يبدو ان وتيرة الاعمال الاجرامية لداعش في تصاعد مستمر فبات التفجير بالسيارات المفخخة غير مجد لهذه الجماعة الاجرامية والتي اعتمدت منذ نشأتها على الافراط في القتل من اجل تثبيت اركان دولتها المزعومة ، وبين الحين والاخر تبتكر اسلوبا جديدا كان اخرها قصفت التركمان الشيعة في ناحية تازة خورماتو في كركوك بغازات الخردل ما ادى الى اصابة المئات من المدنيين واستشهاد الطفلة "فاطمة يمسن ويس"، من ابناء الناحية فيما لا تزال بعض الاصابات تتلقى العلاج في مستشفيات كركوك ونقل بعضها الاخر الى بغداد.
هذه ليست المرة الاولى التي يتعرض لها التركمان الى اعتداء ارهابي فقد تعرضت مدنهم الى عشرات الاعتداءات الارهابية في مدينة تلعفر وطوزخورماتو وامرلي وغيرها من مدن التركمان المتناثر في شمال العراق ، ويبدو ان التركمان اصبحوا اكثر الخاسرين من الازمات المتلاحقة في العراق ؛ فاغلب مدنهم تقع ضمن المناطق المتنازع عليها بين المتخاصمين السياسيين الكبار وباتت تتلاعب بيهم رياح التوافقات السياسية جنوبا وشمالا وتعرضوا للتطهير العرقي في تلعفر وقصبة البشير وغيرها .
ويرى بعض المتابعين للشان العراقي ان ضرب داعش للتركمان بالغازات السامة يعد جزء من مخطط اقليمي يتضمن السماح لداعش باستخدام ترسانتها الاجرامية ضد المدنيين هناك بهدف افراغ تلك المناطق من سكانها ، لا سيما بعد ان كثر الحديث في الاونة الاخيرة عن المشاريع التقسيمية للعراق من خلال اقامة اقليم سني مقابل دولة للاكراد وبالتالي فان بقاء التركمان في مناطقهم الاستراتيجية يمثل عقبة كبيرة امام تنفيذ الاجندات التقسيمية ، وما يؤشر على صحة هذا الرأي تأخر تحرير المناطق التركمانية رغم التحشيدات العسكرية الكبيرة الى الحد الذي جعل قيادة فرقة العباس القتالية الى التهديد بتحرير التركمان دون الرجوع للحكومة لخضوعها لمنطق المساومات السياسة والتجاذبات الاقليمية.
مشكلة التركمان هي عدم وضوح مسارهم في المجتمع العرقي فتارة يعتبرون انفسهم ثالث قومية بالعراق وهم يطالبون بحقوق قومية كاللغة وما يتبعها من حقوق اخرى وتارة يعتبرون انفسهم طائفة دينية ما يؤدي الى ذوبان هويتهم القومية من خلال انقسامهم الى كتلتين سنية تنحاز للطبقة السياسية السنية وبالتالي ستترتب عليهم الحقوق والواجبات الخاصة بهذا المكون. او كتلة شيعية تذوب في ظل التكتلات الشيعية المتشابكة ، وادت هذه الوقائع الى تشتت جهود التركمان في الدفاع عن حقوقهم تحت وطأة الازمات المتلاحقة وتظهر سلبيات هذا التناقض مع كل انتخابات ففي انتخابات عام 2010 ادت الاختلافات بين ابناء هذا المكون الى ضياع منصب نائب رئيس الجمهورية من جعبتهم .
وبعد الهجمات الاخيرة على ناحية تازة خورماتو التركمانية تساءل الكثيرون عن ساعة الصفر لتحرير تلك المناطق وانطلقت تظاهرات شعبية قطع على اثرها طريق كركوك - بغداد الدولي، احتجاجاً على تجاهل الحكومة المركزية لمطالبهم بتحرير قرية البشير الواقعة تحت سيطرة داعش والتي اطلقت منها القذائف المحملة بالمواد السامة تجاه المدنيين وبالتالي فان تحرير قرية البشير يعني تأمين تازة ، وقد وجدت الحكومة نفسها مضطرة لتخدير المحتجين بتصريحات الضرب باليد الحديدية ضد الارهاب حيث قال رئيس الوزراء حيدر العبادي بان ابطال القوات العراقية سيثارون للتركمان فيما استنكر رئيس البرلمان سليم الجبوري هذه المجزرة داعيا الى تحرير المناطق المتبقية من سيطرة داعش .
هذه التصريحات الحكومية لا تشفي جريحا ولا تحرر ارضا فقضية تحرير الاراضي العراقية المتبقية خاضعة لمنطق المساومات والتوازنات السياسية وخاصة في المناطق التركمانية كونها تقع في تقاطع كبير للمصالح الاقتصادية المتمثلة بالنفط والتقاطعات الطائفية حيث تعتبر الجهات السنية ان تثبيت التركمان في مناطقهم يعني تمدد الاذرع الشيعية في مناطقهم كما يرفض السنة اقتراب الحشد الشعبي الى عمق المناطق السنية بل يدعون الى خروجه من المناطق التي حررها سابقا ، اما الاكراد فهم المحور الاكثر رفضا لدخول قوات الحشد الشعبي الى تلك المناطق لما يمثله من ضرب لمصالحهم التوسعية من خلال بسط نفوذهم على هذه المناطق وفق نظرية رسم الحدود بالدم ما ادى بالفعل الى حدوث تصادم عسكري بين الطرفين كاد ان يؤدي الى منزلق خطير لو تلافي ذلك وتاجيل هذا المعركة الى اجل غير مسمى .
اما دوليا فلا يمكن تحرير المناطق الخاضعة لسيطرة داعش ومن ضمنها مناطق التركمان من دون الوصول الى صيغة توافقية للقوى الفاعلة على الساحة العراقية والمتمثلة بمحور ايران مقابل محور امريكا وحلفائها. وهذا الصراع بين الطرفين غير خاف على احد لكن سيؤثر على سكان المدن الخاضعة لداعش من خلال تاخير تحرير مناطقهم وقد ظهر هذا الصرع جليا في قضية تحرير الرمادي من فالفيتو الامريكي ادى الى عدم دخول الحشد في معركة تحرير المدينة وهو نفس السبب الذي ابقى مدينة الفلوجة بدون تحرير رغم كل دلائل التفوق العسكري ضد داعش فيها .
وزارة الخارجية العراقية يبدو انها مشغولة برسائل التهنئة الشعبية والرسمية لكملة الجعفري الاخيرة في اجتماع الجامعة العربية ودفاعه عن حزب الله اللبناني والحشد الشعبي ، وهي كملة ضرورية لحفظ كرامة المضحين وعدم المساس بهم ، لكن ذلك لا يعني نسيان قضية التركمان في هذه الجلسة لا سيما وانها عقدت قبل يوم من انعقاد اجتماع الجامعة العربية ما يوفر لها زخما اكبر ، هذه الغفلة او التغافل جعلت البعض يشكك بمصداقية الكلمة التي قالها الجعفري بحق ابطال الميدان وحتى ذهب البعض الى التشكيك باستقلالية هذه الكلمة وجعلها في خانة المساومات السياسية على حساب الدفاع عن الابرياء في المحافل الدولية ، فالمجازر بحق هذا المكون العراقي تفرض على الدبلوماسية العراقية العمل بكامل طاقتها من اجل ايصال صوت هذا المكون المنكوب الى العالم .
هذه المؤشرات تؤكد ان فرضية تحرير المناطق التركمانية من سيطرة داعش مستبعدة على المستوى القريب، فالقضة لا علاقة لها بمستوى الاستعدادات العسكرية والتفوق ضد الجماعات الارهابية بل ترتبط بمنطق المساومات والتوافقات السياسية بين الاطراف المحلية والاقليمية والدولية ويبقى الخيار الاخير امام التركمان بالاعتماد على النفس من خلال تجميع كل الوانهم السياسية و انشاء تكتل موحد و الاعتماد على التحشيد الاعلامي والتركيز على ملف انتهاكات حقوق الانسان ضدهم ونشر قضيتهم في المحافل الدولية .
اضف تعليق