنّ الرواة الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) عددهم أربعة آلاف وجميعهم من الثقات وهو احتمال بعيد لوجود غير الثقات ممّن رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام).
الثاني: أنّ عدد الرواة المشهورين الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) هو أربعة آلاف وإلا فالرواة غير المشهورين عددهم كثير، ويشهد لذلك قول الشيخ الطبرسي في (أعلام الورى) قال: (قد تضافر النقل بأنّ الذين رووا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) من مشهوري أهل العلم أربعة آلاف إنسان، وصنّف عنه أربعمائة كتاب معروفة عند الشيعة تسمّى: الأصول، رواها أصحابه وأصحاب ابنه موسى (عليه السلام)، وهذا العدد الذي ذكروه (4000) هم أشهر الرواة للإمام الصادق (عليه السلام)، وإلا فإنّ الكثير منهم كان يلبس رداء التقيّة، ويتنكر بين أقرانه، بل والكثير ممّن لم يدوّن لهم اسم كانوا من أقطار أخرى نائية(17).
الثالث: أنّ الذين رووا عن الإمام الصادق (عليه السلام) كثير الثقات منهم عددهم أربعة آلاف راو.
الرابع: أنّ هذا العدد- أي أربعة آلاف راو- ما أدركه الحسن بن علي الوشاء في عصر متأخر، قال السيّد الأمين في(الشيعة في مسارهم التأريخي) لدى ذكره كلام الوشاء: (هذا ما أدركه راو واحد في عصر متأخّر) (18).
خصائص زمان الإمام الصادق (عليه السلام)
تميّز عهد الإمام الصادق (عليه السلام) عن العهود التي سبقته بأنّه عهد طغت فيه النهضات والحركات الفكرية على الحركات السياسية في العالم الإسلامي، واستمر ذلك العهد من العقد الثاني للقرن الثاني من الهجرة عندما وصلت الإمامة إلى الإمام الصادق (عليه السلام) إلى العقد الخامس.
وفي هذا العهد حصلت عدّة أمور مهمّة ومنها:
أولاً: أنّ جيلين أو ثلاثة أجيال من المسلمين نشأوا وترعرعوا وفتحوا أعينهم على جبهات فكرية مختلفة ممّا يوجب تحصينهم من أخطار هذه التيّارات الفكرية الجارفة.
ثانياً: ظهرت مسألة ترجمة الكتب من قبل بني أميّة وقد انتشرت بسببها العديد من الأفكار المنحرفة ودخلت على المسلمين بسببها العديد من الشبهات.
ثالثاً: انتشار الزنادقة في هذا العهد خاصة أنّ بني العباس فسحوا لهم المجال إلى حد ما كي ينشروا أفكارهم، وهم ينكرون أصل وجود الله والنبوّة ولهم إحاطة ببعض اللغات الجديدة على المسلمين آنذاك ومنها اللغة السريانية التي كانت هي اللغة العلميّة آنذاك، واللغة اليونانية، والفارسية، والهندية.
وقد قيل: إنّ الزندقة جاءت إلى العالم الإسلامي من الهند، ولكن المشهور أنّها اقتبست من المانويين(19).
رابعاً: ظهور حالة التصوّف بقيادة أمثال حسن البصري، وقد استقطبوا حولهم الكثير من المؤيّدين.
وهؤلاء وإن لم يكن لهم فكر يجابه الفكر الإسلامي ولكن تقدّسهم المقلوب وفهمهم المغلوط لحقيقة الإسلام جعلهم في عداد الطوائف الضالة التي تصدّى لهم الإمام الصادق (عليه السلام).
خامساً: انتشار بعض المذاهب الفقهيّة القائمة على بعض الآراء الباطلة كالقياس والرأي والاستحسانات، وكان علماء هذه المذاهب أمثال أبي حنفية والبصري غير محصورين في منطقة خاصة، بل إنّهم في بلاد متعدّدة، ولهم أتباعهم ومريدوهم.
سادساً: انشغال السلطات إلى حد ما بنفسها وتكالبهم على الرئاسة شغلهم عن التصدي لحركة الإمام (عليه السلام) أو التضييق عليه.
مجمل هذه الخصائص وغيرها استدعت من الإمام الصادق (عليه السلام) أن يؤسّس حركة علمية تتصدّى لمثل هذه الأمور وتحفظ أجيال المسلمين وتنشر التشيّع فنهض بخير صحبة وتلامذة حاملين سلاح الفكر والعلم في وجه التحدّيات فقدّموا خير حركة علميّة للعالم الإسلامي.
أيام المحنة
قبل أن نتحدث عن معالم الحركة العلمية للإمام الصادق (عليه السلام) لا بأس أن نشير إلى شدّة الظروف التي عاشها الإمام الصادق (عليه السلام)، فلا يكاد أحد ينكر شدة الظروف الحرجة التي مرّ بها الإمام (عليه السلام) أيام حياته ومنها ما لاقاه من حكام الجور الذين عاصروه وتربّصوا به الدواهي ليل نهار حتى مضى صلوات الله من الدنيا شهيداً مظلوماً.
ويكفينا في إثبات شدّة تضيقهم عليه ما روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: دخلت على أبي العباس بالحيرة، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في الصيام اليوم؟
فقلت: ذاك إلى الإمام إن صمت صمنا وإن أفطرت أفطرنا، فقال: يا غلام علي بالمائدة فأكلت معه وأنا أعلم والله إنّه يوم من شهر رمضان فكان إفطاري يوما وقضاؤه أيسر علي من أن يضرب عنقي ولا يعبد الله(20).
وقد كثر الوشاة على الإمام (عليه السلام) إلى السلاطين الذين كانوا يسخطون عليه ويسيئون إليه جراء هذه الوشايات، يقول محمد بن الربيع الحاجب: قعد المنصور أمير المؤمنين يوماً في قصره في القبّة الخضراء، وكان له يوم يقعد فيه يسمّى ذلك اليوم يوم الذبح، وقد كان أشخص جعفر بن محمد(صلى الله عليه وآله) من المدينة، قال: ثم دعا أبي الربيع فقال له: يا ربيع إنّك تعرف موضعك منّي وأني يكون لي الخبر ولا تظهر عليه أمهات الأولاد، وتكون أنت المعالج له، فقال: قلت: يا أمير المؤمنين ذلك من فضل الله علي وفضل أمير المؤمنين، وما فوقي في النصح غاية.
قال: كذلك أنت سر الساعة إلى جعفر بن محمد بن فاطمة فأتني به على الحال الذي تجده عليه، لا تغيّر شيئا مما هو عليه، فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، هذا والله هو العطب إن أتيت به على ما أراه من غضبه قتله، وذهبت الآخرة، وإن لم آت به وادهنت في أمره قتلني وقتل نسلي، وأخذ أموالي، فخيرت بين الدنيا والآخرة، فمالت نفسي إلى الدنيا.
قال محمد بن الربيع: فدعاني أبي وكنت أفظ ولده وأغلظهم قلباً، فقال لي: امض إلى جعفر بن محمد بن علي فتسلق على حائطه ولا تستفتح عليه باباً فيغير بعض ما هو عليه، ولكن انزل عليه نزولا فأت به على الحال التي هو فيها.
قال: فأتيته وقد ذهب الليل إلا أقله، فأمرت بنصب السلاليم، وتسلقت عليه الحائط، فنزلت عليه داره، فوجدته قائماً يصلي، وعليه قميص ومنديل قد ائتزر به، فلما سلم من صلاته قلت له: أجب أمير المؤمنين!
فقال: دعني أدعو وألبس ثيابي، فقلت له: ليس إلى تركك وذلك سبيل، قال: وأدخل المُغتسل فأتطهّر؟
قال: قلت: وليس إلى ذلك سبيل فلا تغسل نفسك فإنّي لا أدعك تغيّر شيئاً.
قال: فأخرجته حافياً حاسراً في قميصه ومنديله، وكان (عليه السلام) قد جاوز السبعين فلما مضى بعض الطريق ضعف الشيخ، فرحمته فقلت له: اركب، فركب بغل شاكري كان معنا ثم صرنا إلى الربيع فسمعته وهو يقول له: ويلك يا ربيع قد أبطأ الرجل، وجعل يستحثه استحثاثا شديداً.
فلما أن وقعت عين الربيع على جعفر بن محمد، وهو بتلك الحال بكى وكان الربيع يتشيع فقال له جعفر (عليه السلام): يا ربيع أنا أعلم ميلك إلينا، فدعني اصلي ركعتين، وأدعو، قال: شأنك وما تشاء فصلى ركعتين خففهما ثم دعا بعدهما بدعاء لم أفهمه إلا أنه دعاء طويل، والمنصور في ذلك كله يستحث الربيع، فلما فرغ من دعائه على طوله أخذ الربيع بذراعيه فأدخله على المنصور، فلما صار في صحن الايوان وقف ثم حرك شفتيه بشيء ما لم أدر ما هو ثم أدخلته فوقف بين يديه.
فلما نظر إليه قال: وأنت يا جعفر ما تدع حسدك وبغيك وإفسادك على أهل هذا البيت من بني العباس، وما يزيدك الله بذلك إلا شدّة حسد ونكد ما يبلغ به ما تقدره، فقال له: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا من هذا ولقد كنت في ولاية بني أميّة وأنت تعلم أنهم أعدى الخلق لنا ولكم، وأنهم لا حق لهم في هذا الأمر فوالله ما بغيت عليهم ولا بلغهم عني سوء مع جفاهم الذي كان بي، وكيف يا أمير المؤمنين أصنع الآن هذا وأنت ابن عمي، وأمس الخلق بي رحما، وأكثرهم عطاء وبرا فكيف أفعل هذا.
فأطرق المنصور ساعة، وكان على لبد وعن يساره مرفقة جرمقانية وتحت لبده سيف ذوفقار كان لا يفارقه إذا قعد في القبة قال: أبطلت وأثمت ثم رفع ثني الوسادة، فأخرج منها إضبارة كتب فرمى بها إليه وقال: هذه كتبك إلى أهل خراسان، تدعوهم إلى نقض بيعتي، وأن يبايعوك دوني.
فقال: والله يا أمير المؤمنين ما فعلت ولا أستحل ذلك، ولا هو من مذهبي، وإني لممن يعتقد طاعتك على كل حال، وقد بلغت من السن ما قد أضعفني عن ذلك لو أردته، فصيرني في بعض جيوشك حتى تأتيني الموت فهو مني قريب، فقال: لا ولا كرامة، ثم أطرق وضرب يده إلى السيف فسل منه مقدار شبر وأخذ بمقبضه فقلت: إنا لله، ذهب والله الرجل ثم رد السيف.
ثم قال: يا جعفر أما تستحيي مع هذه الشيبة ومع هذا النسب أن تنطق بالباطل وتشق عصا المسلمين، تريد أن تريق الدماء، وتطرح الفتنة بين الرعية والاولياء فقال: لا والله يا أمير المؤمنين، ما فعلت، ولا هذه كتبي ولا خطي ولا خادمي فانتضى من السيف ذراعا فقلت: إنا لله، مضى الرجل، وجعلت في نفسي إن أمرني فيه، ثم أغمد السيف وأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: أظنك صادقا، يا ربيع هات العيبة من موضع كانت فيه في القبه فأتيته بها، فقال: أدخل يدك فيها، فكانت مملوءة غالية، وضعها في لحيته، وكانت بيضاء، فاسودت وقال لي: احمله على فاره من دوابي التي أركبها، وأعطه عشرة آلاف درهم وشيعه إلى منزله مكرما وخيره إذا أتيت به إلى المنزل بين المقام عندنا فنكرمه والانصراف إلى مدينة جده رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فخرجنا من عنده وأنا مسرور فرح بسلامة جعفر (عليه السلام)، ومتعجّب ممّا أراد المنصور وما صار إليه من أمره.
فلما صرنا في الصحن، قلت له: يا ابن رسول الله إني لاعجب مما عمد إليه هذا في بابك وما أصارك الله إليه من كفايته ودفاعه ولا عجب من أمر الله عزوجل وقد سمعتك تدعو في عقيب الركعتين بدعاء لم أدر ما هو إلا أنه طويل، ورأيتك قد حركت شفتيك بشيء لم أدر ما هو؟
فقال لي: أمّا الأول فدعاء الكرب والشدائد لم أدع به على أحد قبل يومئذ، جعلته عوضا من دعاء كثير أدعو به إذا قضيت صلاتي لأني لم أترك أن أدعو ما كنت أدعو به، وأما الذي حركت به شفتي فهو دعاء رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم الأحزاب(21).
بل وكما في بعض الأخبار أنه من شدة التضيق على الإمام (عليه السلام) كان الشيعة والموالون لا يتمكنون من الإلتقاء به للسؤال عن أحكام دينهم ولذا فإنهم كانوا يتنكرون حتى يصلوا إليه ويسألوه، ومن ذلك ما نقله هارون بن خارجة، قال: كان رجل من أصحابنا طلق امرأته ثلاثاً فسأل أصحابنا، فقالوا: ليس بشيء، فقالت امرأته: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله وكان بالحيرة إذ ذاك أيام أبي العباس، قال: فذهب إلى الحيرة ولم أقدر على كلامه إذ منع الخليفة الناس من الدخول على أبي عبد الله (عليه السلام) وأنا أنظر كيف ألتمس لقاءه فإذا سوادي عليه جبة صوف يبيع خيارا فقلت له: بكم خيارك هذا كله؟
قال: بدرهم فأعطيته درهما وقلت له: أعطني جبتك هذه، فأخذتها ولبستها وناديت من يشتري خيارا ودنوت منه فإذا غلام من ناحية ينادي يا صاحب الخيار فقال (عليه السلام) لي لما دنوب منه: ما أجود ما احتلت، أي شيء حاجتك؟
قلت: إني ابتليت فطلقت أهلي في دفعة ثلاثا فسألت أصحابنا فقالوا: ليس بشيء وإنّ المرأة قالت: لا أرضى حتى تسأل أبا عبد الله (عليه السلام) فقال: ارجع إلى أهلك فليس عليك شيء(22).
في ظروف كهذه كان الشيعة يفتشون عن متنفّس ومخلص ينقذهم من جور الحكومات الجائرة وبطشها، ولذا لاذوا بالعلويين الذين كانوا يثورون بين الفترة والأخرى ضد السلطات ويحالون الانتقام من أهل الجور.
العصر الذهبي للحركة العلميّة
ليس من الصحيح أن نحصر حركة الإمام الصادق (عليه السلام) بما يُسمّى بالعصر الذهبي آنذاك عندما أوشكت الدولة الأموية على الأفول وتطلّع العباسيون لإنشاء دولتهم المشؤومة، وذلك لأنّ أهل البيت (عليهم السلام) لا يعتقدون بتجميد الإنسان عن وظيفته ومسؤوليته مهما كانت الظروف حرجة.
فقد كانت مسيرة الإمام الصادق (عليه السلام) موجودة حتى أيام الأمويين وفي أحلك الظروف ولكنّة حسب الزمان والمكان ووفق الظروف كان (عليه السلام) يقوم بدوره الرسالي تجاه الأمة.
نعم في فترة ضعف الأمويين وتطلّع العباسيين للسلطة انفرجت الظروف للإمام الصادق (عليه السلام) مع أبيه فصعّدا من تحركهما واستثمرا الأوضاع في خدمة الدين ونشر معارف التشيّع أكثر من سائر الأزمنة.
قال السيد الأمين في(الشيعة في مسارهم التأريخي): (وبالجملة: كان عصره-أي الإمام الصادق (عليه السلام) - أقل عصور أهل بيته خوفاً، فكثرت الرواة والمصنّفون في الحديث من الشيعة في زمانه أكثر من زمان أبيه، ولم يرو عن أحد من أهل بيته ما روي عنه حتى قال الحسن بن علي الوشاء من أصحاب الرضا (عليه السلام): أدركت في هذا المسجد- يعني مسجد الكوفة- تسعمائة شيخ كل يقول: حدّثني جعفر بن محمد) (23).
قالوا في الحركة العلميّة
عاش الإمام الصادق (عليه السلام) - كما نُقل- برهة من الانفراج والتطور العلمي في مختلف المجالات.
وكان لهذه البرهة الأثر البالغ ليس على التشيّع فحسب بل شمل سائر المذاهب والاتجاهات من حملة الفكر بما فيهم مخالفي العقيدة من الزنادقة والملحدين.
وقد تحدّث الكثير عن الحركة العلمية التي أحدثها الإمام الصادق (عليه السلام) نشير إلى بعضهم ومنهم:
1- روي عن أحمد بن محمد بن عيسى، قال: (خرجت إلى الكوفة في طلب الحديث، فلقيت بها الحسن بن علي الوشّاء، فسألته أن يخرج إلى كتاب العلاء بن رزين القلاء وأبان بن عثمان، فأخرجهما إلى، فقلت له: أحب أن تجيزهما لي، فقال لي: رحمك الله وما عجلتك؟
اذهب فاكتبهما واسمع من بعد، فقلت: لا آمن الحدثان، فقال: لو علمت أنّ هذا الحديث يكون له هذا الطلب لاستكثرت منه، فإني أدركت في هذا المسجد تسعمائة شيخ كل يقول: حدثني جعفر بن محمد(24).
2- قال الشيخ المُفيد في (الإرشاد): (وكان الصادق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين (عليهم السلام) من بين إخوته خليفة أبيه محمد بن علي ووصيه والقائم بالإمامة من بعده، وبرز على جماعتهم بالفضل، وكان أنبههم ذكراً، وأعظمهم قدراً، وأجلّهم في العامّة والخاصة، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقي أحد منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله (عليه السلام)، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجل(25).
3- قال النيشابوري في (روضة الواعظين): (وكان أفضل أهل زمانه فبرز على أقرانه بالفضل و السؤدد في الخاصة و العامة و نقل الناس عنه من العلوم ما لم ينقل عن أحد من أهل بيته و قد جمع أصحاب الحديث أسماء الرواة عنهم من الثقات على اختلافهم في الآراء و المقالات و كانوا أربعة آلاف رجل) (26).
4- قال ابن حجر: (ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الأكابر كيحيى بن سعيد وابن جريج ومالك والسفيانيين وأبي حنيفة وشعبة وأيوب السختياني) (27).
5- قال الطبرسي: (قد تضافر النقل بأنّ الذين رووا عن أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) من مشهوري أهل العلم أربعة آلاف إنسان، وصنف عنه أربعمائة كتاب معروفة عند الشيعة تسمّى: الأصول، رواها أصحابه وأصحاب ابنه موسى (عليه السلام)، وهذا العدد الذي ذكروه (4000) هم أشهر الرواة للإمام الصادق (عليه السلام)، وإلا فإن الكثير منهم كان يلبس رداء التقية، ويتنكر بين أقرانه، بل والكثير ممّن لم يدوّن لهم اسم كانوا من أقطار أخرى نائية) (28).
6- قال المحقّق، أبو القاسم جعفر بن سعيد: (وروى عنه من الرجال، ما يقارب أربعة آلاف رجل وبرز بتعليمه، من الفقهاء، الأفاضل جم غفير، كزرارة بن أعين، وإخوته: بكير وحمران، وجميل بن صالح، وجميل بن دراج، ومحمد بن مسلم، وبريد بن معاوية والهشامين، وأبي بصير وعبد الله ومحمد وعمران الحلبيين، وعبد الله بن سنان، وأبي الصباح الكناني وغيرهم من أعيان الفضلاء حتى كتبت من أجوبة مسائله أربعمائة مصنف لأربعمائة مصنف سموها أصولاً) (29).
8- قال الراوندي: (أمّا جعفر بن محمد (عليه السلام)، فإّنه كان أنبه أهل زمانه ذكراً، وأعظمهم قدراً وأجلّهم في الخاصة والعامة، وانتشر ذكره في البلدان، ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وكان له ولآبائه وأبنائه الأئمة من الدلائل الواضحة ما بهرت القلوب، وأخرست المخالف عن الطعون فيها بالشبهات) (30).
9- قال العلامة السيد شرف الدين: (وقد انتشر العلم في أيام الصادق (عليه السلام) بما لا مزيد عليه، وهرع إليه شيعة آبائه (عليهم السلام) من كل فج عميق، فأقبل عليهم بانبساطه، واسترسل إليهم بأنسه، ولم يأل جهداً في تثقيفهم، ولم يدخر وسعاً في إيقافهم على أسرار العلوم، ودقائق الحكمة، وحقائق الأمور) (31).
الاتجاهات الفكرية المنحرفة فی عهد الإمام الصادق (عليه السلام)
ظهرت في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) مجموعة من الاتجاهات الفكرية المنحرفة التي كانت تعمل جاهدة من أجل إضلال المجتمع وإغواء المسلمين ومنها:
1-المجبّرة: وقد رفع راية هذا الاتجاه بعض المنحرفين الذين فسّروا بعض النصوص الشرعيّة حسب مصالحهم وميولهم ووجدوا دعماً من السلطات الأمويّة التي هبّت لدعم هذا الاتجاه لكونه يخدمهم في تسلّطهم على الناس ويثبّت سلطتهم ويمنع الناس من التعرّض إليهم.
وحقيقة هذا الاتجاه قائمة على نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الله عزّ وجل، وأنّ كل ما يصدر من العبد- من خير أو شر- يُنسب إلى الباري تعالى، فهو ليس مخيّر بل مسيّر بإرادة اللّه ومشيئته، و استدلوا على ذلك بآيات قرآنية منها قوله تعالى: (وَ ما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ) (32) وقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً) (33).
ومن الواضح أنّ أصحاب هذا الاتجاه يبرّرون لأنفسهم وللسلطات الحاكمة ارتكاب المعاصي وترك الواجبات بذريعة أنّ اللّه شاء ذلك.
2- الزندقة: الزندقة لفظ فارسي مُعرّب، قال الزبيدي في (تاج العروس): (هو معَرَّب زَنْ دِين، أي: دِين المَرْأة نقَله الصّاغانِي هكذا، وقال الخَفاجي في شِفاءَ الغَلِيلِ: بل الصواب أنَّهُ معرَب "زَنْدَه"، وفي اللِّسان: الزِّنْدِيق: القائِلُ ببَقاءِ الدهرِ، فارسي مُعَرَّبٌ، وهو بالفارسية: زَنْدَه كر أي: يَقُولُ بِدوام بَقاء الدَّهْر.
قلت: والصّوابُ أَنَّ الزِّنْدِيقَ نِسْبَة إِلى الزَّنْدِ، وهو كِتاب ماني المَجُوسِيِّ الذي كانَ في رمَن بَهْرامَ بنِ هُرْمُزَ ابنِ سابُورَ، ويَدَّعِي مُتابَعَةَ المَسِيح عليه السلامُ، وأرادَ الصِّيتَ فوَضَع هذا الكِتابَ وخَبَّأَهُ في شَجَرةٍ، ثم استَخْرَجَه، والزّنْدُ بلغَتِهم: التَّفْسِيرُ، يعني هذا تفسِير لكِتابِ زَرادُشْتَ الفارسِيِّ، واعتَقَدَ فيه الإِلهَيْنِ: النورَ، والظُّلْمَةَ، النُّورُ يَخْلُقُ الخَيْرَ، والظُّلْمَةُ يَخْلُق الشَّر، وحَرَّمَ إِتْيانَ النِّساءَ لأَنَّ أَصْلَ الشهوَةِ من الشَّيْطان...) (34).
فالزندقة هي التفسير الخارج عن الحدود الطبيعية بالتأويل.
وقد ظهر هذا الاتجاه في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وكان له أهله ورجاله ومنهم ابن أبي العوجاء الذي كان يعقد حلقاته الفكرية للتشكيك في عقائد المسلمين، وكان الجعد بن درهم- کما وصفوه-: (ممعناٌ في الكفر و مبتدعاً و متفانياً في الزندقة و كان يعلن الالحاد.
وقد بلغ به الأمر أن جعل تراباٌ وماءاً في قارورة حتى استحال دودا وهواماٌ، فقال لأصحابه: إني خلقت ذلك لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك الإمام الصادق (عليه السلام) فردّه قائلاٌ: «إن كان خلقه فليقل كم هو؟ وكم الذكران منه والإناث؟ وكم وزن كل واحدة منهن؟ وليأمر الذي يسعى الى هذا الوجه أن يرجع الى غيره»(35).
وبالرغم أنّهم كانوا يعملون ليل نهار لتضعيف عقائد الناس إلا أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) كان لهم بالمرصاد، فكان يبطل إدعاءاتهم ويفند شبهاتهم ويكشف زيفها للناس حتى أقر الزنادقة أنفسهم بفضيلته (عليه السلام)، ومن ذلك ما نقله أحمد بن محسن الميثمي، قال: كنت عند أبي منصور المتطبّب، فقال: أخبرني رجل من أصحابي، قال: كنت أنا وابن أبي العوجاء وعبد الله بن المقفّع في المسجد الحرام، فقال ابن المقفع: ترون هذا الخلق؟ وأومأ بيده إلى موضع الطواف - ما منهم أحد أوجب له اسم الإنسانية إلا ذلك الشيخ الجالس - يعني جعفر بن محمد (عليه السلام) - فأمّا الباقون فرعاع وبهائم، فقال له ابن أبي العوجاء: وكيف أوجبت هذا الاسم لهذا الشيخ دون هؤلاء؟
قال: لأنّي رأيت عنده ما لم أر عندهم، فقال ابن أبي العوجاء: ما بد من اختبار ما قلت فيه منه، فقال له ابن المقفّع: لا تفعل، فإنّي أخاف أن يفسد عليك ما في يدك، فقال: ليس ذا رأيك، ولكنّك تخاف أن يضعف رأيك عندي في إحلالك إيّاه المحل الذي وصفت، فقال ابن المقفّع: أما إذا توهّمت على هذا فقم إليه، وتحفّظ ما استطعت من الزلل، ولا تثن عنانك إلى استرسال يسلمك إلى عقال، وسمه ما لك أو عليك.
قال: فقام ابن أبي العوجاء، وبقيت أنا وابن المقفّع، فرجع إلينا، فقال: يا ابن المقفّع ما هذا ببشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسّد إذا شاء ظاهراً ويتروّح إذا شاء باطناً فهو هذا، فقال له: وكيف ذاك؟
فقال: جلست إليه، فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني، فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء وهو على ما يقولون يعني أهل الطواف فقد سلموا، وإن يكن الأمر على ما تقولون وليس كما تقولون فقد استويتم أنتم وهو، فقلت له: يرحمك الله وأيّ شيء نقول وأيّ شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحداً؟
قال: فكيف يكون قولك وقولهم واحداً وهم يقولون: إنّ لهم معاداً وثواباً وعقاباً ويدينون بأنّ للسماء إلها وأنّها عمران وأنتم تزعمون أنّ السماء خراب ليس فيها أحد؟!.
قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه و يدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل؟ ! ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به، فقال لي: ويلك وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك نشوءك ولم تكن وكبرك بعد صغرك، وقوّتك بعد ضعفك وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إبائك، وإبائك بعد عزمك وشهوتك بعد كراهتك وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاءك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعزوب ما أنت معتقده عن ذهنك، وما زال يعد علي قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه(36).
3- المعتزلة: مقابل بعض الاتجاهات الضالّة التي اعتمدت النصوص وألغت مساحة العقل وعجزهم عن الإجابة على الأسئلة التي ظهرت بسبب الانفتاح على الحضارات الأخرى ظهرت المعتزلة تلبية لحاجة التطوّر المدني في البلاد الإسلاميّة و كثرة الاستفهامات التي كانت تثيرها الحركات الإلحادية.
والاعتزال ظهر في عصر الإمام الصادق (عليه السلام) حينما اعتزل عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وغيرهما حوزة الحسن البصري فنبذوهم بهذا اللقب، وماقيل من أنّ الاعتزال نشأ في عهد أميرالمؤمنين (عليه السلام) لما اعتزل سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأسامة بن زيد حروب الإمام علي (عليه السلام) لا وجه له، لأنّ اعتزالهم لم يكن على أساس عقائدي ديني بل انحرفوا عنه لانحرافهم عن أميرالمؤمنين (عليه السلام)، ولذا لم يكن الاعتزال آنذاك معروفاً.
وقد افترقت المعتزلة إلى فرق كثيرة بعد أن اتفقت على الاعتزال أشير إليها في كتب الفرق والنحل.
وقد رفض أهل الاعتزال الاعتماد على النصوص وهاجموا أهل الحديث لتعطيلهم العقل، وتكفيرهم كل من يبحث ويناقش.
ومن الأمور التي خدم بها هذا الاتجاه سياسة الحكام تبنّيه لفكرة أنّ الإمامة والخلافة تتم للمفضول ويجوز تقديمه على الفاضل وبهذا استدلوا على شرعية خلافة الأمويين والعباسيين.
يقول أحمد أمين: (إنّ جرأة المعتزلة في نقد الرجال هو بمثابة تأييد قوي للأمويين لأنّ نقد الخصوم ووضعهم موضع التحليل وتحكم العقل في الحكم عليهم أوّلهم يزيل على الأقلّ فكرة تقديس علي (عليه السلام) التي كانت شائعة عند جماهير الناس) (37).
ولذا نالوا التأييد المطلق والدعم الشامل من قبل الأمويين وبعد إنهيار الحكم الأموي انضمّوا إلى الحكم العباسي فكانوا من أجهزته وأعوانه وكان المنصور يكبر عمرو بن عبيد أحد كبار المعتزلة(38)
4- الغلاة: الغلو لغة على وزن فعول، مصدر غلاء من الفعل على يغلو، بمعنى الإفراط والتجاوز عن الحد، قال الفراهيدي في كتاب(العين): (وغلا الناس في الأمر، أي: جاوزوا حدّه، كغلو اليهود في دينها) (39).
وفي (المعجم الوسيط)، قال: (غلا السعر وغيره غلواً وغلاءً، زاد وارتفع وجاوز الحدّ فهو غالي وغلي... فلان في الأمر والدين تشدّد فيه وجاوز الحدّ وأفرط) (40).
والغلو اصطلاحاً لم يختلف عن تجاوز الحد ولكن التجاوز فيه بلحاظ مرتبة الألوهية، ومرتبة النبوة، أو شؤون أخرى، قال الشيخ المفيد: «الغلوّ هو التجاوز عن الحدّ، والخروج عن القصد، والإفراط في حقّ الأنبياء والأئمّة (عليهم السلام)) (41).
وقد نهي الله عزّ وجل عن الغلو، فقال عزّ من قائل لليهود: (ولاتغلو في دينكم) (42).
ومن أخطر الحركات ضرراً على المجتمع الإسلامي آنذاك هي حركة الغلاة، فهي حركة سياسية عقائدية استهدفت ضرب الإسلام من الداخل، كما أنّ دراسة هذه الحركة من قبل المؤرّخين لا زالت غامضة حتى اليوم؛ إذ لم تدوّن أفكار هذه الحركة بأقلام دعاتها.
وحركة الغلاة لم تدم طويلا لأنّها ظهرت على المسرح السياسي ثم اختفت بسرعة وقد حاصرها الإمام الصادق (عليه السلام) حيث أدرك خطورتها فأعلن البراءة منها ومن مبادئها ولعن دعاتها كأبي الخطاب و حذّر الناس من أهدافها الخبيثة.
فقد نشطت هذه الحركة في أواخر الحكم الأموي فبثّ أبو الخطّاب أفكاره بسريّة في مدينة الكوفة في الوقت الذي كانت تموج بها التيارات السياسية، والدعوة العباسية ناشطة في شقّ طريقها الى النجاح. وكان اختيار أبي الخطاب للكوفة لعلمه بأنّها قاعدة لتجمّع الموالين لأهل البيت (عليهم السلام) و بهذا يمكن تشويه هذه القاعدة الواعية وضرب أتباع أهل البيت (عليهم السلام) عن هذا الطريق.
يقول أبو عباس البغوي: (دخلنا على فثيون النصراني وكان في دار الروم بالجانب الغربي، فجرى الحديث إلى أن سألته عن ابن كلاب، فقال فثيون: رحم اللّه عبد اللّه (ابن كلاب القطّان) كان يجيئني فيجلس إلى تلك الزاوية- وأشار الى ناحية من البيعة و هي الكنيسة- و عنّي أخذ هذا القول، ولو عاش لنصّرنا المسلمين (أي لجعلناهم نصارى) (43).
أمّا معتقداتهم فهي:
1- الاعتقاد بألوهية بعض الأشخاص.
2- الاعتقاد بنبوة بعض الأشخاص هم ليسوا بأنبياء.
3- الاعتقاد بالحلول.
4- الاعتقاد بالتناسخ.
5- الاعتقاد بالتشبيه.
6- الاعتقاد بالتفويض المطلق.
7- الاعتقاد بعلم الغيب المطلق لبعض الأشخاص، وغير ذلك.
ومن أبرز أئمة الغلو في عهد الإمام الصادق (عليه السلام) هم:
وقد واجه الإمام الصادق (عليه السلام) الغلاة من خلال:
1- التبرّي منهم: حيث أعلن برائته منهم ومن أفكارهم، فعن سدير قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنّ قوما يزعمون أنكم آلهة يتلون عليها بذلك قرآنا: (وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله)، فقال: يا سدير سمعي وبصري وبشري ولحمي ودمي وشعري من هؤلاء برئ، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ولا على دين آبائي، والله لا يجمعني الله وإيّاهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم.
قال: قلت: وعندنا قوم يزعمون أنّكم رسل يقرأون علينا بذلك قرآنا: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم)، فقال (عليه السلام): يا سدير سمعي وبصري وشعري وبشري ولحمي ودمي من هؤلاء برئ، وبرئ الله منهم ورسوله، ما هؤلاء على ديني ودين آبائي، لا يجمعني الله وإياهم يوم القيامة إلا وهو ساخط عليهم قال: قلت: فما أنتم؟
قال: نحن خزّان علم الله، نحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون، أمر الله تبارك وتعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا، نحن الحجّة البالغة على من دون السماء وفوق الأرض(44).
وعن سدير، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: كنت جالساً عند أبي عبد الله (عليه السلام) وميسر عنده، ونحن في سنة ثمان وثلاثين ومائة، فقال له ميسر بيّاع الزطي: جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون هنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم!
قال (عليه السلام): ومن هم؟
قلت: أبو الخطاب وأصحابه، وكان متكئا فجلس فرفع إصبعه إلى السماء، ثم قال: على أبي الخطاب لعنة الله والملائكة والناس أجمعين(45).
وقال إسحاق بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لبشار الشعيري: اُخرج عنّي لعنك اللّه، لا و اللّه لا يظلني وإيّاك سقف بيت أبداً، فلما خرج: قال: ويله ألا قال بما قالت اليهود، ألا قال بما قالت النصارى، ألا قال بما قالت المجوس، أو بما قالت الصابية، واللّه ما صغر اللّه تصغير هذا الفاجر أحد، إنه شيطان ابن شيطان خرج من البحر ليغوي أصحابي وشيعتي، فاحذروه وليبلغ الشاهد الغائب، أنّي عبد ابن عبد، قن ابن أمة ضمّتني الأصلاب والأرحام، و أنّي لميّت وأنّي لمبعوث ثم موقوف، ثم مسئول واللّه لأسألن عمّا قال في هذا الكذاب، وادّعاه علي يا ويله ما له أرعبه اللّه، فلقد أمن على فراشه وافزعني وأقلقني عن رقادي، أ و تدرون أنّي لم أقول ذلك؟
قول ذلك لكي استقر في قبري(46).
2- الدعوة إلى مقاطعتهم: لم يقتصر الإمام الصادق (عليه السلام) على التبرّي من الغلاة ولعنهم بل إنه (عليه السلام) نهى عن مخالطتهم ومجالستهم كي لا يأثروا على الآخرين، فقد كتب (عليه السلام) إلى أصحابه: (لا تقاعدوهم ولا تواكلوهم ولا تشاربوهم ولا تصافحوهم ولا توارثوهم(47).
3- الدعوة إلى التبرّي منهم: كما دعا الإمام الصادق (عليه السلام) الآخرين إلى التبرّي من الغلاة ومن عقائدهم الباطلة حتى أنه قال ذات مرّة لأبي بصير: يا أبا محمد، إبرأ ممّن يرى إنّنا أرباب، فقال أبو بصير: أنا أبرأ إلى اللّه منه.قال (عليه السلام): أبرأ ممّن يزعم أنّنا أنبياء.فقال: أنا بريء منه إلى اللّه تعالى(48).
4- بيان العقيدة الحقّة: إلى جانب فضح الإمام الصادق (عليه السلام) للغلاة وتبرّيه منهم كان يؤكد على العقيدة الحقّة ويظهر للناس أنّهم ليسوا بآلهة ولا أنبياء بل عباد مكرمون.
اضف تعليق