يقول الإمام (ع) ن (الْعَجْزُ آفَةٌ وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ وَنِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَى)، هذه خريطة عمل يُراد بها تيسير رؤية الإنسان وتوجيه حركته، فعندما نلاحظ هذا القول سنكتشف صفات لها معانٍ مختلفة، ويمكن أن يصيبنا العجز في حالات معينة، وهذا يعني عواقب وخيمة عليه، تجعله في المرتبة الأسفل او في قعر الحياة، فضلا عن الفشل في تحقيق درجة العبور الى العالم الآخر بنجاح
تتقدم الأمم حين تفهم وتهضم نقيضين، الواقع والتاريخ، فتتخذ مما مضى مهمازا يحثّها على تجديد مكنوناتها في الواقع، كي تغادر المراوحة والسكون الآني إلى ما هو أنصع، تطلّعا نحو الصدارة، وهو استحقاق لا يُكتسَب، ولا يُمنَح، بل يُنتزَع بالمثابرة والأصالة والابتكار، هكذا استند علي بن أبي طالب (ع) على مبادئ غاية في الوضوح والنقاء، جعلت منه في قمة الرقيّ متربّعا دوحة العُلا، فاهما غاية الوجود، مالئاً حاضره الماضي وتاريخه المشتمِل على أبعاد الزمن بالفكر الإنساني المتوقّد المسنود بنصاعة الأفعال والأعمال وحسن الكلام.
يُنبئ تاريخ علي (ع) وما خلّفه من إرث معظّم، عن شخصية تقف في المقدمة، مكانها الصدارة، شأنها العلوّ، همّها الإنسان، في داره الأولى وتطلّعه إرتقاء الأخرى بسلام ونجاح، ولكن كيف؟، إن الحياة قاعة امتحان!، وهي طريق العبور نحو دار أرقى وأهم وأكثر اتساعا وعمقا وآفاقا، من حياتنا هذه، وثمة قانون معترَف به منطقياً، ينص على أن من يفشل في هذه الحياة، او في هذا الامتحان، لا يمكنه قطع الطريق بنجاح الى دار الثبات، لذلك ينبغي على الإنسان أن يتحصّل على صفات وملكات تساعده على قطع الطريق الشاق بنجاح مضمون، ولكن كيف؟ هذا ما أجاب عنه الإمام في سيرته وحياته فكرا معتقدا وعملا داعما لما آمن به وعمل في ضوئه.
أتحفنا الإمام علي (ع) بنوعين من الإرث، الأول الفكر وصياغة المعنى ببلاغة الكلام، والثاني المرأى بالفعل التطبيقي سيرة مائزة تدعم الأفكار تطبيقا، فما تفوّه به لم يذهب سدى، ولم يترك تطبيقه لغيره أو للقادمين، بل هو ذاته أو من طبّقه فعليّا، وهذا هو السر في أننا نجد ضالتنا في كتاب نهج البلاغة للإمام علي (ع)، ونحصل على السبل والخطوات والنصائح الناجعة التي تساعدنا على امتلاك الصفات والدوافع المحفّزة على المضيّ قُدُماً، من اجل تحقيق الضمان الناجز للعبور، من حياتنا الأولى الشاقة، الى الحياة الثانية، لكي يضمن الكائن البشري فرصة الوجود والعبور بنجاح الى الدار الأكثر روعة وثباتا من الأولى، فالإمام يسّر السبيل أمام الناس، مريدين أو غيرهم، كي يرتقوا بأنفسهم وأفكارهم إلى السواء.
يقول الإمام (ع) ن (الْعَجْزُ آفَةٌ وَالصَّبْرُ شَجَاعَةٌ وَالزُّهْدُ ثَرْوَةٌ وَالْوَرَعُ جُنَّةٌ وَنِعْمَ الْقَرِينُ الرِّضَى).
هذه خريطة عمل يُراد بها تيسير رؤية الإنسان وتوجيه حركته، فعندما نلاحظ هذا القول سنكتشف صفات لها معانٍ مختلفة، ويمكن أن يصيبنا العجز في حالات معينة، وهذا يعني عواقب وخيمة عليه، تجعله في المرتبة الأسفل او في قعر الحياة، فضلا عن الفشل في تحقيق درجة العبور الى العالم الآخر بنجاح، أي أن العجز سوف يؤدي بالإنسان الى الفشل في الامتحان الذي تفرضه عليه الحياة الأولى بشروطها الشاقة، وتستدعي منه أن يتجاوزه بنجاح، لذلك يصفه الإمام (ع) بوصف دقيق وعميق عندما يقول عن العجز بأنه (آفة)، لأن الآفة تأكل الأخضر واليابس معا، والعجز كفيل بأن يجعل من الإنسان صفرا على الشمال، وهذه ليست قيمته ولا هي مكانته التي أرادها الخالق له، فيأتي في قول آخر للإمام (ع):
(أَعْجَزُ النَّاسِ مَنْ عَجَزَ عَنِ اكْتِسَابِ الْإِخْوَانِ وَأَعْجَزُ مِنْهُ مَنْ ضَيَّعَ مَنْ ظَفِرَ بِهِ مِنْهُمْ).
هنا تبرز أهمية قصوى للوشائج الاجتماعية وأطر العلاقات الاجتماعية، وهذا يوضّح بأن العجز لا يتعلق بالعمل فقط ولا الجهد العضلي او الفكري، بل يتعلق بطريقة حياة الناس برمتها، وكيفية تعاطيهم اجتماعيا وإنسانيا، ومدى قدرتهم على التأثير الإيجابي بالآخرين، فمهمة البشر ليس الفوز الذاتي فحسب، بل يجب أن يتعدى ذلك إلى حثّ الآخر على الفوز بالدرجة نفسها.
بعضهم ينظر إلى الصبر على أنه نوع من أنواع أو أشكال العجز، لكن الصبر يختلف تمام الاختلاف عن العجز، فقد وصفه الإمام (ع) بأرقى الصفات الإنسانية وهي الشجاعة، نعم إن الإنسان الصبور شجاع قطعا، وهو مختلف تماما عن البشر المُحاط العاجز، لذلك نجد أن الإنسان الصبور يكون في الأعم الأغلب بحالة فوز دائم على الصعاب، وهو عابر لا محالة الى الدار الأخرى بنجاح، كونه يمتلك أهم الصفات التي تعينه على تحقيق النجاح المطلوب، ألا وهو الصبر، فالتباين بين الصبر والعجز يكاد يكون قطعي مختلف بالتمام والكمال، والصبور ليس العاجز مطلقا.
ثم بعد الصبر والعجز يشرئب الزهد بقوة، مصطفا بقوة إلى جانب السياق السليم لمسيرة البشر، حين يعرّج أمير المؤمنين (ع) على صفة الزهد، وهي يمكن أن تكون ملَكة، لكن الزهد أنواع ودرجات، وأفضل الزهد هو الذي يعيشه الإنسان ويطبقه على تفاصيل حياته اليومية والمستدامة، ويتمسك به من دون أن يعلنه على الملأ، أو يتبجح به إعلاءً للفردية الذاتية، أو محاولة مفضوحة للتباهي والترفع عن طريق إظهار الزهد علنا، فالزهد ينبغي أن يكون طريقة عيش بعيدة عن المراءاة والخداع، لذلك يزيد الإمام (ع) إلى قوله جملة:
(أَفْضَلُ الزُّهْدِ إِخْفَاءُ الزُّهْدِ).
الآن نعرّج على شأن المصالحة الذاتية، أو تصالح الإنسان مع نفسه، ليس بمعنى القبول بطلباتها والخضوع لرغباتها، لأنها تقود إلى الهلاك إذا لم تكن مُقادة من صاحبها أو حاملها، لأن التركيبة البشرية النفسية والتكوينية بشكل عام، تنطوي على درجات متباينة من التوافق والمصالحة مع الذات، بل هناك بشر يرفضون الصلح بشكل تام مع ذواتهم، فيُمسي الإنسان في حالة صراع دائم مع الذات، وهذا يجعل حياته مُحاطة بالبؤس والقلق، لذلك مطلوب أن نرضى عن أنفسنا ونتوافق مع ذواتنا، ونتعلم كيف نحقق هذا الهدف من خلال السعي والصبر ولكن علينا ملاحظة زاوية مهمة واشتراط لا يمكن إهماله، أن نقود أنفسنا وليس العكس، فالتصالح مع الذات يساعد على توفير الأهداف التي نسعى إليها وفق سبل مشروعة ومقبولة شرعيا وعرفيا وأخلاقيا، وهذا بدوره يتطلب شخصية صادقة لها همّة عالية ومروءة وشجاعة تمنع النفس من السقوط في وحل الرغبة والغرائز الضاغطة، فيوجّه الإمام (ع) بالتنبّه على هذا المأزق الذي قد يضع البشر على شفا الهاوية، فيقول عليه السلام:
(قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ وَشَجَاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ غَيْرَتِهِ).
ومصدر كل هذه الشروط والمتطلبات الرضى على ما هو متاح، ليس بمعنى الكف عن الطموح، ولا القبول بأدنى درجات التفكير والانجاز، ولكن الرضى هنا ينمّ عن التوافق ويشي بالتناسق بين الإنسان ودخائله، وهكذا تمنحنا الحكم والأفكار والديباجات العميقة في (نهج البلاغة) خرائط عمل ضامنة، إذا تشبثنا بها تشبث الصادقين، ستنقلنا بأمان من تعقيدات الدار الأولى، إلى صفاء ونقاء وارتقاء الدار الثانية.
اضف تعليق