في حوار دار بين رجلين استمعت له مصادفة، ورد ذكر التفجيرات الانتحارية التي ضربت العاصمة الفرنسية باريس قبل يومين، وكانت الجملة الأبرز في هذا الحوار بين شخصين دلَّت هيأتهما (الملبس وتصفيف الشعر ولغة الحوار)، على مستوى الوعي البسيط لهما، أن باريس (هي التي فجَّرت نفسها)، ثم أوضح أحد الرجلين، أن الغرب هو من ساعد على صنع الارهاب فعاد إليه وضربه!.
تُرى ما هو مقدار أو نسبة الحقيقة التي تكمن في قول هذا الرجل البسيط؟، وكيف استطاع رجل بهذا الوعي البسيط أن يفلسف العنف وصناعته بهذه الطريقة التي قد تلمس جوهر ما حدث في باريس من تفجيرات، بل تقرأ حقيقة الارهاب الذي صنعه الغرب وأشرف عليه وموّله وخطط له تبعا للأهداف والحسابات الدولية وصراعاتها المستدامة.
ثمة مؤشرات تدل على أن فرنسا انساقت نحو بؤر التطرف، وسال لعابها عندما عقدت صفقات توريد السلاح الفرنسي لبعض دول الخليج لاسيما السعودية بمليارات الدولارات، ولكنها لم تعِ أنها دخلت في حقول ملغومة سوف تنفجر عليها في أية لحظة، وهذا ما حدث بالفعل، فمن مضاعفات تلك الصفقات غير المحسوبة، وصل الارهاب بهذه الكثافة الى عقر دار فرنسا وضرب عاصمتها بعنف، فلأول مرة في التاريخ الأوربي بل في تاريخ العواصم الغربية يتم ضرب عاصمة اوربية بهذا الكم الهائل والمنسَّق من التفجيرات، اذا ما استثنينا احداث ايلول سبتمر 2001 باعتبارها أكثر هولا وضخامة.
إن فرنسا خصوصا، والغرب عموما لم يرع في علاقاته الاقتصادية والسياسية قضية منبع التعصب، ولا المصدر الذي ينتج الارهاب ويقدم له التسهيلات اللازمة، بعد أن يوفر له كل عوامل النشأة والرعاية والترعرع، حتى يقف على قدميه بقوة، فتبدأ موجات العنف بضرب الدول والشعوب الآمنة، خدمة لأهداف اقليمية ودولية يتم التخطيط لها والتنسيق بشأنها مسبقا.
مسلسل تدمير الدول الآمنة
ألم يتم تمزيق سوريا، وهي دولة مستقرة، وشعبها آمن، ثم أليس من الأجدر بمن زرع الارهاب في الارض السورية أن يترك شأن السورين والحكومة السورية لشعبها؟، وهذا بالضبط ما حدث في العراق ايضا عندما تم تصدير آلاف الانتحاريين له، فتم إزهاق آلاف الارواح من الشعب العراقي بسبب الارهاب وحقد الدول والانظمة والدوائر التي تديره وتموله، فضلا عمّا حدث في دول عربية اخرى مثل ليبيا التي لا يزال شعبها يخوض في بحر من الدماء حتى اللحظة.
ولم تتعظ فرنسا ولا اوربا ولا الغرب كله، عندما كانت اصوات التحذير تنطلق نحوهم بقوة بشأن ضرورة محاصرة أدوات الارهاب والعوامل الداعمة له، بل كان الاجدر بفرنسا والدول الغربية الاخرى منع آلاف الاشخاص المتطرفين الذين تكالبوا على ارضي العراق وسوريا وانضموا الى العصابات الاجرامية لداعش، وقتلوا وعاثوا فسادا في الارض والارواح من دون وازع من ضمير، فأين ذهب ضميرهم الانساني بخصوص هذه الظاهرة التي بقيت مستمرة الى الآن من دون ان تحرك الحكومات الغربية ساكنا لمنع مواطنيها المجرمين من الانضمام الى داعش.
وبعد ذلك أطلقوا على هؤلاء المجرمين نصطلح (الذئاب المنفردة) محذرين من عودتهم فردى الى دولهم الأصلية ومن ثم بدء جولة جديدة من العنف في عقر تلك الدول، وهو ما حدث بالضبط، حيث العنف يعود ليضرب الأيدي التي صنعته، وهنا لابد من العودة التي وردت في بداية هذا المقال، لنجد تطابقا بين ما حدث في باريس من عنف وتفجيرات مؤخرا، وبين ما ورد في الجملة المشار إليها في الحوار.
إن باريس وفق هذا الرأي تبدو وكأنها شاركت بالفعل في ضرب نفسها، إنها فعلا أسهمت بموجة التفجيرات التي داهمتها فجأة، وليس ثمة مغالاة في هذا الرأي الذي ورد على لسان رجل بسيط الوعي والمعرفة، فهل عجزت العقول الغربية والفرنسية عن استباق ما حدث؟، بالطبع كلا، إنهم كانوا يعرفون مثل هذه النتائج وربما يتوقعون حدوثها، ولكنهم تعاموا عن مثل هذه التوقعات والاحداث الخطيرة، لأسباب منها (المليارات التي أعمت بصيرتها مقابل توريد السلاح لبعض دول الخليج)، كذلك محاباتها أو رضوخها لأمريكا بخصوص المخططات التي تحفظ مصالحها القومية، والتي تستوجب ترتيب الأوراق الاقليمية من خلال استخدام ورقة (داعش) والارهاب.
كيف تتم مواجهة الإرهاب
يحتاج العالم الى خارطة طريق تفضي به نحو الخلاص من الإرهاب، من يقترح هذه الخريطة، ومن يصممها مع خطوات التنفيذ؟، علما أن هذه المهمة تبدو ذات طابع جماعي من حيث المسؤولية، فالعالم اليوم كله يقع ضمن دائرة الارهاب، وليس الدول والشعوب الفقيرة والمتخلفة كما يُشاع، فمثلما تطول التفجيرات مدن اليمن والصومال وباكستان وسوريا والعراق ودول اخرى أقل تطورا، بات الارهاب يضرب بقوة دولا متقدمة تقف في صدارة قيادة العالم.
كان كثيرون من المعنيين ينصحون الغرب بأهمية مكافحة الفكر المتطرف وعدم مجاملة بؤر التعصب والتكفير وأهله والانظمة التي ترعاه بالخفاء وترفضه في العلن، ولكن لم تكن هذه الدعوات تلقى اذنا صاغية، والسبب هي المصالح الغربية التي لا تتحقق إلا من خلال مخططات هدر دم الفقراء، وسلب ثرواتهم وتدمير دولهم ومدنهم، ولكن بعد أن فجّرت فرنسا نفسها بنفسها، لم يعد الأمر قابلا للتغاضي.
إذ على الغرب وامريكا، والدول الشرقية القوية المساندة للغرب، أن يفكروا منذ اللحظة، بوضع سياساتهم الخاطئة التي تتعلق بمجاملة الأنظمة الراعية للارهاب تحت بند الإلغاء، والشروع بوضع الخطوات العملية والخريطة الفعلية التي تقود الى محاصرة الارهاب والتطرف ومحاصرة الفكر التكفيري في عقر داره وهو معروف للقاصي والداني.
بالاضافة الى حتمية متابعة امتدادات بؤر الارهاب خارج حواضنها، والقيام بمحاصرتها وتجفيفها ووأدها وهي في المهد، ومطلوب سياسة جديدة تماما، تختلف عمّا مضى، بعد أن وقع الفأس في الرأس كما يُقال، ومع ذلك لا تزال هناك فرص سانحة لمواجهة الارهاب ومنابعه والفكر الذي يتغذى منه، ومع ان المسؤولية تقع اولا على من صنع الارهاب وجهّزه بالاستمرارية والتضخم، ونعني بذلك دول الغرب تحديدا، إلا أن العالم كله اليوم مطالب بالتصدي للتطرف والتكفير وأشكال الإرهاب كافة.
وفي الخلاصة، يُقال خذ الحكمة من أفواه (البسطاء)، وهذا ما أوضحته الجملة التي وردت في حوار الرجلين المذكورين في صدر هذا المقال، فقد أسهم الغرب في تمكين الارهاب حتى وصل الى مدنه وأراضيه، والمثال الأقرب هو باريس التي لا يزال الرعب يخيم على سكانها، فضلا عن العواصم والمدن الغربية الأخرى، الأمر الذي يستدعي إعادة حسابات فورية للتعامل مع هذا الخطر الذي يحدق بالعالم أجمع.
اضف تعليق