(فمن كنت مولاه فعلي مولاه)...
قالها خاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله) ثلاث مرات في (حجة الوداع)، وبحضور أكثر من 120 ألف مسلم ومسلمة، وقولته تلك في (غدير خم) كانت إعلاناً لانطلاق مرحلة جديدة في الدين والمجتمع على حد سواء، فلقد قرر حينها النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) أن يضع أولى لبنات استمرار نهجه من خلال اختيار الأصلح لقيادة الأمة الإسلامية من بعده. والجميع يعرف من هو المرشح للخلافة: أول المسلمين، وأول المجاهدين، وأول المضحين، و... والأول في كل الميادين والمهمات.
وهكذا لا تكون عملية اختيار هذا الاسم بذاته فرضاً إكراهياً على الناس، وإنما هي عملية تلقائية شأنها شأن النبات الذي زرعت بذرته في الأمس، فأصبح بعد مراحل النمو شجرة وارفة الظلال.
وعلى العكس من أنظمة الحياة والمجتمع البشري، انحرفت الأمة إلى نبات لم ينبت إلا بالأمس القريب، فانقلبت على القرار النبوي، واتخذت قراراً يستند إلى حسابات مرحلية خاطئة، ولم تحسب لآليات التاريخ أي حساب. وهكذا لم يجد القرار النبوي طريقه إلى التنفيذ، وأقصي الحاكم الشرعي بعيداً عن مهامه ومسؤولياته التي لم يكن غيره لائقاً بتحمل مسؤوليتها
وهكذا أمضت الأمة 25 عاماً تتخبط بين "طخية عمياء" و"حوزة خشناء" وقوم "يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع"، بحسب الخطبة الشقشقية. كل ذلك والإمام صابر لأن الصبر "أحجى"، لكنه صَبَر "وفي العين قذى، وفي الحلق شجا"، وهكذا يكون القادة الاستراتيجيون، يصبرون عندما يرون الرياح تجري بما لا تشتهي السفينة، ولكنهم يظلون مع ذلك يحسون بمرارة جريان السفينة في عكس اتجاهها المطلوب، إلى أن يفرض النظام التلقائي للحياة والمجتمع قانونه فتعود الرياح إلى سيرتها الأولى.
وجاء عام (35هـ) فعادت الرياح إلى سيرتها الأولى، واستعادت الأمة وعيها، وأدركت أن الاختيار النبوي هو الحل، فمضت إلى الأقدر على إدارتها "ينثالون" عليه "من كل جانب"، "مجتمعين" حوله، فوجدته بقرار التجربة والتاريخ، لكن بعد أن دفعت ضريبة التخلف دماً ومالاً ووقتاً، وبعد أن وصلت العلاقة بين القائد والأمة إلى مرحلة خطيرة، فظهر القاسطون والناكثون والمارقون، وكلها حركات انقلابية أرادت عودة الأمور إلى ما كانت عليه إبان النظام السابق، فطرح الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة ذلك مبدأً من مبادئ العمل السياسي يستفيد منه القائد عندما تنقلب عليه الأمة، فقال: أَما والذي فلقَ الحبةَ، وبرأَ النسَمَةَ، لولا حضورُ الحاضر، وقيامُ الحُجّةِ بِوجودِ الناصرِ، وما أَخذَ اللهُ على العلماءِ أَلا يُقَارّوا على كِظَّةِ ظالم، ولا سَغَبِ مَظلوم، لأَلقَيْتُ حبلها على غاربِها، ولسقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَولها!
فأمضى الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ما تبقى من فترة خلافته، وهو يكافح قوى الرجعية التي وقفت لتعكس مجرى التاريخ، وتغرس بذوراً خبيثة في تربة المجتمع، إلى أن استشهد على يد نبتة (التكفير) التي هي إلى اليوم تمارس القتل بمحبي صاحب الغدير، الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بل البشرية جمعاء.
اضف تعليق