q
على الرغم من مرور عام على تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، لا تزال ثاني أكبر مدن العراق، تعاني مأساة حقيقة بسبب الحرب المدمرة والخسائر الكبيرة التي لحقت بها يضاف الى ذلك المشكلات الاخرى. وغابت الاحتفالات والزينة كما نقلت بعض المصادر، عن شوارع الموصل في الذكرى السنوية الأولى لتحريرها وسط أجواء من الإحباط بسبب التأخير في إعادة الإعمار...

على الرغم من مرور عام على تحرير مدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش الإرهابي، لا تزال ثاني أكبر مدن العراق، تعاني مأساة حقيقة بسبب الحرب المدمرة والخسائر الكبيرة التي لحقت بها يضاف الى ذلك المشكلات الاخرى. وغابت الاحتفالات والزينة كما نقلت بعض المصادر، عن شوارع الموصل في الذكرى السنوية الأولى لتحريرها وسط أجواء من الإحباط بسبب التأخير في إعادة الإعمار. وعادت الحياة إلى طبيعتها في الجزء الشرقي من الموصل إلا أن مشاهد الدمار ما تزال جلية في غربها. وأعلنت القوات العراقية في العاشر من تموز/يوليو 2017 استعادة السيطرة على مدينة الموصل بعد تسعة أشهر من معارك دامية بدأت في شرق المدينة، وامتدت إلى غربها الذي شهد حربا ضروسا أسفرت عن دمار كبير خصوصا في المدينة القديمة.

ورغم أن الحياة عادت إلى طبيعتها في الجزء الشرقي من الموصل، فإن مشاهد الدمار لا تزال سائدة في غربها. وقبل أيام فقط، بدأت السلطات المحلية عملية رفع الأنقاض بمشاركة متطوعين.

ويشير "المجلس النرويجي للاجئين" في بيان إلى أنه بعد مضي عام على استعادة الموصل، "لا يزال هناك أكثر من 380 ألف شخص من سكان المدينة بلا منزل، وأحياؤهم عبارة عما يصل إلى ثمانية ملايين طن من الحطام". ويوضح أن "حوالي 90 في المئة من الجانب الغربي من مدينة الموصل مدمر. وحوالي 54 ألف منزل في الموصل والمناطق المحيطة بها مدمر". ويشير المجلس إلى أن الموصل تحتاج إلى 874 مليون دولار أميركي لإصلاح البنية التحتية الأساسية.

النظام الصحي

في هذا الشأن وبعد عام من استعادة القوات العراقية السيطرة على مدينة الموصل من تنظيم داعش تقول منظمات إغاثة إن نظام الرعاية الصحية في المدينة لا يزال معطلا والمستشفيات مدمرة وحتى الخدمات الأساسية غائبة. وسيطرت الحكومة على الموصل بدعم من تحالف تقوده الولايات المتحدة وقوات كردية قبل نحو عام، ونزح 380 ألف شخص من المدينة الشمالية التي كان يقطنها مليونا شخص قبل وقوعها في قبضة التنظيم المتشدد في يونيو حزيران 2014.

وقال المجلس النرويجي للاجئين في بيان إن القتال خلف ثمانية ملايين طن من الحطام. والمجلس من بين كثير من المنظمات الدولية التي تساعد إلى جانب حكومات أجنبية في جهود الإغاثة وإعادة الإعمار. وقال هيمان ناجاراثنام مدير عمليات منظمة أطباء بلا حدود في العراق إن تسعة من بين مستشفيات المدينة الثلاثة عشر دُمرت وهو ما أدى إلى انخفاض عدد الأسرة المتوفرة بالمستشفيات إلى 1000 سرير من 3000. وقال ”لا توجد منشآت كافية أو طاقة سريرية متاحة“ مضيفا أن الأرقام الحالية تعادل نصف الحد الأدنى المقبول عالميا.

وذكرت المنظمة أنها استقبلت في مايو أيار 3557 حالة في غرفة الطوارئ بالمستشفى التابع لها في غرب الموصل 95 بالمئة منها نتيجة ظروف العيش غير الآمنة مثل السقوط من مبان متضررة أو انهيار الجدران أو المباني. وقالت المنظمة إن معظم المرضى من جرحى الحرب يحتاجون إلى المتابعة بعد خضوعهم لجراحات أجريت على عجل عند أو وراء الخطوط الأمامية أثناء القتال وهم بحاجة الآن إلى جراحات إضافية. وقال ناجاراثنام ”كثير من الأشخاص خضعوا للعلاج خلال الصراع ولا يزالون بحاجة إلى المتابعة وجراحات أخرى أيضا“. بحسب رويترز.

وفي أبريل نيسان الماضي، فتحت أطباء بلا حدود منشأة للرعاية بعد العمليات الجراحية في مستشفى في غرب الموصل لتقديم الخدمات لمن أصيبوا بالصدمة خلال معركة استعادة المدينة. وقالت أطباء بلا حدود في بيان إن المنشأة تضم وحدة عمليات متنقلة وجناحا يضم 33 سريرا للاستشفاء بعد العمليات وخدمات الصحة النفسية ووحدة إعادة تأهيل ستتم إدارتها بالشراكة مع منظمة هانديكاب إنترناشيونال. وتعمل أطباء بلا حدود في العراق منذ عام 1991 وقدمت خدمات طبية خلال المعركة ضد تنظيم داعش.

تسول الأطفال

من جانب اخر يحمل الطفل محمد سالم يوميا كيسا من المناديل الورقية ويدور في شوارع مدينة الموصل متسولا تحت ستار بيع المناديل، لتأمين نقود كافية لإعالة أمه، بعدما قتل والده بيد تنظيم داعش خلال حرب ضروس انتهت قبل عام. وعند تقاطع النبي يونس في شرق مدينة الموصل، يمسح سالم (12 عاما) المتعب العرق عن وجهه الذي يزداد سمرة تحت أشعة الشمس الحارقة، ويقول "أنا أبيع المناديل الورقية. أخرج كل يوم من السابعة صباحا، حتى العاشرة ليلا". ويسعى محمد لإعالة والدته، وهو وحيدها، بعدما أقدم الجهاديون على قتل والده قبل انطلاق عمليات استعادة الموصل.

وتضم الموصل دارين لإيواء الأيتام، واحدا للبنين وآخر للبنات. ووصلت إلى الدارين أعداد كبيرة من فاقدي الاباء او الامهات نتيجة الأعمال المسلحة، من عمر ستة إلى 18 عاما، وفق بيانات صادرة من الدارين. وفي بلد كالعراق، حيث تنتفي تقريبا عمليات الإحصاء الرسمية، تسعى منظمات عدة إلى تسجيل أرقام تقريبية لآثار الحروب على المجتمعات والسكان.

يقول مسؤول منظمة "فرحة يتيم" في محافظة نينوى قيدار محمد إنه "لا توجد بيانات رسمية دقيقة بأعداد الأيتام في الموصل خصوصا وفي عموم المحافظة". ويوضح قيدار أن الأعداد الموثقة لدى المنظمة تشير إلى وجود 6200 يتيم في نينوى، بينهم نحو 3283 قتل أهليهم في الأحداث الأخيرة في الموصل". ومن يجول في شوارع الموصل اليوم، لن يتمكن من غض النظر عن عشرات الأطفال من كلا الجنسين ينتشرون قرب الإشارات الضوئية وعلى التقاطعات بشكل خاص، بأجسام هزيلة وملابس رثة وأحذية مهترئة، يركضون خلف المارة يستجدون المال بطرق مختلفة، من مد اليد أو مسح زجاج السيارات، أو بغطاء بيع المياه والمناديل الورقية.

من بين هؤلاء، الطفل علي بنيان (10 أعوام) الذي كان يرتدي ملابس رياضية قديمة بضعف قياسه. لم يستطع بنيان، الذي تخوف بداية من الحديث حبس دموعه. يقول الطفل الذي يجعله التعب البادي على وجهه أكبر من عمره بسنوات "قتلت كل عائلتي وهدم بيتنا خلال القصف على المدينة القديمة" في غرب الموصل، والتي دمرت بنسبة 90 في المئة ولا زالت حتى الآن دون أي مشروع لإعادة الإعمار. ويرفض بنيان كغيره من الأطفال المتسولين الحديث عن مكان سكنه الحالي. يقول "لا أقارب لي الآن. اضطررت للتسول لإعالة نفسي وعدم تمكني من الحصول على عمل بسبب صغر سني". لكن رغم ذلك، يعرب بينان، على غرار أترابه، عن أمله بإيجاد "عائلة تأويني، كي أكمل دراستي".

وتواجه محافظة نينوى، التي أعلنت السلطات العراقية فرض سيطرتها الكاملة عليها في نهاية آب/أغسطس 2017، تحديات كبيرة اليوم، خدمية وإدارية ومجتمعية. وحتى الساعة، لا يوجد أي برنامج واضح لإيجاد حلول، خصوصا لما يقارب ثلاثة آلاف تلميذ بشكل عام حرموا من التعليم في المدينة، ما يزيد من ظاهرة هؤلاء الأطفال. ويقول عضو مجلس محافظة نينوى خلف الحديدي "حتى الآن لا يوجد مشروع أو دراسات حقيقية سواء من الحكومة الاتحادية أو المحلية لمعالجة هذه الظاهرة، خصوصا وأن أطفال الشوارع يتعرضون لمختلف أنواع الاستغلال".

وتتجه ظاهرة تسول الأطفال في الموصل، للتحول الى منظومة ربحية تديرها عصابات، من خلال أشخاص يسعون إلى إبرام اتفاقيات تقاسم الارباح مع المتسولين، مقابل السماح لهم بالدخول إلى أماكن عامة لاستجداء الناس، وإلا فيمنعون. ويقول أبو حميد (35 عاما)، أحد سكان الموصل العاملين في معمل حلويات "في أحد الأيام كنت جالسا أنتظر موعدي في عيادة طبية، وأقدم موظف الاستقبال على طرد متسولة صغيرة أمام عيني". ويضيف "عند خروجها، أخبرتني إنه طردها لرفضها زيادة المبلغ المتفق عليه أسبوعيا". بحسب فرانس برس.

وفي هذا الإطار، توضح الباحثة الإجتماعية فاطمة خلف "الظروف التي مرت على الموصل (...) تركت الأطفال عرضة لمختلف الانتهاكات في الشارع". وتضيف "إذا تركوا بهذا الشكل في الشوارع (...) سيصبحون أعضاء غير نافعين في المجتمع، وربما يتحول بعضهم إلى مجرمين. لذا على السلطات المعنية تطويق هذه الظاهرة بدءا بفرض التعليم الإلزامي". لكن الموظف ابن مدينة الموصل غالب أحمد (30 عاما)، يعتبر أن الأجدى البدء بمحاربة رأس الهرم من "منظومات وعصابات تدير التسول وتستغل الأطفال". ويضيف "هذه الظاهرة تعد مشروعا للجريمة والإرهاب، وتخلق جيلا فاسدا مشوها نفسيا".

أمهات وسط الميدان

على صعيد تصل تحولت ساحة المنصة الواقعة في مدينة الموصل شمال العراق منذ استعادة المدينة من أيدي تنظيم داعش قبل نحو عام، الى موقع تجمع كل جمعة لسيدات يبحثن عن مصير مفقودين من عائلاتهن. نساء يرتدين ملابس سوداء ويرافقهن أطفالهن وبعض الرجال ويحملن صور "مفقودين" ، في مشهد يذكر ب"أمهات ميدان مايو" اللواتي فقدن أطفالهن في عهد الديكتاتورية العسكرية في الارجنتين (1976- 1983). حاولن الاقتراب من رئيس الوزراء المنتهية ولايته حيدر العبادي عند زيارته الموصل في آذار/مارس لكن عناصر حمايته حالوا دون ذلك.

لكل واحدة منهن مأساة، بينهن شيماء محمد التي تعيش مع أبنائها الستة على أمل العثور على زوجها علي أحمد الذي خطفه تنظيم الدولة الاسلامية بعد اقتحام منزلها في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، وعثرت عليه قوات الامن داخل سجن خلال معارك "تحرير" المدينة. أحمد الذي كان شرطيا وأصبح اليوم في الاربعينات من العمر، لا يختلف حاله عن آلاف العراقيين خصوصا ممن كانوا عناصر في قوات الامن اعتقلوا من قبل تنظيم داعش في الموصل التي اعلنها الجهاديون "عاصمة" ما يسمى "بدولة الخلافة" على مدى ثلاث سنوات.

وقالت شيماء (38 عاما) التي ترتدي حجابا أسود ورداء طويل من ذات اللون وهي متجهة الى ساحة المنصة، لقد "اعتقل زوجي (...) واحتجز مع آخرين واستخدموا كدروع بشرية خلال المعارك في غرب الموصل". وأضافت فيما اغرورقت عيناها بالدموع بقناعة كاملة ان "قوات الامن اعتقلته لانه لم يكن يحمل أي وثائق وكانت لحيته طويلة بسبب اعتقاله لفترة طويلة لدى داعش".

لم يصل شيماء أي تبليغ رسمي حول مصير زوجها، لكنها أكدت بانها "حصلت على معلومات تشير الى أنه معتقل في مطار المثنى" في بغداد حيث يعتقل عدد كبير من المشتبه بتورطهم ب"الارهاب". وأكدت مصادر أمنية عدم صحة هذه المعلومات وبانهم ابلغوا جميع عائلات معتقلي الموصل. من جانبه، قال القاضي عبد الستار بيرقدار المتحدث الرسمي لمجلس القضاء الاعلى في بيان أن "مضي سنتين على الفقدان في حوادث الأعمال الارهابية وإذا لم يعرف مصير المفقود خلالها يعد سببا كافيا للحكم بوفاة المفقود".

ويقول سامي فيصل مسؤول منظمة لحقوق الانسان في محافظة نينوى، كبرى منها الموصل، ان "عددا كبيرا من المفقودين أعدمهم داعش ورمى بجثثهم في حفرة الخسفة" الواقعة الى الجنوب من الموصل. ويرجح ان يكون موقع حفرة "الخسفة" السيء الصيت عبارة عن منخفض كبير ناجم عن احدى الظواهر الطبيعية ويعتقد الناس بانه حدث جراء سقوط نيزك في ذلك المكان الذي يعد أحد أكبر المقابر الجماعية في العراق واستخدمه الجهاديون لتنفيذ الاعدامات.

وأضاف فيصل انه وفقا لمعلومات قدمتها عائلات، هناك "1820 شخصا مفقودا، من كلا الجنسين ومن مختلف الشرائح الاجتماعية من عسكريين وموظفين وصحافيين وناشطين وغيرهم"، مشيرا الى انه من المستحيل معرفة عدد الذين ما زالوا على قيد الحياة . وقال انه بالاضافة الى هؤلاء "هناك ثلاثة آلاف و 111 إيزيديا مفقودا، نساء ورجال"، فيما عاد بعضهم الى عائلاتهم بعد سنوات من العبودية وسوء المعاملة.

بدورها، تعيش أم عبد الله خوفا متواصلا مما قد يحدث لابنها اذا كان على قيد الحياة، لان الجهاديين أجبروه وسجناء آخرين من عناصر الآمن على اعلان الولاء لتنظيم داعش الذي يعتبر تنظيما "ارهابيا" في العراق. وترى أم عبد الله (80 عاما)، بان ما يحدث للمفقودين عقاب قائلة، "اليوم، وبدلا من أطلاق سراحهم وتعويضهم عما لحق بهم يستمر حبسهم، وربما ستلفق لهم تهم الانتماء للارهاب ويعاقبون عليها". كثير من المفقودين، كانوا عناصر في قوات الامن أو موظفين حكوميين ويعتبرهم الجهاديون في كلا الحالتين موالين حكومة "كفر" كونهم ينتمون لحكومة شيعية.

والتقى أولياء هؤلاء المفقودين مع كثير من المسؤولين المحليين، كما ناشد نواب في البرلمان الجهات الحكومية للتدخل لمعرفة مصير هؤلاء، حسبما ذكر أبو لؤي. وأكد هذا الرجل العاطل عن العمل (56 عاما) انه يقضي كل وقته تقريبا في البحث عن ولديه اللذان اختطفا في الرابع من تشرين الاول/اكتوبر 2016، من داخل منزلهم على يد جهاديين مع "14 رجلا من نفس العائلة".

ولم يعرف أبو لؤي منذ ذلك اليوم ، مصير ولديه لؤي وقصي وبات الان مسؤولا عن تربية طفليهما، احدهما من ذوي الاحتياجات الخاصة والاخر يرفض الكلام منذ رؤية مشهد أختطاف والده. وذكر هذا الرجل بانه بعد اشهر طويلة من البحث والتحقق "تأكدنا انهم احياء ومعتقلون لدى القوات الامنية" وتابع "لا أدري حتى لماذا اعتقلوا". وتعيش أم لؤي (52 عاما) وسط حزن ودموع لا تنقطع وهي ترتدي عباءة سوداء مفترشة ارض منزلها الصغير في حي النبي يونس التاريخي وسط الموصل، بانتظار أي اخبار عن ابنائها الذين لم يبق منهم سوى صور وذكريات.

اضف تعليق