بعد مرور يوم واحد على ذكرى ولادة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام.. بعد كل ذلك الحماس لإحياء المناسبة، والسعادة الغامرة التي عاشها محبوه، ماذا ينبغي لنا أن نفعل؟ هل ينتهي مفعولها وتأثيرها بعد مرور ساعات؟ والأهم من ذلك، هل عرفنا فلسفة إحياء هذه المناسبة؟
في المدن المقدسة.. مثل كربلاء، عادة ما تكون الأجواء المرافقة للمناسبات الدينية مختلفة عن غيرها من المدن.. تختلف كثيراً عن أجواء العاصمة بغداد مثلا.
في كربلاء يضج الجميع بذكر اسم علي منذ ساعات الصباح الأولى، حيث يبدأ أهالي المدينة بتبادل التهاني جزء من إحياء المناسبة: "كل عام وانت بخير، الثبات على الولاية.. كل عام وأنتم إلى نهج علي عليه السلام أقرب".. هكذا يهنئ بعضهم البعض الآخر.
جزء من هذا الإحياء ينصب في توزيع قطع الحلوى على المارة في الشوارع.. في الأزقة.. الأطفال في مدارسهم قد يتعرفون للمرة الأولى عبر قطع الحلوى هذه على "علي" الرجل الذي طالما سمعوا آبائهم وأمهاتهم وهم يلهجون بذكر اسمه كل ما هموا بأمر ما أو واجهوا خطراً.
كم قطعة حلوى إذاً ستهدي لأطفالنا معرفة قيمة أن يعيش رجل مثل علي بن أبي طالب كعيشة أبائهم الفقراء؟، كم امرأة ستستحضر، وهي تنافس الأخريات على تقديم أشهى الأطباق في مجالس النساء للاحتفاء بمولد الفارس النبيل علي بن أبي طالب، مقولة زوجته فاطمة الزهراء وهي تخاطبه: " يا ابا الحسن، اني لأستحي من الهي أن أكلف نفسك ما لا تقدر عليه".
هل كل ذلك في قطع الحلوى الصغيرة؟.. نعم كل ذلك وأكثر، بل إن فلسفة الاحتفاء بهذه المناسبات التي فرضت بتقدير إلهي تقتضي أن تكون حيّة ومتفاعلة بهذه الطريقة وإلا كانت مجرد طقوس لا أكثر.
حالة الوعي، أو الصفاء الروحي التي نعيشه ونحن نحيي ذكرى ولادة علي بن أبي طالب عليه السلام، والصحوة التي ترافقها طيلة انشغالنا برسم ابتسامات عريضة ونحن نبارك الأهل والأحبة والجيران، تنعكس بشكل مباشر على الناس في الشوارع.. التجمعات.. الأزقة.. الأسواق، كلهم يقولون: "لا تضجر لا تعكر صفو سعادتك.. اليوم مولد أمير المؤمنين وليس من المناسب أبداً أن تظهر على وجهك علامات الاستياء".
الأمر أكبر من استذكار حدث الولادة إذاً، ويتطلب المحافظة بكل ما نملك من قدرة على ما يحمله لنا هذا اليوم من تآلف وتراحم فيما بيننا، ألسنا نبحث عما يقربنا من بعض وينهي عزلتنا عن الآخرين؟ ألم نقترح العشرات من الأفكار والمشاريع لإقرار "تسويات" و "مصالحات"؟!!.. لماذا لا ننطلق من هذه المناسبات إذاً؟.
لكن، هل الأمر بالسهولة التي نصورها الآن عبر هذه الكلمات؟ بالتأكيد نعم، فلو تأمل كل واحد منا التغيير الذي يطرأ عليه وهو يمارس أي نشاط مرتبط بهذه المناسبة الميمونة أو غيرها من المناسبات الأخرى، لاكتشف متعة لا نظير لها وهو يتجاوز -بفضل تلك الأجواء- أخطاء جاره الذي طالما انشغل بإحصاء المزيد منها.. متعة تفوق بكثير نشوة الانتصار على الجار بعد مشادات كلامية متكررة على مدار الأسبوع!.
المناسبة تستدعي كل القصص التي مر بها علي بن أبي طالب، عليه السلام، خلال حياته.. تضعنا أما تحدٍ كبير، فنحن الذين نقول دائما إننا نحب علي وكل ما يرتبط بهذا الاسم، هل جئنا ولو لمرة واحدة بما يثبت ذلك الحب عملياً؟!.
إن مجرد إجراء جولة مع النفس للبحث عن علامة لذلك الحب يشعرنا بالرعب، ولماذا نبحث والحب يرتبط بكم ولائنا الذي نحتفظ به لعلي المفروض إلهياً، وإذا كان الأمر يتطلب بحثاً عن موقف لإثبات هذا الحب والولاء فبأي درجة سنكون من حب سلمان وأبي ذر وغيرهم من الذين عرفوا عبر التاريخ بحبهم لعلي وأثبتوا ذلك بمواقف حساسة ومصيرية كلفتهم الكثير لأنهم كانوا يمثلون خلق علي الحاضر في تعاملاتهم مع الآخرين.
مع الآخرين.. مع الزوجة.. مع الزوج.. وسط التجمعات العائلية الكبيرة.. في الشوارع.. في الأحياء.. في الدوائر الحكومية.. في مؤسسات الدولة، ينبغي أن يكون علي عليه السلام حاضراً في كل مبادرة.. مع كل كلمة ننطق بها، وفي كل موقف نصر عليه، وبقدر معرفتنا به وبتاريخه وبتفاصيل حياته يكون الانسجام أكثر وأكثر مع المجتمع، والتفاعل يكون أكبر مع التحديات الكبيرة التي نمر بها، لأن حياة علي عليه السلام ملهمة وتمنحنا الثبات الذي فقدناه كأمة منذ عقود.
هذه دعوة بعد يوم واحد من إحياء المناسبة، لأن يكون سائق "التكسي" أكثر هدوءاً واحتواءً واحتراماً للآخرين، وأن تكون الممرضة في المستشفى أكثر حرصاً وعطفاً على مراضاها، وللعامل أن يكون أكثر دقة والتزاماً من غيره في أداء عمله، وللسياسي أن يكون أكثر حكمة ومسؤولية في اتخاذ القرارات الحاسمة.
ختاماَ، بعد يوم واحد من ذكرى ولادة علي.. لا تتركوا مفعول قطع الحلوى الساحر ينتهي بسرعة!
اضف تعليق