سمّي أمامنا عليه السلام بالكاظم، لما كظمه من الغيظ، وتصبّره على ما فعله الظالمون به، حتّى مضى قتيلاً في حبسهم، وقد اشتهر عليه السلام بحلمهِ وأناتهِ وصبره على الأذى الذي كان يلحقهُ به الآخرون، خصوصا النظام السياسي المتجبر آنذاك، وفي كل الظروف والأحوال وفي أقساها وأصعبها بقي الإمام الكاظم متمسكا بالحلم كاظما للغيظ، كاسبا بذلك أقسى القلوب.
تتفاوت قدرات الأشخاص في الصبر على الأذى ويصعب ضبط النفس أو يسهل حسب إرادة الإنسان ومدى قدرته على ردع نفسه والسيطرة عليها، فكثيراً ما ينفعل الإنسان ويريد أن ينتقم من الآخرين بمجرد أن يسمع كلمة غير لائقة بحقه، فيبقى لأيام وليال وقد يستمر إلى سنين، يشغل فيه الأمر كل قدراته كي يخطط ويرسم خطوات التنفيذ ليقابل الأذى بالأذى.
ومما يؤكده واقع البشر قديما وحديثا، أن بعض الناس سريع الانفعال وبعضهم يتمالك نفسه كي لا يؤذي حتى من يؤذيه، ويحترز من أن يجرح مشاعر الآخرين، فقد يصبر الإنسان على الأذى والتجاوزات الفعلية أو المعنوية ويعود هذا إلى طبيعة شخصيته والمبادئ التي تربّى عليها والبيئة التي نما وترعره فيها، وتارة أخرى قد يتذمر بعد ذلك، وقد يحدث العكس، فيصبح أكثر فضيلة وأفضل أخلاقاً عندما يكون الحلم طريقه في الحياة وفي التعامل مع الناس، لأن الحليم أعلى مرتبة من الصبور.
الإنسان الحليم: لا يكون في نفسه غضب على من أساء إليه، لذلك هو يعرف كيف يضبط نفسه، ويروضها ويبعدها عن الضغينة أو الحقد أو رد الفعل العنيف في الفعل أو الكلام، وهذه الحالة (حالة ضبط النفس) تعد قمة الإنسانية.
الحلم سيد الأخلاق
لهذا قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: الحِلم سيد الأخلاق.
ومن يكون قادرا على كتم غضبه وكظم غيظه، ولا يرد الأذى بالأذى، ليس لأنه غير قادر على ذلك، فهناك من لا يرد الأذى للآخرين بسبب ضعفه جسديا أو معنويا، ولكن هناك أيضا أناس رغم أنهم القلة القليلة يكظمون غيظهم ويضبطون أنفسهم، وينأون عن إلحاق الأذى بمن يؤذيهم، بسبب قوة مبادئهم وقدرتهم العالية على ضبط أنفسهم، هؤلاء هم الذين يُطلق عليهم صفة الحليم الصبور المتأني الكاظم لغيظه.
فبالحلم يزداد العبد قرباً من الله، لأنه تعالى لا ينسى قهراً كتمه عبده، وألماً سكت عنه لوجه ربه الكريم، وبهذا الطريقة من التعامل يستطيع الإنسان أن يكسب قلوب الناس بحسن تصرفه، فالحلم دليل على قوة الإيمان وعظمة الإنسان كما يشهد التاريخ على حلم أئمة أهل البيت عليهم السلام، ومواقفهم النبيلة التي جعلت الناس يخضعون لأقوالهم وينحنون أمام حسن أخلاقهم.
وقد ورد في أحوال الإمام الكاظم عليه السلام، أن رجلاً كان في المدينة يؤذي أبا الحسن موسى عليه السلام، ويسبه إذا رآه ويشتمُ علياً عليه السلام، فقال بعض مواليه: دعنا نقتل هذا الفاجر. فقال: لا، ثم ركب حتى أتى إلى مزرعته ودخل فيها بحماره، فصاح: لا تدنس زرعنا، فلم يصغِ إليه وأقبل حتى نزل عنده وباسطه وضاحكه، وقال: كم غرمت في زرعك هذا؟.
فقال: مائة دينار
فقال الإمام: وكم ترجو أن يصيبك منه؟
قال الرجل: لست أعلم الغيب.
قال الإمام: إنما قلت لك كم ترجو؟.
فقال: أرجو أن يجيء منه مائتا دينار.
فأعطاه الإمام صرة فيها ثلاثمائة دينار، وقال له: هذا زرعك على حاله والله يرزقك فيه ما ترجو. فقام إليه الرجل فقبّل رأسه وسأله الصفح، فتبسم الإمام وانصرف، ثم راح إلى المسجد فوجد الرجل جالساً، فلما رأى الإمام قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته فقيل له قد كنت تقول غير هذا. فقال من الآن هذا قولي. ثم التفت الإمام عليه السلام للذين سألوه في قتل الرجل وقال:
أيها كان خيراً ما أردتم أم ما أردت؟.
الكاظمين الغيظ العافين عن الناس
هذه هي نتيجة التأني والحلم وضبط النفس وكظم الغيظ، فكلما امتلأ العقل بالعلم والقلب بالحلم، اقتربت النفس إلى مرضاة الله، وقد تجبرنا الظروف - وبعض الناس وربما منهم أقرباء- في العمل أو الطريق أو أي مكان يحدث فيه احتكاك بيننا وبين الآخرين، على الغضب والصراخ بأعلى أصواتنا، ولكن يبقى الحلم سبيلا يتمسك الإنسان لينجيه من الوقوع في المهالك التي تنتج عن سرعة الغضب، تزرع الحقد والنفور في قلوب الآخرين، وتبعد الإنسان عن الحقيقة.
لذلك جاء في النص القرآني المبارك في صفات المؤمنين: الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ.
وكان إمامنا الكاظم عليه السلام، المثال الأعلى لهذه الآية الكريمة كما ورد في إرشاد المفيد2: 235، المناقب لابن شهرآشوب4: 235
وقد سمّي أمامنا عليه السلام بالكاظم، لما كظمه من الغيظ، وتصبّره على ما فعله الظالمون به، حتّى مضى قتيلاً في حبسهم، وقد اشتهر عليه السلام بحلمهِ وأناتهِ وصبره على الأذى الذي كان يلحقهُ به الآخرون، خصوصا النظام السياسي المتجبر آنذاك، وفي كل الظروف والأحوال وفي أقساها وأصعبها بقي الإمام الكاظم متمسكا بالحلم كاظما للغيظ، كاسبا بذلك أقسى القلوب.
وقد يستخدم الإنسان صفة "الحلم" أحياناً في تعامله مع أقربائه، وأناس يحملون مثله صفات متشابهة، ولكن أن يستخدم الإنسان هذه الصفة مع الأعداء الذين يختلفون معه في كل شيء سيكون التحلي بالحلم وكظم الغيظ أصعب بكثير.
فقد جاء عن الرضا _ عليه السلام _ قال لرجل من القميين: (اتقوا الله وعليكم بالصمت والصبر والحلم فانه لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً).
وكما هو مثبت عمليا في واقع العلاقة بين الناس، فإن الخُلق الحسن هو مفتاح القلوب، ويحتاج التعامل مع الناس قدراً كبيراً من الصبر والحلم من أجل كسب الآخرين، فالشخص الحليم يستطيع أن يتأقلم أسرع مع الآخرين في المحيط الذي يتواجد وينشط فيه، ليس هذا فحسب، وإنما تكون لديه القدرة على التأثير فيهم بطيب خلقه ونبله وحلمهِ كما فعل الإمام الكاظم عليه السلام.
فسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
اضف تعليق