الأمن مفردة أو مفهوم شامل، تحتاجه الدول والشعوب والجماعات والأفراد، في جميع مجالات الحياة، فهناك أمن عسكري، وآخر غذائي، وثالث اقتصادي، ورابع فكري، وسوى ذلك مما يحتاجه الانسان لكي يحمي نفسه من الفناء، ولدينا أيضا (الأمن الثقافي)، وهو يمثل أحد أهم احتياجات الانسان التي تضمن له نوعا من الاستقرار والسلم الأهلي، حتى لا يتهدد وجوده بالزوال والفناء الكلي، وحتى يتحقق شرط استمرارية الحياة في مجالات آمنة.
الأمن الثقافي له علاقة مباشرة بالثقافة السائدة في المجتمع، وهي تتكون من مجموعة القيم والأعراف والنواميس المتَّفق عليها بين الأفراد والجماعات، كي ينتظم وفق لها النشاط المجتمعي برمته، ولعل أخطر الظواهر التي قد تصيب ثقافة المجتمع، هي ظاهرة التطرف، وهذه بدورها تتضاعف مخاطرها كلما كانت هناك رغبة جمعية في تعميقها ونشرها، وهنا يلعب الاعلام دوره، سلبا أو إيجابا، فضلا عن دور القادة السياسيين وقادة النخب عموما، لاسيما قادة الثقافة، فهؤلاء هم أول المسؤولين عن الشوائب التي تعلق بالثقافة.
وقد تكون مفردة شوائب، ذات مفعول بسيط قياسا للنتائج التي تظهر بسبب الأمراض التي تلتصق بالثقافة، ومنها مرض أو ظاهرة التطرف، ترى كيف تتم صناعة ثقافة التطرف، ومن هم المثقفون الذين يقفون وراء صناعة هذه الثقافة، وما هي الادوار التي يتم رسمها لهم، وأخيرا الى ماذا يهدف المثقفون المتطرفون ومن يقف وراؤهم؟؟.
إجابات مهمة ينبغي أن نبحث فيها وعنها، تستدعي نوعا من العمق والدقة في استغوار البواطن الخفية في ثقافة التطرف، ومن يصنعها، وما هي أدواتها، ثم كيف يمكن لنا وأعني (المثقفين والمصلحين والعلماء والمفكرين والفلاسفة وكل من ينتمي الى عالم الأفكار)، كيف لنا أن نصنع أمنا ثقافيا يقينا شرور التطرف، خاصة أننا (وأعني العراق)، نعيش في عالم يغص بهذا النوع من الثقافات، ونشترك اقليميا مع مجموعة من المجتمعات والدول تعاني هي ايضا من ثقافة التطرف التي تتسبب لها في مشكلات كبيرة تعيق تقدمها وتطورها.
إذاً نحن نتفق مبدئيا على أننا نحتاج (بما لا يقبل التهاون او التردد)، الى أمن ثقافي، يبني بيننا وبين ظاهرة التطرف، أسوارا شاهقة، تكون قادرة على عزل التطرف والمتطرفين بعيدا عن المجتمع العراقي، حتى يتسنى له التفرغ على نحو كلي، لبناء دولة مدنية متحضرة، تقوم على ثقافة التعايش وتنبذ التطرف، وتُسهم في خلق أجواء محلية اقليمية دولية تساعد على نشر ثقافة يمكن أن نطلق عليها تسمية او مفهوم (ثقافة التعايش العالمي)، وهو هدف وإن كان يدخل في باب (المستحيل)، لكن إرادة البشرية على مر التاريخ أثبتت أنها وجدت حلولا لمشكلات أكثر صعوبة من التطرف، ولكن كانت هنالك عقول وإرادات مختلفة صنعت تلك الأهداف العظيمة.
من أسباب ثقافة التطرف
لكي تعالج ظاهرة ما، يُنصَح بالبحث عن أسبابها ومعرفتها، وتحديدها على نحو دقيق، ومن ثم الشروع بوضع المعالجات المناسبة لها ، ويرى محللون أن من أهم أسباب التطرف، هو سوء التعامل السياسي مع الشعب بمكوناته كافة، وغياب العدل الاجتماعي، وقمع الحريات، وتهميش الطبقة الوسطى، ومضاعفة الجهل، وتحقيق زيادة في نسب الفقر بدلا من الرفاهية.
تشترك مع الحكومة أخطاء النخب الاخرى، متمثلة بالاهمال المقصود أو سواه، للتقاعس عن القيام بدور التثقيف الانساني الذي يساوي بين شخص وآخر، ولا يفرق بينهما على أساس الانتماء المختلف، وهناك ايضا محاولات مدروسة تقوم بوضعها والتخطيط لها جهات تستفيد من زيادة الاحتقان بين مكونات المجتمع الواحد، فمثل هذه الأعمال التي تأتي على شكل فتن واثارة أحقاد، تخطط لها دوائر مخابراتية، وتشترك فيها دول اقليمية وربما بعضها دول كبرى، كل هذا من اجل تأجيج التطرف ونبش الاختلافات، واشعال المواجهات بين مكونات الشعب، حتى يتسنى لتلك الدول والدوائر العاملة تحت أمرتها السيطرة على الدولة والتلاعب بصناعة القرار، والهدف الأساس كما تعلمنا من التجارب، هو سلب خيرات البلاد.
المثال هنا هو العراق، حيث لا يوجد درع ثقافي يحتمي به ضد التطرف، مع أن المصلحين والعلماء وكثيرا من ذوي الشأن يؤدون دورهم التوجيهي على أفضل وجه، ولكن هناك حروب يتم خوضها ضد هؤلاء أيضا، فتتم مواجهتهم بالملاحقة والتعذيب والاعتقال والاعدامات كما حصل في ظل الأنظمة الدكتاتورية، فقد قُتل رجال دين وخطباء وعلماء ومثقفون ورجال فكر، كونهم أعلنوا القطيعة مع الحكومة وبذلوا جهودا لتنوير الشعب ضد التطرف، وكشفوا الجهات التي تقف وراءه، وفضحوا المخططات التي تبث الاحقاد بين الشعب، فتنبّهت الجماهير الى مثل هذه المخططات، ولكن قسوة الانظمة السياسية التي حكمت العراقيين ومعظم الدول العربية، رجحت كفة الظلم والشر على الحق والخير والعدالة.
فتم اعدام رجالات الفكر المعتدل، وعلماء الدين، والساسة المعارضين، لمجرد أنهم قاموا بالدور المنبّه للشعب لنبذ ثقافة التطرف، واشاعة روح الاعتدال، ولكن في الحقيقة لم تتمكن الحكومات من البقاء في عروشها، ولم تقف الجماهير مكتوفة الأيدي، ولم يكف أهل العلم والخير عن مواصلة دورهم في مكافحة التطرف، وهناك محطات مضيئة في تأريخ العراق والمسلمين، تؤكد أن الكفاح ضد ثقافة التطرف، والسعي المتواصل لتحقيق الأمن الثقافي لا يزال مستمرا بوتيرة، قد تتعثر أحيانا، ولكنها لم تتوقف أو تنطفئ او تكف عن السعي الى أهدافها.
كيف نكافح هذه الآفة الفتاكة؟
هل التطرف آفة فتاكة فعلا؟ الجواب نعم، إنها آفة (فكرية سلبية ) تنعكس في سلوك الناس، فتثير بينهم الفتن والضغائن، ويتم عبرها اشعال حالات الاحتراب، والانشغال بالتقاتل بين مكونات وافراد الشعب الواحد، فيما يخلو للطامعين الطريق نحو اهدافهم في سلب ونهب خيرات الفقراء العراقيين كما حدث في حكومات ملكية وجمهورية عسكرية دكتاتورية سابقا، وكما حدث في ظل حكومات (الديمقراطية) بعد نيسان 2003، حيث أساءت هذه الحكومات او بعض افراد الطبقة السياسية للشعب العراقي من خلال التجاوز على حقوقه عبر الفساد، وكانت ارتبط الفساد بالخرج ايضا (دول اقليمية وكبرى لها أذرع في الداخل)، قام هؤلاء بدورهم في تنمية ثقافة التطرف، فشغلت الشعب بالفتن وانقضّت على الكعكة العراقية ولم يكتفوا حتى هذه اللحظة ولم يكفّوا عن أطماعهم.
هل هناك مثقفون متطرفون؟ نعم يوجد أشخاص وجماعات ينتمون الى التطرف، وهم صاروا ادوات لنشر التطرف، ربما من دون أن يقصدوا أو يعلموا بذلك، أي أخذتهم موجة التطرف الثقافي معها والى اهدافها، من دون أن يعرف او يقصد هؤلاء المثقفون اثارة التطرف، ولكن هناك من يعلم بأنه يقوم بهذا الدور ويتقاضى عليه أجرا!!.
كيف نحارب ثقافة التطرف، ونحقق الأمن الثقافي حتى يكون العراق والمجتمع برمته في منأى عن هذا النوع الخطير من الثقافة التي تتحول الى أفكار هدّامة، ومن ثم الى سلوك مدمّر لا يبقي ولا يذر، هناك خطوات عملية ومقترحات في هذا المجال، من الأفضل لصناع القرار، والعاملين في مجال الثقافة العراقية أن يقوموا بهذه الخطوات ومنها:
- وضع خطط ثقافية فكرية من خبراء مختصون لمكافحة التطرف.
- تنبيه المثقفين ممن لا يقصد نشر ثقافة التطرف، وأهمية النأي بنفسه عن هذا الدور.
- نشر ثقافة الاعتدال بي مكونات المجتمع.
- السعي لنشر محفزات السلم الأمني.
- اقامة الندوات الجماهيرية الواسعة لنبذ التطرف.
- اقامة ندوات للمنظمات الثقافية حول خطورة هذا النوع من الثقافة على المجتمع.
- نشر مفهوم (الأمن الثقافي) بين الجماهير على نحو دائم ومستمر.
- قيام الاعلام بوسائله وانواعه كافة بحملات دورية تقوم بنشر مفهوم (الأمن الثقافي).
- شرح أهمية الثقافة المعتدلة في نشر الاستقرار بين مكونات الشعب ومن ثم التفرغ للانتاج والانجاز والابداع بأنواعه.
- وأخيرا حث القطاع المدني على تطوير الثقافة، والمساهمة في دعم المنظمات الأهلية، على أن يكون الهدف الأول لها هو تحقيق (الأمن الثقافي) للمجتمع والدولة.
اضف تعليق