تناقش هذه الورقة البحثية تحليلات ذات علاقة بمقاربات بناء السلام لمواجهة الصراع والتطرف والعنف والإرهاب، الذي أحكم على المشهد المعاصر، وسيطر على أجزاء من دول ومجتمعات ومنها العراق وسبل المواجهة لكل الدوافع عبر مقاربات وآليات لاحتواء تلك المحرضات في المحورين دوافع الصراع ومقاربات بناء السلام...
تناقش هذه الورقة البحثية تحليلات ذات علاقة بمقاربات بناء السلام لمواجهة الصراع والتطرف والعنف والإرهاب، الذي أحكم على المشهد المعاصر، وسيطر على أجزاء من دول ومجتمعات محلية، ومنها العراق، وأيضا سبل المواجهة لكل الدوافع عبر مقاربات وآليات لاحتواء تلك المحرضات في المحورين الآتيين:
المحور الأول: دوافع الصراع
عملية تحديد الدوافع التمكينية للعنف والصراع عديدة، فهناك من أعاد السبب إلى: أولوية الاقتصاد أو إلى أسبقية السياسة أو إلى مرجعية الثقافة والفكر، أي بين من أعادها إلى المنظور الفكري الذي يحكم هذا الدافع، أو ذاك ويأخذ بهذا العامل ويهمل ذاك، أما نحن فسنشير إلى جميع تلك الدوافع بشكل سريع.
ففي الدافع السياسي، يتمحور في أن الدولة في بعض بلدان العالم النامي تكون ضد المجتمع، بحيث يلغي القمع السياسة من هذه المجتمعات، ويحول السلطة إلى حقل للتوحش السياسي ضد الفرد والجماعة في آن واحد، وإزاء واقع كهذا خرجت فئات وشرائح مختلفة من الشباب وغيرهم ضد حقل التوحش السياسي الرسمي، ولجأت إلى التنظيمات العنفية المتطرفة وراحت تناهض الأنظمة السياسية المهمشة لهم، كما أن الدول خارج هذا النسق أي قد تكون فيها مساحة من الديمقراطية لكنها لازالت يحكمها النظام البيروقراطي المعقد الذي يحفز للنفور من الدولة ويدفع بالشباب نحو السياسة بمفهومها العصبوي الديني المتطرف، وهذا ما يجعل الدولة ناقصة الشرعية وذات كيان مزعزع مما يبعث على قلق دائم نحو عدم الاستقرار.
وفي ضوء هذا التناقض بين الدولة والشباب، سيلجئون إلى الدين والتعصب مسببين قهرية سياسية، أما في الدوافع الثقافية والفكرية والإعلامية فتتحدد بضعف الاستقلال الثقافي الذي يفكك مسارات الوحدة والإندماج ويضعف إدارة التنوع الإجتماعي والتعددية الثقافية وإنجاز التعايش، وهناك من أحال السبب إلى الطبيعة المشتركة بين النصوص الدينية الأصولية المغلقة على التجديد ورفض الاجتهاد وبين القوى التي تنضم إلى أطر العنف والتطرف أفرادا وجماعات، وذلك ينتج طبيعة تكفيرية، تكفر الآخر المختلف عنهم مسلما كان أو غير مسلم، تكفره وتنبذه وتقصيه بإعلان الحرب الإلغائية ضده من الوجود.
وفي هذا السياق، اعتبر البعض أن ثقافة الفكر التكفيري الناتجة من التعليم الديني المتشدد أو من القراءة السطحية للنصوص الدينية المقدسة وغير المقدسة تشكل العلة الأكثر عمقا من بين العلل الأخرى وراء طغيان الإرهاب التكفيري، لكن البعض لم ينظر بالطبع في الجدل الواقعي للعلاقة بين قدسية النص وتأريخه، أما الدافع الاقتصادي فيتمحور حول الفقر والتهميش والبطالة والعوز والمرض والجهل والإحباط الذي يستولد مناخاً معمماً لليأس والإحباط ويدفع بكتل شبابية إلى الالتحاق بتشكيلات الجماعات المتطرفة لكي تتحرر من يأسها وإحباطها.
أما الدوافع المتعلقة بالتدخلات الخارجية، فهي تقود إلى خلق حالة من الغضب والعداء المستمر بين مختلف شعوب العالم، في ظل الإستغلال الخارجي للموارد الطبيعية، مما يجعل تلك الدول تبحث عن أدوات لتقسيم المجتمعات ويجعل من الإحتقان والتنافر وتشجيع التطرف والتعصب والانقسام أدوات تمكينية للتحكم والتدخل.
المحور الثاني: مقاربات بناء السلام
هنالك العديد من المقاربات المانعة للتطرف والعنف والمحرزة للسلام في مجتمعات مابعد الصراع مع الإشارة إلى حالة العراق، وكالآتي:
أولا/ المقاربة السياسية:
تتجسد المقاربة السياسية حول ضرورة تفكيك البيروقراطية السلطوية في الأنظمة السياسية مع بسط النفوذ السياسي الفاعل والمنجز لدولة الرعاية والرفاهية، وإعادة رسم العلاقة بين السلطة والمجتمع أي توزيع السلطة والصلاحيات وفق الدستور العراقي لتجاوز آثار السلطوية والمركزية، عبر توسيع حق المشاركة السياسية وضمانة التأثير بصنع واتخاذ القرار السياسي للمواطن وردم الفجوة بين السلطة والمجتمع، وتنمية المواطنة وتتجسد باحترام الدولة لحقوق المواطنين، والمواطنون لواجباتهم تجاه الدولة، وتقوية أسس المجتمع المدني والأهلي الوحدة الوطنية، عبر تشجيع المواطنين على صيانة الوحدة الوطنية واحترام الخصوصيات الثقافية للجميع، مع إيجاد أرضية مناسبة لزيادة مستوى المشروعية للأنظمة السياسية ومصداقية الدولة، ومفتاح المشروعية والمصداقية، هو تشجيع التنمية السياسية والوعي السياسي ضمن الإطار الوطني.
ثانيا/ المقاربة الاقتصادية والتنموية:
هنا نجزم أن الحرمان الاقتصادي للمناطق التي دخلها داعش هو من أهم محرضات التمرد، فقطاعات واسعة من هذه المناطق التي احتلها داعش عانت بشكل كبير، وعلى النخب الجديدة إطلاق مشروع تنموي شامل لدمج الفئات المحرومة في المجتمع، هذه المقاربة الاقتصادية يجب أن تكون قائمة على أساس بناء اقتصاد تنموي مبني على أُسس الاستقلال كقيمة ثابتة، ولامركزية في تخطيط مع ضرورة تقديم دعم من قبل الدولة، وتفعيل الجانب الزراعي والصناعي، وضرورة ارتباط التنمية بالجانب القيمي الأخلاقي.
فالاكتفاء الذاتي وتنشيط الوضع الاقتصادي بحاجة إلى وسط اجتماعي متطور، ووسط ثقافي وسياسي، إذ أن زيادة صادرات الدولة تعد لاعبا مؤثرا في تعزيز السلطة الوطنية للدولة، خلاف ذلك سيظهر التضخم وعدم السيطرة ويعرض الدولة إلى أزمات حقيقية بكل المجالات، فتحتاج هنا إلى تنمية الاستثمارات الداخلية والخارجية والتخلص من البيروقراطية وعدم الإدمان على النفط في التصدير بل تجاوز اقتصاد النفط، وتسريب رؤوس الأموال إلى الدول الخارجية، وهذا يحتاج إلى مكافحة الفساد، والاستفادة من الظروف الإيجابية حتى يتحقق الاستقرار الاجتماعي عبر تنمية شاملة تهتم بالتكامل الإنساني بالمجالات كافة.
فالمقاربة هنا، هي تحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة أحد أهم ضمانات الوحدة الوطنية وانسجام القرارات السياسية، كما أن تنشيط الوضع الاقتصادي للمجتمع كفيل بضمان التعايش وتعزيز قيم التسامح وتفضيل أطر البناء الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، فتوفير فرص العمل بشكل عادل وعدم الاعتماد على الأجندات الخارجية في إعادة الإعمار وبناء المصالحة أفضل طريق لبناء المجتمعات الخارجة من الصراع، رغم أهمية الدعم الدولي والإقليمي في إعادة البناء والإعمار لكن بشروط الدولة لا بشروط المانح.
ثالثا/ المقاربة الفكرية الثقافية:
لابد من إعادة قراءة النصوص التاريخية بعمق وإدخال متطلبات التجديد الديني للخطاب والنص والفتوى، إضافة إلى المناهج التربوية ووسائل الإعلام والحفاظ على الخصوصيات الثقافية من الثقافة الغربية الوافدة المحفزة للتطرف والتفكك والعنف.
كذلك ضمن الآليات الثقافية، لابد من إعداد خطط تربوية وثقافية لتأطير السلوك العام للأفراد، وهنا نود ذكر المؤسسات التعليمية والثقافية والإعلامية الحكومية والأهلية وإشاعة المفاهيم الثقافية، وتعزيز التعايش المشترك للتخلص من ثقافة الماضي، ومراجعة المناهج التربوية والتعليمية لهذا الغرض، فالكثير من المناهج تعمل على إذكاء سموم الفرقة والانقسام. إذن لا بد من ضمان جودة التعليم والمناهج التي تحاكي متطلبات المرحلة وتحدياتها، وتوحيد الخطاب الديني الحداثوي المنسجم مع التحولات الاجتماعية الحاصلة في مجتمعات مابعد الصراع وأيضا خطاب إعلامي وسطي بناء، وواقعا نواجه هنا مشكلة وهي غياب الرؤيا الواضحة لمرحلة مابعد داعش من أجل تعزيز العيش المشترك للتخلص من ثقافة الماضي، هل تم مراجعة المناهج لهذا الغرض؟، بل على العكس من ذلك، فالكثير من المؤسسات الثقافية والإعلامية والتربوية تعمل على إذكاء سموم الفرقة والانقسام.
كما لابد من إنجاز الاستقلال الثقافي الذي يعزز مسارات الوحدة الوطنية من خلال النجاح بإدارة التنوع الاجتماعي والتعددية الثقافية وإنجاز التعايش، وكل هذا يعد من توابع القدرات الثابتة للاقتصاد القوي، فالاستقلال الثقافي بحاجة إلى إمكانات وحماية مالية لطبقات المجتمع.
رابعا/ المقاربة القانونية:
فبدل الاكتفاء بتشريع القوانين ذات الطابع التجريمي والمنع والردع علينا تشريع قوانين مشجعة على دمج المكونات والفئات الاجتماعية على تنوعها الأثني والمذهبي التي تضمن المصالحة والتسامح والتعايش من جهة والعدالة بذات الوقت من جهة أخرى، فلابد من خلق ثقافة المساءلة مكان ثقافة الإفلات من العقاب؛ لأن ذلك يرسخ ثقافة الإحساس بالأمان لدى المجتمع ويشجع على ثقافة الاعتراف بالخطيئة لدى المذنب ويرسخ أيضا ثقافة اللجوء إلى القانون. كما من الضرورة أن تكون القوانين المشرعة مدونة وقريبة من الواقع وموحدة، فكل شيء يجب أن يكون مكتوبا ومدونا في النظام السياسي والاجتماعي، وهذا دليل على سيادة علم الحقوق وسيطرته على جميع شؤون الحياة، فهذه القوانين هو نتاج اتفاق الآراء بين المجموعات الفاعلة في المجتمع، إذ أن اتفاق الآراء يديم الهيكلية الاجتماعية ويدفع الأفراد للعمل داخل المجتمع بمركزية واضحة.
والملاحظ في المجتمعات التي تمتلك قوانين اجتماعية مدونة وجود نوع من الاتحاد، فالمجتمع ينتمي إلى قاعدة واحدة ويتبع قوانين واحدة، يحقق بالنتيجة تجانس فكري واتفاق في الرأي، في المجتمعات (غالبا) أكثر القضايا تحل باجتهادات شخصية، وإدارة الدولة تدار بصورة شخصية بشكل معمق، وهذا المنهج في إدارة الدولة يؤدي إلى زيادة تسلط الأفراد على الآخرين، ويترسخ التلذذ بالتفرد ويكون الاستبداد هو المنهج الوحيد لإدارة البلاد، مما يكرس فقدان الأمن الاجتماعي وانعدام الشرعية السياسية، ويغيب دور العلماء والباحثين، ثم أن ضعف الساحة السياسية يكون سببا للركود العلمي مع اليأس من النشاطات العلمية.
وعليه، فالتحرك باتجاه تدوين القوانين واحترام تنفيذها والاستفادة من العلم واتفاق الآراء ضرورة ملحة من أجل تحقيق التعايش الاجتماعي في مجتمعات مابعد الصراع.
إن الأبعاد القانونية والتشريعية في هذا المجال غير كافية ولابد أن ننتبه إلى قضية مهمة في الفعل السياسي العراقي خاصة في بعده القانوني والتشريعي، وهي نحن عندما نشرع قوانين فأما لا تطبق أو تطبق بأبشع صورة.
ختاما، إن النخب السياسية العراقية خلال السنوات الأخيرة تشدقت بالديمقراطية التوافقية وتقاسم السلطة التي تحولت من غول قبل (2003) إلى غنيمة بعد ذلك التاريخ، مما كرس الانقسام والاحتراب، ولهذا لابد من تقاسم السلطة عبر التوافق بعد أن تتم توأمة الشراكة مباشرة في النسيج الدستوري للهيكل السياسي، ويمكن لحكومة قوية تعمل جنبا إلى جنب مع إقليم كُردستان والإدارات المحلية يمكن أن تحدث تغيرا هائلا من أجل عراق جديد متنوع.
اضف تعليق