ما هي الحوامل والحواضن الثقافية والمعرفية في حياة الإنسان، والتي تفرّخ العنف وتولّد ظواهر النبذ والإقصاء، وممارسة القوة العارية والخشنة في العلاقات الإنسانية. والعنف الملازم لتاريخ الإنسان بنوعيه: المباشر؛ كالقتل والتعذيب والاعتداء والضرب، وغير المباشر؛ كالحرمان من الحقوق والازدراء والإكراه لتغيير الرأي أو المعتقد، والتمييز...

على المستوى التاريخي هناك ارتباط وتلازم بين حياة الإنسان في هذا الوجود وبين العنف بوصفه ظاهرة إنسانية.

لذلك نجد أن الملائكة أبدوا استغرابهم حينما أخبرهم الباري عزّ وجلّ بأنه سيخلق بشراً من طين، وأمرهم بالسجود له. ويسجل الذكر الحكيم عملية الاستغراب هذه بقوله: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾[1].

وقبل أن تعرف المجتمعات البشرية العنف والقتل، يروي لنا القرآن الحكيم كيف قتل قابيل أخاه هابيل، وما هي الظروف والحالة التي انتابت القاتل لكونه لم يعرف ماذا يصنع بجثة القتيل..

يقول تبارك وتعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ • لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ • إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ • فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ • فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سوءة أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾[2].

واستمرت البشرية في ممارسة العنف بكل صوره وأشكاله في مختلف مراحلها وأطوارها التاريخية؛ بحيث إننا لا نجد حقبة من حقب التاريخ دون ظواهر العنف الفردي والجماعي، الرمزي والمادي.

لذلك هناك ترابط بين هذه الظاهرة وتاريخ الإنسان على وجه هذه البسيطة. هذا الترابط المتواصل عبر حقب التاريخ يدفعنا إلى التساؤل عن: ما هي الحوامل والحواضن الثقافية والمعرفية في حياة الإنسان، والتي تفرّخ العنف وتولّد ظواهر النبذ والإقصاء، وممارسة القوة العارية والخشنة في العلاقات الإنسانية.

والعنف الملازم لتاريخ الإنسان بنوعيه: المباشر؛ كالقتل والتعذيب والاعتداء والضرب، وغير المباشر؛ كالحرمان من الحقوق والازدراء والإكراه لتغيير الرأي أو المعتقد، والتمييز بكل صوره وما أشبه، كل هذا من مفردات حقيقة العنف الملازمة لتاريخ الإنسان. وهذا بطبيعة الحال لا يعني أن العنف في الحياة الإنسانية قدر مقدر، وإنما هناك، وعبر التاريخ، إرادة ربانية وجهود إنسانية للحد من هذه الظاهرة، وضبطها في حياة الإنسان الفرد والجماعة؛ وذلك عبر التشريعات والنظم الإلهية والقوانين الإنسانية، التي عملت على ضبط هذه الظاهرة، ومنع حدوثها في العلاقات بين بني الإنسان.. لذلك يقول تبارك وتعالى: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾[3].

وعلى المستوى الإنساني والعلمي، فإن كل العلوم الإنسانية ترى أن العنف بوصفه ظاهرة هو من اختصاصها واهتمامها؛ ففي الجانب الفسيولوجي يجري العمل والبحث عن معرفة العوامل والأسباب ذات الصلة بدافع الغضب الذي يتحول إلى عدوان أو إلى طاقة تدميرية؛ لذلك تعرف العدوانية على الصعيد الفسيولوجي، «أي في إطار نظرية الكيمياء الحيوية للانفعالات تندرج ضمن مفهومين مختلفين، فهناك من جهة العدوانية -الغيظ، والغضب أي السلوك العدواني في فترة الانفجار. وهناك من جهة ثانية العدوانية- الحقد، أي التوتر العدواني الدائم الكامن والمستمر»[4].

وفي الجانب السيكولوجي تم الاهتمام بمعرفة الأسباب الحقيقية والعميقة لظاهرة السلوك العنيف، والمؤثرات المفضية إليه، وتأثير وقائع الحياة الخاصة في ذلك. «كما عمدت بعض الدراسات النفسية إلى البحث عن الدوافع الحقيقية، أو الوهمية، التي تسيطر على إنسان في ساعة الغضب لمعرفة ما يرجع منها إلى اللاوعي، وما يرجع إلى المثير الخارجي. وإلى دراسة مشاعر الإحباط والقلق والانطواء، وعلاقتها بنشوء اتجاهات العنف والتدمير، وإلى الجهد الذي يبذله الإنسان لدفع العدوانية خارج ذاته من خلال إسقاط كل الشرور على الآخر لتبرير عدوانيتنا هذه.

وكذلك فعلت الدراسات الاجتماعية على مستوى البحث عن العوامل الأسرية، والثقافية، والإعلامية التي تساعد على توفير بيئة العنف، بالإضافة إلى العلاقة بين العنف والانحراف، بين العنف والفقر، أو بين العنف والاضطهاد في داخل المجتمعات نفسها، أو في علاقة المجتمعات ببعضها»[5].

وفي الجانب السياسي يشغل العنف مكانة متميزة، حيث إن العلاقات الصراعية بين الأمم والشعوب وخيارات الحروب التي تلجأ إليها بعض الدول من أجل ضمان مصالحها أو توسيعها من خلال نهب ثروات الأمم الأخرى ومقدراتها. كل هذا يفضي إلى بروز ظاهرة العنف.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن الحقل السياسي من أبرز الحقول الإنسانية التي تبرز فيها ظاهرة العنف؛ لذلك يعمل علماء السياسة على تفكيك هذه الظاهرة وتحليلها من منظور سياسي استراتيجي.

وعلماء القانون من جانبهم يناقشون هذه الظاهرة، ويبحثون عن تأثيراتها على نظام الحقوق والقوانين المعمول بها.

وعلماء الاقتصاد يبحثون في ظاهرة ما يمكن تسميته بالعنف الاقتصادي وتأثيراته على حركة الإنتاج والتوزيع في المجتمع.

وعلى كل حال، فإن العنف بوصفه ظاهرة مجتمعية، عملت الكثير من الاختصاصات العلمية على دراستها وتحليلها وتفكيكها علمياً، وسبر أغوارها ببحوث متواصلة.

ويبدو من جميع المعطيات أن إنهاء هذه الظاهرة أو ضبطها في الحياة الإنسانية، لا يتأتى إلا بمعرفتها، وإدراك آليات عملها، وتموجاتها المتعددة.

لذلك -ومن هذا المنطق- نتساءل عن: ما هي الحوامل الثقافية لظاهرة العنف في المجال العربي؟ بإمكاننا أن نحدد الحوامل الثقافية لهذه الظاهرة أو الآفة الخطيرة من خلال النقاط التالية:

1- الفهم الضيق والحرفي لقيم الدين ومقاصده:

حينما يتم التعامل مع قيم الدين ومبادئه ومقاصده بعقلية متحجرة ورؤية أُحادية ضيقة، فإن هذه القيم تتحول في هذا الفهم أو في هذه الرؤية من مصدر للرحمة والتسامح وصيانة الحقوق إلى محفز ومحرض لممارسة العسف والغلظة والشدة ضد الآخرين.

فالفهم الضيق لقيم الدين وتشريعاته يقود إلى ضيق الصدر بالمختلفين والمغايرين، وهذا من جهته يؤدي إلى تأسيس الشروط النفسية والثقافية لممارسة الإكراه والعنف تجاههما.

فلا نجانب الصواب حين القول: «إن للمعرفة وطريقة التعامل معها دوراً واضحاً وأثراً كبيراً في توليد بعض أشكال العنف؛ حيث إن بعض الآفات الطارئة على الصعيد المعرفي، مثل الجزمية الفكرية، والتعصب والتصلب المعرفي، يفضي بأصحابها إلى اتخاذ مواقف عنيفة صارمة من كل معارض. ويحدث هذا النوع من المعرفة حالة التشدد والتطرف، ويسبب عدم إطاقة صاحبها لأي تعددية علمية، واختلاف اجتهادي يمثل أمراً طبيعياً جداً في المناخ الصحي والأجواء السليمة في تعاطي المعرفة والاجتهاد الحر المقونن»[6].

ولو تأملنا في طبيعة تشكل النواة الأولى لظاهرة العنف على هذا الصعيد، لرأينا أن الفهم الأحادي المغلق لمبادئ الدين ومثله العليا هو الذي يسمح لنا بإطلاق التهم والأوصاف المذمومة على المختلفين والمغايرين، وإلصاق تهمة الفسق والضلالة أو الكفر والإلحاد بحقهم.

إن هذه العملية هي البذور الثقافية الأولى التي تشرع للعنف والإقصاء ضد الآخرين.

فالرؤية الضيقة والأحادية للدين هي التي تدفع أصحابها إلى إرغام الآخرين على تبني هذه الرؤية. وهذه المسألة، بمتوالياتها وتأثيراتها المتعددة، قد شوهت صورة الإسلام وسمعته، ولا يمكن مواجهة هؤلاء بشكل فعال إلا برفع الغطاء الديني عنهم، وكشفهم على هذا الصعيد.

فالتفسير الديني المتطرف هو أحد الحوامل الثقافية والمعرفية لظاهرة العنف؛ وذلك لأنه حينما «لا نحتمل رأي الآخر، أو تفنيده والرد عليه، وعندما نعجز عن إقناعه بما نريد، نلجأ إلى الاعتداء عليه، أو إلى قتله إذا كنا نملك مصادر السلطة أو القوة، أو إذا كنا لا نخشى القانون الذي يمنع عن مثل ذلك الاعتداء أو يعاقب عليه. وعندما لا تحتمل دولة ما سياسة دولة أخرى، تشن عليها حرباً، أو تقوم بمحاصرتها والتضييق عليها اقتصادياً وسياسياً لإلغاء مصادر قوتها، وعناصر ممانعتها. وعندما لا يمتثل الطفل لأوامرنا نوسعه ضرباً، وعندما يجرؤ أحد على انتقاد هذا النظام أو ذاك، يزج به في السجن، أو يفقد عمله، أو يقوم أحد باغتياله. وعندما يختلف عرق الآخر أو لونه، يتعرض للتمييز أو للكراهية أو للاحتقار والتهميش. ولقد دفعت البشرية، كما هو معروف، أثماناً باهظة جراء هذا العنف الذي مارسته مجتمعات، وحكومات، وجيوش على شعوب بأكملها»[7].

2- التعصب الأعمى للذات وأفكارها:

حينما نقوم بتحليل ظاهرة العنف من المنظور الثقافي، نكتشف أن التعصب الأعمى للذات وقناعاتها وأفكارها وتصوراتها، هو الأرض الخصبة التي تنمو فيها كل أشكال العنف واستخدام القوة في العلاقات الإنسانية.

والتعصب هنا لا يعني الرفض العلمي والرصين لقناعات الآخرين واختياراتهم السياسة والمجتمعية، وإنما هو «حالة معرفية تنطوي فيها الذات على ما أدركته، وترفض أن ترى سواه، أو تمنح غيره حق الوجود، ما تؤمن به الذات دون مراجعة أشبه بوجودها نفسه.

وَضْعٌ من الاكتفاء الذاتي الذي يستغني عن كل ما عداه ولا يتقبل أي مغاير له. وبقدر ما تنطوي الذات على إيمان مطلق بما تراه في هذه الحالة المعرفية، فإن إيمانها به يتضمن معنى الإطلاق الذي ينفي نسبية المعرفة وإمكان الخطأ.

فالمعرفة التي تنطوي عليها هذه الذات معرفة اليقين الذي لا يقبل الخطأ أو يعترف به، والاكتفاء الذي لا يتصور الزيادة أو يقرها، والتصديق الذي لا يقبل السؤال، أو يسمح له بالوجود، والجزم الذي يرفض الشك، ويرى فيه مظهراً للنقص. إنها معرفة الإجابات المحسومة ابتداءً، المدركة سلفاً، معرفة النهايات المغلقة، والأفق المنطوي على ما فيه، والبعد الواحد، إنها معرفة حدية، إطلاقية، يقينية، وحيدة الاتجاه، لا تعرف الحوار أو السؤال أو التشكك. وحضورها الذاتي مكتف بنفسه، بعيداً عن حضرة الآخر الذي لا يسهم في وجودها، ولا يملك سوى أن يتقبلها تقبل السلب»[8].

وبفعل هذا النمط من التعاطي مع الشأن الثقافي والمجتمعي، تُقمع الاجتهادات، ويسود سوء الظن، وتحاكم النوايا، ويضمحل الفكر الجاد، وتخبو أطر الحوار وفرصه، وتسود قيم العنف والقتل والاغتيال الجسدي والمعنوي.

وبالتالي؛ فإن حمل الناس على الفهم الواحد والرأي الواحد، يناقض حقيقة الاجتهاد والنواميس الكونية فيما يرتبط بالاختلاف البشري.

فالتعصب الأعمى الذي يُبقي كل طرف منغلقاً على ذاته، ومتشبثاً حد الهوس بقناعاته، هو الذي يولد مناخ العنف وثقافته والآراء التي تسوِّغ القتل والاغتيال لاختلاف في الفكرة أو الموقف، وهو الذي لا يفضي إلا إلى النبذ والإقصاء والعنف. وحيثما ذهبت ستجد أن خلف كل عنف تعصباً أعمى للذات أو أفكارها وقناعاتها. لذلك فإن التعصب -بما هو حالة معرفية- هو أحد الحوامل الثقافية لظاهرة العنف في المجال العربي.

3- إطلاق الأحكام الكاسحة على الآخر:

دائماً الحكم المطلق الكاسح «في أي تجاه كان» يصادر الحقيقة، ويُشرِّع لعملية إقصاء الآخر وجوداً ورأياً.

فهو نسق يحرم على الآخرين المشاركة في صنع الحقيقة والمعرفة، ويصادر منهم الحق في الاختلاف. له وحده «صاحب النسق المطلق» الحق في أن يخالفهم، وليس للآخرين أي حق في إبداء رأي مخالف له.

وحين يسود هذا النسق أيَّ واقع اجتماعي، فإنه تستباح الحقيقة، ويُزيَّف الواقع، وتنتهك السمعة والكرامة، ويرجم أصحاب الرأي المخالف؛ لأن الأحكام المطلقة في العلاقات الإنسانية، تجعل صاحبها منفصلاً بشكل دائم عن الذات ومسوِّغاً لكل ما يصدر عنها، والنقد المطلق لغيره، واتهامه وتجريحه في كل ما يصدر عنه.

فالنسق الثقافي الذي لا يؤمن بنسبية الحقيقة، ويتعاطى مع نفسه بوصفه مالكاً وقابضاً وحده على الحقيقة، هذا النسق الإطلاقي يترجم نفسه عبر نبذ الآخر المختلف، واتهامه بأشنع التهم، ويصادر حق الآخرين في الاختلاف في التصور والرأي والموقف.

ولا ريب أن هذا السياق والنسق، من الحواضن الثقافية لظاهرة الإقصاء والعنف؛ فالأحكام المطلقة والكاسحة لا تنتج إلا ثقافة حدية، عنفية، تسوغ لصاحبها إطلاق الأحكام المعيارية على الآخرين. فامتلاكك للحقيقة لا يشرع لك -بأي حال من الأحوال- ممارسة الجبر والإلزام والإكراه لإقناع الآخرين.

من هنا وقفت النصوص القرآنية ضد الإكراه والسيطرة، ودعت رسول الإسلام إلى التحرك في أجواء الإبلاغ والإقناع بعيداً عن الجبر والسيطرة؛ إذ قال تعالى: ﴿ وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾[9]، وقال عزّ من قائل: ﴿ فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ • لَّسْتَ عَلَيْهِم بمسيطر ﴾[10]، وقال تبارك وتعالى: ﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ﴾[11].

فالوظيفة الكبرى هي هداية البشر، بوسائل عقلية، سلمية، بعيدة كل البعد عن كل أشكال الضغط والإكراه والجبر.

و«لقد فك الأنبياء جميعاً العلاقة بين الفكر والعنف، فحرروا معركة الأفكار من معركة الأجساد، والله تعالى حمى الأجساد من أن يعتدى عليها من أجل الأفكار، فلم يعط لأحد الحق على جسد الآخر مهما كانت فكرته»[12].

وفي سبيل نيل الحقوق والحريات، لم يشرع الله سبحانه وتعالى للأنبياء ممارسة الإجبار والإكراه، وإنما حدد وظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والإنذار والتبشير.

فالحضارات لا تبنى بالإكراه، كما أن الأفكار لا تنتقل بالقسر والقهر. فما أكثر الإمبراطوريات التي انهارت وتلاشت، وأصبحت في ذمة التاريخ بفعل اعتمادها واستنادها على القهر والإكراه.

فالنسق الإطلاقي يعتمد في تعميم معرفته وأفكاره على الفرض والإكراه. ولا ريب أن هذا النسق من الحوامل الثقافية لظاهرة العنف.

فالعنف صنو الإكراه، والجبر قرين الإقصاء، ولا يمكن مواجهة العنف إلا بمواجهة أفكار الإكراه وثقافة الجبر والقهر والإلزام القسري.

4- الانغلاق الثقافي:

لا شك أن النزوع إلى الانغلاق، والانكفاء الثقافي والمعرفي، بصرف النظر عن دوافعه، يفضي إلى العديد من المشكلات والأزمات في دوائر الحياة المختلفة، وذلك لأن خيار الانغلاق هو من الخيارات المأزومة، والتي تحمل علة إخفاقها في أحشائها؛ وذلك لأنها لا تراعي متطلبات العصر، وحاجاتنا إلى التفاعل مع منجزات الحضارة الحديثة ومكاسبها.

لذلك فإن الانغلاق الثقافي يدفع بأهله وأصحابه إلى الارتماء في هوة التعصب والعنف. فوهم المطابقة والانكفاء مميت للثقافة، ولا حياة ثقافية حقيقية دون أفق التواصل والتفاعل مع الثقافات الإنسانية الأخرى. وأية ثقافة تطرد من واقعها هذا الأفق بتأثيراته وممكناته ومتطلباته، فإنها ثقافة لا تاريخية، ولا تستطيع أن تبلور ثقافة ذاتية أصيلة أو تنشئها.

فتنمية أفق التواصل والانفتاح والتفاعل الثقافي هو شرط الأصالة والمعاصرة معاً. فلا أصالة إلا بجوهر التواصل والانفتاح الثقافي، كما أن المعاصرة لا تتحقق في السياق التاريخي والاجتماعي إلا بالتحرر من خيار الانكفاء والانزواء والانغلاق.

لذلك، فإن الانغلاق الثقافي وغياب مستويات التواصل الثقافي والمعرفي مع الثقافات الإنسانية الأخرى يفضي إلى تبني مواقف حاسمة وحادة من التفاعل الإيجابي مع الثقافات والمعارف الأخرى. هذه المواقف تؤسس لرفض عنيف لبعض الشرائح ومكونات المجتمع التي تتواصل وتتفاعل مع الثقافات الإنسانية.

فالانغلاق الثقافي، وعبر متوالياته النفسية والسلوكية، يساهم في توليد ظاهرة العنف وتجذير حالة المفاصلة الشعورية والعملية بين المختلفين والمغايرين.

فالبنية الثقافية المغلقة، والتي تتعامل مع مفرداتها وجزئياتها بنوع من الجزم والإطلاق والدوغمائية، هي مولدة لظاهرة العنف. وذلك لأنها لا ترى للآخرين من حظ في امتلاك الحق أو حيازة الحقيقة. وبالتالي فإن الانغلاق الثقافي، يعني فيما يعني رفض الآخر وعدم احترام التعدد والاختلاف.

ومن المؤكد أن من جذور التطرف وحوامل العنف رفض الآخر وعدم قبوله فكراً ووجوداً. فأهل العنف يتشددون في تمسكهم بما تَأَدَّى إليه فهمهم، ويرون دائماً أن ما عندهم هو الحق الذي لا خلاف فيه، وأن ما عند غيرهم هو الباطل الذي لا خلاف فيه. وعلى أساس هذا الفهم والإدراك، هم يرسمون مواقع جديدة تستنزف جهودهم وطاقاتهم.

وإن مواجهة هذه الحوامل وتأثيراتها المتعددة تتطلب العمل على تفكيك هذه البنى الثقافية والمعرفية، وممارسة النقد الجاد الحقيقي للمفاهيم الأساسية التي تستند إليها، وبناء منهجيات فكرية ومعرفية جديدة، وصياغة الفضاء الاجتماعي والثقافي على أسس التعددية والحوار والتسامح وحقوق الإنسان.

.........................................
[1] سورة البقرة، آية 30.
[2] سورة المائدة، آية 27 - 31.
[3] سورة المائدة، آية 32.
[4] فاوستو أنطوينيني، عنف الإنسان أو العدوانية الجماعية، ص27، معهد الإنماء العربي، بيروت 1989م.
[5] مجلة الحياة الطيبة، فصلية متخصصة، تعنى بقضايا الفكر والاجتهاد الإسلامي، العدد التاسع - السنة الثالثة، ربيع 2002م.
[6] المصدر السابق، ص11.
[7] المصدر السابق، ص85.
[8] جابر عصفور، هوامش على دفتر التنوير، ص289، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 1994م.
[9] سورة الكهف، آية 29.
[10] سورة الغاشية، آية 21 - 22.
[11] سورة يونس، آية 99.
[12] جودت سعيد، لا إكراه في الدين -دراسات وأبحاث في الفكر الإسلامي، ص13، العلم والسلام للدراسات والنشر، دمشق 1997م.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق