مع استمرار العمليات العسكرية لـ(تحرير) الموصل من سيطرة تنظيم داعش الارهابي، ازدادت معاناة المدنيين العراقيين في هذه المدينة التي يبلغ عدد سكان أكثر من 1.8 مليون نسمة، عاشوا ومنذ احتلال المدينة في يونيو/حزيران 2014، تحت سيطرة المتشددين واحكامهم القاسية، كـ(قطع رؤوس، والتعذيب ومُنع التدخين، وأُجبرت النساء على ارتداء زي يغطي كامل أجسامهن في الأماكن العامة. كما شكا سكان المدينة من ظلم ومراقبة التنظيم لهم، وإجبارهم على دفع الضرائب ومصادرة الأملاك، يضاف الى ذلك استخدامهم كدروع بشرية في هذه المعركة)، حيث أكدت بعض التقارير ان سكان المدينة يعانون اليوم من أزمة كبيرة اثرت سلبا على حياة الكثير منهم، ونقلت بعض المصادر شهادات بعض العراقيين الذين فضلوا مواجهة صعوبات العيش في الموصل المدمرة بدل التواجد في مخيمات اللاجئين وفقدان منازلهم للأبد، بعد أن جردهم التنظيم من أموالهم وسياراتهم ومجوهراتهم بالقوة وإلا فسيحكم عليهم بالخيانة.
ويرى بعض الخبراء ان الإجراءات التعسفية والملاحقات المستمرة التي كان يمارسها التنظيم خلقت حالة من الارتباك النفسي داخل الشخصية الموصلية، خصوصا وان التنظيم تفنن بطرق التضييق على الناس ومحاسبتهم، حيث شكلت هذه الظواهر عقداً نفسية عند الكثير من السكان، بالإضافة إلى أزمات نفسية أخرى قد يعاني منها البعض لسنوات طويلة. كما أكدت منظمة العفو الدولية في تقرير لها أن الأطفال الذين حوصروا في معركة الموصل يعانون من "إصابات مرعبة" و"رأوا أشياء لا ينبغي لأحد أن يراها".
وأشارت المنظمة في تقريرها، إلى أن "الأطفال الذي حوصروا في مرمى نيران معركة الموصل الوحشية رأوا أشياء لا ينبغي لأحد، مهما كان عمره، أن يراها أبدا". وأضافت المنظمة أن "بنات لم تتجاوز أعمارهن 11 سنة لم يسلمن من الاغتصاب، بينما أكره الصبيان على الالتحاق بالتدريب العسكري، ولُقنوا كيف يقطعون رؤوس البشر، وأجبروا على مشاهدة أشخاص يعدمون أمام أعينهم".
وقالت دوناتيلا روفيرا، كبيرة المستشارين لمواجهة الأزمات في منظمة العفو الدولية، "لقد شاهدت أطفالا لم تلحق بهم إصابات مرعبة فحسب، وإنما رأوا رؤوس أقربائهم وجيرانهم تقطع بسبب انفجار قذائف الهاون، أو يتحولون إلى أشلاء نتيجة انفجار السيارات المفخخة أو الألغام، أو يسحقون تحت ركام المنازل". وأشارت روفيرا إلى ضرورة أن يعطي المجتمع الدولي الأولوية لحماية الأطفال، بما في ذلك توفير الدعم الصحي النفسي الشامل لمن تعرضوا للعنف المفرط، كجزء من المواجهة الإنسانية للأزمة في العراق.
اضطرابات الصدمة
وفي هذا الشأن وأثناء فرارها من حكم تنظيم داعش في شمال العراق قبل ثلاثة أشهر شاهدت ليلى اثنتان من بناتها تموتان أمام عينيها. أقعدها الحزن وصدمة تلك الليلة الأليمة وهي الآن تجد صعوبة كبيرة في السير على قدميها وتكاد لا تأكل شيئا. وانفجر لغم أرضي في البنتين لدى فرار الأسرة تحت ستار الليل بعد أن قضت أكثر من عامين تحت حكم تنظيم داعش في بلدة الشرقاط جنوبي الموصل. وتوفيت الابنة الصغرى على الفور وغطت الدماء جسدها.
وفقدت ابنتها ذات الستة عشر عاما ساقها وغابت عن الوعي. وربطت ليلى ساق ابنتها بغطاء رأسها وحملتها على ظهرها بضعة كيلومترات إلى خط الجبهة للجيش العراقي. وقالت في وقت سابق هذا الشهر في مخيم قريب للنازحين حيث تعاني الآن الاكتئاب وأعراض الاضطرابات النفسية بعد الصدمة "كدت أسمع صوت روحها وهي تغادر الجسد. كان رأسها على كتفي." وتدور معركة استعادة الموصل آخر مدينة كبيرة يسيطر عليها التنظيم في العراق وسط سكان المدينة البالغ عددهم نحو 1.5 مليون نسمة الذين أمضوا عامين ونصف العام تحت الحكم القمعي للجماعة المتشددة.
واستخدم المتشددون العنف المفرط في تطبيق تفسيرهم المتشدد للشريعة الإسلامية في الأراضي التي سيطروا عليها في 2014 فجلدوا المدخن وقطعوا يد السارق ورجموا الزانية وألقوا الرجال المثليين جنسيا من فوق المباني. وقتل بضعة آلاف من المدنيين أو أصيبوا بجروح في حرب الشوارع منذ أن بدأ هجوم تدعمه الولايات المتحدة لاستعادة المدينة في أكتوبر تشرين الأول. وتقول منظمات الإغاثة إن المخيمات المجاورة مكدسة بالمدنيين النازحين من الموصل والمناطق المحيطة بها والكثيرون منهم يعانون الاكتئاب واضطرابات القلق.
وقالت ليلى "أشعر بالضياع وحياتي لم يعد لها معنى .. إذا سٌرقت سيارتك يمكنك شراء أخرى. إذا دمر بيتك يمكنك بناء غيره لكن الحياة لا يمكن تعويضها." وتتلقى ليلى علاجا نفسيا وتحضر جلسات أسبوعية تديرها منظمة أطباء بلا حدود لكنها تقول إنه لا شيء يمكن أن يخفف عنها محنتها.. "العلاج لا يشفي القلب العليل." وفي خيمة مجاورة في دباجة تجلس امرأة أخرى أم لثلاثة أطفال من قرية أخرى في جنوب الموصل. وتبدو أكبر بكثير من سنوات عمرها العشرين وتتحدث في ضجر ونادرا ما تنظر في عيني محدثها. كانت آلام المخاض قد فاجأتها أثناء هروبها في الخريف الماضي فولدت توأمين. ورفض الزوجان الخوض في تفاصيل الولادة لكن حالة الأم شُخصت منذ ذلك الحين بالاكتئاب واضطرابات كرب ما بعد الصدمة. وقال أحد المعالجين إنها ضربت زوجها وحاولت قتل أحد أطفالها. كما أن لديها ميولا انتحارية وترفض العلاج.
وقال زوجها "هي تتحدث معك بشكل طبيعي الآن لكنها في بعض الأحيان تحاول خنق الطفل وتقول لي .. لا أريده خذه..".. وكان هروبهما مجرد حلقة في سلسلة أحداث مأساوية عانتها أسرتهما في السنوات القليلة الماضية وكثيرون غيرهما. ولم يكونا قد غادرا القرية بعد عندما اقتحم مقاتلو تنظيم داعش منزلهما واتهموا الزوج بالتحريض على العصيان. والزوج رجل شرطة سابق عمل مع القوات الأمريكية بعد الغزو في 2003.
وأطلق المقاتلون رصاصات في الهواء حوله ثم صوبوا فوهة رشاش إلى رأسه وقادوه إلى المسجد حيث ضربوه. وفي مرة أخرى دمرت غارة جوية منزل أحد الجيران. فكان كلبهما ينقب بين الأنقاض ويعود بأشلاء بشرية. وقالت المرأة "كانت أشلاء متروكة هناك يد أو ساق.. الكلب كان يحضرها إلى عتبة بابنا ويمضغها أمام أطفالنا." وتفاقمت الأمراض العقلية التي أصابت النازحين داخل البلاد بسبب ضعف القدرة على الوصول إلى العلاج في ظل حكم التنظيم المتشدد فضلا عن صدمة النزوح.
والذين بقوا في الموصل فرصهم أقل في الحصول على علاج مقارنة بالمصابين بأمراض بدنية والجرحى. وقال أحد سكان حي المحاربين إن أمه دخلت في غيبوبة قبل أكثر من شهر عندما اقتحم مقاتلو التنظيم منزلهم. وقال إنه حاول دون جدوى العثور على سيارة إسعاف لنقلها إلى أربيل عاصمة منطقة كردستان المتمتعة بحكم ذاتي والتي تضم مستشفيات يعالج فيها جرحى الموصل من المدنيين الذين يتمكنون من الوصول إليها. بحسب رويترز.
وقال أحد السكان المحليين إن ابنته ذات الخمس سنوات التي تعاني تشوها في المخ بعد ولادة مبتسرة لم تتمكن من الحصول على العلاج منذ أكثر من عامين. وهي لا تكاد تنطق. وقال بلال بودير مدير الصحة العقلية بمنظمة أطباء بلا حدود "معدل الانتكاس مرتفع جدا ... لأن النازحين يتلقون أنباء وروايات مؤلمة يوميا." وأضاف قائلا "نحن نعالجهم وندعمهم لكن الأخبار السيئة لها تأثير سلبي وتحدث انتكاسة لدى بعض المرضى ويعودون إلى الصفر."
خوف مستمر
في السياق ذاته اقتحم جنود عراقيون بوابة منزل في شرق الموصل وخرجوا بعد لحظات مع شابين تقيد أياديهما بأربطة بلاستيكية ويساقان إلى سيارة همفي سوداء. ونفى الشابان اللذان يشتبه في أن واحدا منهما على الأقل ينتمي لتنظيم داعش أي صلة لهما بالتنظيم المتشدد الذي طُرد مقاتلوه من الحي قبل بضعة أيام. كان يبدو عليهما الخوف الشديد وهما راكعان على الأرض.
وتجمع الجيران أغلبهم يحدق فيما يحدث ولا يقول أحد شيئا. أكد واحد من الجيران الاتهامات ووصف آخر أحد أشقاء واحد من الشابين بأنه "كلب ابن كلب". واقتاد الجنود المشتبه فيهما إلى السيارة ومضوا بهما. وقبل لحظات وعلى مسافة بضع مبان فقط ناشد أرمل في منتصف العمر بوجه متغضن قائد الجنود أن ينتقم له من تنظيم داعش الذي يقول إنه قتل شقيقه وزوجته وابنه.
صاح ملوحا بأمر إعدام أصدره التنظيم "أنقذونا منهم أنقذونا من هؤلاء الكفار." ووقف الضابط ذو الملابس السوداء يستمع بهدوء قبل أن يحتضن الرجل الذي بدأ في النحيب على كتفه. وتتكرر مثل هذه المشاهد في المناطق التي تتزايد أعدادها في شرق الموصل حيث تدفع القوات العراقية تنظيم داعش للتقهقر في إطار هجوم مستمر منذ ثلاثة أشهر تدعمه الولايات المتحدة ويهدف لاستعادة أكبر مدينة يسيطر عليها التنظيم.
وبالنسبة للمواطن العادي تمتزج مشاعر متباينة مع تقدم القوات الذي اكتسب قوة دفع منذ بداية العام الجديد. فهناك دائما الشعور الأولى بالارتياح مع ابتعاد الاشتباكات عن باب منزله وهناك أيضا الشعور بالامتنان للقوات العراقية التي يحتفي السكان بأفرادها بتقديم أكواب الشاي المحلى بالسكر وبالقبلات.
لكن عادة ما تتدفق كذلك بشكل عفوي مشاعر الصدمة المتراكمة على مدة عامين ونصف العام من حكم المتشددين القمعي فيتذكر السكان القتل الوحشي لأحباء ونهب المنازل وتدميرها وقتل الأحلام. البعض لا يخشى من نشر مظالمه أو الإشارة إلى المعتدين عليه لكن البعض الآخر أكثر توخيا للحرص إذ يخشى من أنصار تنظيم داعش الطلقاء الذين يراقبون. وقُتل مئات وربما ألوف من المقاتلين المتشددين في معركة الموصل لكن السكان والمسؤولين الأمنيين يخشون من أن يكون بعضهم قد حلقوا ذقونهم وامتزجوا بالسكان المدنيين.
ورد جار كبير في السن على سؤال عن الشابين اللذين اعتقلا من منزلهما بأنه لا يعرف وعاد مسرعا إلى منزله. وكثيرا ما يتوقف قادة جهاز مكافحة الإرهاب الذي قاد التقدم في شرق الموصل خلال زيارات للمناطق التي انتزعت السيطرة عليها من التنظيم المتشدد للحديث مع السكان والذين يعرفهم الكثيرون منهم بالاسم. ويقول الجيش إنه عادة ما يعتمد على بلاغات من السكان لتحديد المتسللين من تنظيم داعش. وأحد مواقع قيادة الجيش به خط هاتفي ساخن للمعلومات الأمنية كتب رقمه على جداره الخارجي. بحسب رويترز.
وينقل المدنيون مخاوفهم إلى الجيش الذي يعتبرونه بمثابة مأمور شرطة المنطقة رغم أن تركيز أفراد الجيش يظل منصبا على المعركة. وطلبات السكان عادة ما تكون مادية. فسيارة شاب علقت في الطين يطلب من الجيش جرها له. وسيارة آخر مصفوفة قرب جبهة القتال ويريد استعادتها فيطلب ذلك من الجيش. وقال رجل كبير في السن "أرجوكم اخبروا أحدهم أننا بحاجة لمن يصلح ماسورة مياه على رأس الشارع لتعود المياه إلى منازلنا."
ملجأ في آخر الشارع
على صعيد متصل فضل محمد، المسنّ الذي فرّ من المعارك في غرب الموصل البقاء داخل مدينته، فلجأ إلى منزل مهجور في حي استعادته القوات العراقية من تنظيم داعش، لانه يعتبر ان مخيمات اللاجئين "مثل السجون". وقال محمد الذي اسودت اسنانه من كثرة تدخين السجائر. واضاف "لا اعرف شيئا عن هذا المنزل. ذهب اصحابه الى بغداد، هم ايضا تهجروا. سكان الحي قالوا لي انه في امكاني السكن في المنزل فقررت البقاء".
ويرفض محمد رفضا باتا الانتقال الى مخيم لاجئين ويقول "انه مثل السجن لا يسمحون لك بالخروج". وتفقد محمد بسرعة منزله الجديد المكون من ثلاث غرف وفيه سجادة معلقة على الحائط وطقم كامل للشاي. وقال محمد الذي يقيم في المنزل مع احدى زوجتيه واحد ابنائه وزوجته الحامل "هناك مولد كهرباء لكن المياه مقطوعة".
كما حل ابو احمد مع زوجته واولاده الثلاثة ضيفا لدى اصدقاء "عهدوا" اليه بمنزلهم. لكن ابا احمد قلق خصوصا على ابنه احمد البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف. ويقول ابو احمد بحزن "هناك قنابل وغارات جوية. بات يعرف اليوم لغة الحرب. لا يفترض ان يتعلم طفل هذه اللغة". وتحمل المنازل في حي الانتصار آثارا محدودة للمعارك. ويقول الكولونيل جون دوريان المتحدث باسم التحالف الدولي المناهض للجهاديين الذي يساند القوات العراقية ان ذلك يدل على ان التحالف يقوم "بعمل ممتاز" لحماية المدنيين.
وهذا دليل ايضا على الصعوبة الكبرى في التقدم في مدينة لا يزال عدد كبير من المدنيين يقيمون فيها. خصوصا وانه بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش التي تعنى الدفاع عن حقوق الانسان، استخدم الجهاديون لدى انسحابهم الى الاحياء الغربية المدنيين "دروعا بشرية". لكن امام مشاعر الخوف من المعارك، تعاطف السكان مع جيرانهم حتى ان أم دنيا تعاطفت مع غرباء. فقد استقبلت ام دنيا التي انجبت سبع بنات، في منزلها خمس اسر فرت من المعارك شرق حي الانتصار. وقالت "الحمد لله استقبلتهم في منزلي ولم اكن اعرفهم". وهذا التعايش المفاجىء استمر 10 الى 22 يوما. بحسب فرانس برس.
ولازمت ام دنيا وبناتها والاسر المؤلفة من 20 شخصا المنزل الى ان انسحب الجهاديون واستعادت القوات العراقية السيطرة على الحي. وقالت ام دنيا "طرق الجهاديون بابي لانهم كانوا يصرون على الانتشار بين المدنيين الى ان ملوا". واضافت "كنا نحتفظ بمياه الاغتسال في حوض. هكذا لم تكن المياه تخرج الى الشارع والا لادرك (الجهاديون) ان هناك اشخاصا في المنزل".
اضف تعليق