لعل من الضروري المعرفي والثقافي في ان نعرف كيف يفكر الانسان الغربي في تصوره للإرهاب وتعليله له، باعتبار ان الارهاب لم يولد جزافا وانما تتداخل فيه جملة من الاسباب والمنتجات المعرفية والثقافية والسياسية له، رغم ميل البعض الى حصره في اسباب احادية تنتج تجاه مواقف اخرى تقارب الارهاب في ذهنيته وسلوكه.
وحين نستعين برؤية مثقف غربي فاننا نستطيع من خلال هذه القراءة لرؤية المثقف – المفكر الغربي "جان بودريار " ان نكتشف ميكانزمات العقل الغربي في تحليله وتعليله وقراءته الذاتية للارهاب. واذ نعرض عن الرؤية السياسية للارهاب لانها رؤية عرضية سطحية تدفعها المصالح وتكونها امكانات الربح ولاتمس جوهر هذا العقل الذي بدا متسيدا بقوة في هذا العصر.
كتب بودريار الفيلسوف الفرنسي مقالة في ذهنية الارهاب نشرتها صحيفة اللوموند الفرنسية ولم يشر الاستاذ المترجم بسام حجار الى تاريخ النشر لكنه ذكر في الهامش انها ترجمت الى العربية في ملحق " نوافذ " الذي تصدره جريدة المستقبل بتاريخ 11/ تشرين الثاني / 2001م وقد ضمنها الاستاذ حجار في كتابه "ذهنية الارهاب لماذا يقاتلون بموتهم" وهو ترجمة لمجموعة مقالات كتبها مثقفون ومفكرون اوربيون كبار، ولايخفى أهمية التوثيق هذا في تاريخ المقالة في نشرها وترجمتها لان الافكار لاتلبث ان تتغير وتتطور وقد تستجد اراء في التعبير عن تراكم معرفي امتاز به هذا العقل الغربي.
نعود الى هذه المقالة، يؤشر بودريار او يوثق ما شهده العالم في عصر كتابته المقالة او عصر احداث الحادي عشر من ايلول، ويبدأ بتأثير احداث جسام وفق تسميته هنا، تؤكد الطابع الذي يسم هذا العقل بامتياز من خلال توصيفه موت الاميرة ديانا ومباريات كأس العالم في كرة القدم الى احداث عنيفة وحروب الى حروب إبادة جماعية، توصيفه لها بانها احداث جسام وعالمية، لكنه كمفكر لايتجاوز هذا القصور الادراكي في تجسيم او عولمة احداث محلية كاشفا عن ذاته كعقل غربي.
ان بودريار يصعد من احداث الغرب الى مستوى "الحدث المحض" مثلما حدث مع عمليات نيويورك ومركز التجارة العالمي، أن بورديار يتحدث هنا عن اهتزاز "رهان التاريخ والقوة بل اهتزت ايضا شروط التحليل" انها كونية. حدث يتجاوز التاريخ الى مفهوم القوة ذات البعد الكوني واختلال المعرفة الانسانية باهتزاز شروط التحليل. نعم انها المفاجأة غير المتوقعة من جانب الغرب، كيف يقاتل اولئك الارهابيون بموتهم؟ كيف يستخدمون الانتحار في مواجهته؟
لقد بدت الولايات المتحدة الاميركية قوية وفيها يستظل الغرب الاوربي بشكل القوة المحض في تسعينات القرن العشرين بعد انهيار القوة الشرقية السوفيتية العسكرية والسياسية، واصبح العالم يعيش عطالة الاحداث التي كانت تصنعها الحرب الباردة او التنافس السياسي بين الغرب والشرق، وقد اشار بودريار الى عطالة تلك الاحداث، وهي عبارة يقتبسها من كاتب ارجنتيني، وهو يرى ان ركود الحدث يستشرف ماوراءه لذلك، فان عطالة الاحداث في التسعينات كانت تمهد الى حدث يوازي كل تلك العطالة في قوته، يوازيها من ناحية تأثيرها الوجودي في الوجود البشري فيتحول الى الحدث المحض، هكذا تبدو احداث انهيار برجي التجارة العالمي في الحادي عشر من ايلول في التصور الاميركي بضميمة رؤية الغرب لهول الحدث.
ترى هل يمكن قياسه بحدث في الشرق مثل إلغاء دولة فلسطين وإقامة دولة اسرائيل بما تشتمل عليه عملية الالغاء والاقامة في نزوع نحو المساس بالمقدس الاسلامي؟ هل من الممكن ان يكون بمستوى الحدث المحض في نظر بودريار لكنه في نظر الشرق هكذا، انه حدث يفوق التصور فيما لحق بالذات العربية من إهانة، قد نفسر هذا العدد الهائل من الشهداء من اجل فلسطين، تعبير عن صدمة الذات العربية ازاء اهانتها ونبذها.
لايجانب بودريار الصواب، وكمثقف ومفكر غربي يدرك ان القوة الفائقة للولايات المتحدة وتطورها الى قوة لاتحتمل وفق رأيه "هي التي أججت كل هذا العنف المبثوث في أرجاء العالم كله وهي التي أثارت هذه المخيلة الارهابية التي تسكننا جميعا" وبذلك فهو كمثقف انساني يحمل الغرب تلك المسؤولية الاخلاقية، وفي اعتراف أخلاقي تسبغه الموضوعية قوله "الى حد ما هم الذين ارتكبوا الفعلة لكننا نحن الذين أردناها" وفي حالة ان يتخلى وعي الغرب عن هذه الموضوعية فانه ينقاد الى مايطلق عليه بودريار "الهذيان المضاد للخوف سعيا الى ماوراء تعزيم الشر".
تفاقم القوة والرغبة في تدميرها
استنتاجا عن بودريار فان مايقود الى تدمير برجي التجارة وشيوع لغة المواجهة المدمرة في الاصولية الاسلامية هو هذا التفاقم غير المنضبط للقوة حتى غدا العالم قرية صغيرة في ظاهرة العولمة الاميركية وهي تقتات على بضاعة واموال السوق الحرة التي يديرها الرأسمال العالمي – الغربي، هذه النهاية للعالم التي رسمتها القوة المتفاقمة جعلت العالم يتساءل عما وراء هذه النهايات او هل بالامكان ان يكون هناك ماوراء..؟
يثير هذا النوع من السؤال القلق والارتباك حتى المعرفي منه وسيشهد على ذلك الجدل العالمي حول كتاب صموئيل هنتنغتون "صدام الحضارات" الذي تحول من مقالة في جريدة الى كتاب والى نظرية أثارت قلق العالم وتحفظاته واستنكاراته بل ان كلمة "صدام" تظل معبأة بذلك الشر الذي مصدره القوة المتفاقمة، ثم جاء الرد على السؤال في كتاب فوكا ياما "نهاية التاريخ" ليضع حدا لكل إمكانية ان يكون هناك ماوراء، او ليعلن انه لاقيمة لكل تلك التساؤلات حول ما وراء تلك النهايات، ولا قيمة لكل التحفظات او الاستنكارات إزائها.
لكن بودريار يلحظ وبثاقب فكره الفلسفي قدر هذه النهايات او تصورات البشر المعنيين بهذه النهايات حتى الذين يشاركون منافع هذا النظام، أنهم يضمرون "الحساسية حيال كل نظام نهائي، حيال كل قوة نهائية" وان هناك رغبة في تدمير كل قوة نهائية. هذه الرغبة تتولد وفق بودريار عن تفاقم هذه القوة ذاتها والاحساس البشري تجاهها، وكأن البشر يتوجسون من تطور قوة لا يقدرون على مواجهتها، انها تهددهم، او انها تضمر لهم التهديد، لذلك يكرهونها استنتاجا عن بودريار.
وفي رؤيته الفكرية والاخلاقية النافذة فانه يصف الغرب "وقد تصرف كما لو انه في موقع الله ذي القدرة الالهية الكلية والشرعية الاخلاقية المطلقة" وانه اعلن الحرب على نفسه بسبب تفاقم قوته.
أحلام الكوارث
يصف بودريار الحلم بنهاية القوة النهائية بانه نوع من احلام الكوارث التي يحيلها الى نوع من الاستيهام الداخلي للبشر، ان الحلم بنهاية هذه القوة النهائية وتفاقم القوة النهائية من جانبها، يشهد على او يكشف عن تواطيء بين الارهاب المندفع بقوة والقوة المتفاقمة والجاذبة الى دمارها، انه يصفه بالسستم الذي يكمل بعضه البعض.
ان التواطؤ في هذا السستم يمر من خلال:
اولا- "كلما تركز السستم عالميا بحيث لايشكل في حده الاقصى سوى شبكة واحدة ازداد تعرضه للمخاطر" ان الضغط الداخلي في تفاعلات هذا السستم -الارهاب والقوة- ينتج عن تنافس في الهيمنة وصراع في مصالح القوة، يتولد عنه انفجارا مهولا اذا تعرضت، الهيمنة، المصالح، الى تجاوزات احد طرفي السستم. لقد احست طالبان والقاعدة بحجم الهيمنة الاميركية المعبرة عن تفاقم القوة فجابهتها بردة فعل الارهاب، وهي تعلم انها لايمكن ان تقضي على القوة الاميركية، لكن تحاول اعادتها الى خطوط الضغط المتبادل بينهما والتنافس الذي لايتجاوز حدوده المرسومة له وفق السستم الدولي القوة والارهاب.
هكذا تتركب ذهنية الارهاب والقوة المتفاقمة، انها لا تسمح بتعدي خطوط المواجهة المعلنة اعلاميا وسياسيا واحيانا عسكريا، على ضوء ذلك نستطيع ان نفسر هذا التلكؤ الاميركي والغربي في مواجهة اخطر تنظيمات الارهاب "داعش" في سوريا والعراق، ومن قبلها تصريحات بوش الابن في نقل معركة اميركا مع الارهاب الى خارج الاراضي الاميركية غداة غزوه للعراق، علينا ان نتذكر ان مقالة بودريار كتبت قبل اكثر من عقد من ظهور داعش وقبل ثلاث سنوات من غزو العراق. لايفوتنا ان نذكر ايضا بالدور الاميركي في صناعة القاعدة وطالبان تعبيرا عن سعة مجال القوة لديها في ادماج اعدائها في مخططاتها كأعداء مؤشرين او متوقعين، لكن بإمكانها الحد من مخاطرهم في المخطط النهائي للقوة النهائية.
ثانيا – رعب مقابل رعب. واستنتاجا عن بودريار او مقاربة له مؤكدة، فان ما يسمح بإشاعة هذا النوع من الرعب المتبادل او المتقابل بين القوة المتفاقمة للامبريالية الاميركية ومنظومة الارهاب الفكرية والقتالية – الانتحارية، ان امتلاك كل منهما الطاقة على مواجهة الاخر او على الاقل هكذا يبدو لهما، فالامر وفق بودريار هو موضوع "طاقة تغذي الرعب" ومجال المواجهة ليس ايديولوجيات تحرك الطرفين بل حتى الايديولوجية الاصولية – الاسلامية لا علاقة لها، وان إقامة عالم وفق إدعاء كل ايديولوجيا سواء، العولمة، السوق الحرة، او العالم الخالي من كل ما يغيظ الاصولية الاسلامية، ايضا لا علاقة له بالمواجهة المركبة، ان بودريار يقول "لم يعد الامر منوطا حتى بتحويل العالم" ان السستم وفق بودريار يهدف الى تحقيق ذاته عبر القوة لم يبق هناك مجال لفكرة التضحية القديمة، الانتحاريون لايفكرون بالتضحية بناء على بودريار بل يفكرون بالقوة.
ان مفهوم التضحية مفهوم انساني، اما القوة فانه مفهوم مغامر خطورته تكمن في تحوله الى قاعدة، حينها يتحول الى مفهوم مقامر او يقامر بمصير البشرية في حال تحول القوة الى قوة متفاقمة.
ثالثا - "حقن عالمي متواصل للارهاب" نتيجة هذه السيطرة التي لاتريد ان تقف عند حدود معينة فالعالم، الدول، الاسواق، المنظمات الدولية،الصناعات الكبرى، خارج الولايات المتحدة –حادثة شركة فولكس واكن الالمانية- السياسات الدولية، خاضعة الى محددات تلك السيطرة. ان ادارة العالم بهذا الشكل من السيطرة يجعل الارهاب وفق بودريار هو الظل الملازم لهذا السستم من السيطرة، هناك ازدواجية في هذا السستم، بل يذهب بودريار الى عدم وجود خط فاصل بين مركبي هذا السستم.
انه يؤكد ان القوة المتفاقمة لها مضاد تنتجه في الثقافات المضادة لها، واحد من صور هذه التضادات التي تغرسها هي صور الاستغلال البشعة في مجالات الاخرين من "المستغلين والمتخلفين في مواجهة العالم الغربي...الذي.... يرفد سرا الشرخ الداخلي في السستم المسيطر".
ورغم امكان هذه السيطرة الكونية ان تجابه كل تضاداتها، وامكانية نجاح الامبريالية في صراعاتها مع المستغلين اقتصاديا، الا ان الارهاب يشكل فيروس يداهم أجهزة السيطرة، لانه وفق بودريار جزء من أجهزة السيطرة في تعزيز المضادات لها.
فيروس الارهاب
فيروس الارهاب يتولد بشكل آلي عن تفاقم القوة في الهيمنة والسيطرة، لكنه يوظف باتجاه تعزيز مناعة هذه الهيمنة الامبريالية، ويصفه بودريار (الارهاب – الفيروس) بانه إرتكاس شبه آلي لجهاز السيطرة وقوته، وهو حين لايفعل شيئا أمام الارهاب لان "الارهاب هو الذبذبة الصادمة لهذا الارتكاس الصامت "، يخلص بودريار من هذا الى انه ليس صدام حضارات ولابصدام اديان وانه يتعدى بكثير اميركا والاسلام رغم ان هناك محاولات لحصر النزاع بينهما، لكن الواقعة في رأيه تكمن في ان هذا التضاد، هذا الصراع، يبين عبر طيف اميركا وعبر طيف الاسلام أنها بالنتيجة وفق ما يخلص اليه "العولمة المنتصرة التي تخوض صراعا مع ذاتها" وقد تكون حربا عالمية قادمة رهاناتها العولمة بذاتها.
اضف تعليق