فرقة الخوارج وغيرها من الفرق المارقة؛ التي يدعون أن ولادتها ووجودها كان فوريا لحظويا، وجاء وليد اللحظة، كرد فعل على أمر ما استفزهم، إنما هو تضليل سياسي وإعلامي هدفه التغطية على دور السياسيين العرب الناهض في صنع تلك الفرق وتوظيفها، إذ ثبت لي بالدليل القاطع...
أشرت في كتابي نظرية فارسية التشيع إلى أن الإدعاء القائل بأن فرقة الخوارج وغيرها من الفرق المارقة؛ التي يدعون أن ولادتها ووجودها كان فوريا لحظويا، وجاء وليد اللحظة، كرد فعل على أمر ما استفزهم، إنما هو تضليل سياسي وإعلامي هدفه التغطية على دور السياسيين العرب الناهض في صنع تلك الفرق وتوظيفها، إذ ثبت لي بالدليل القاطع أن السياسيين العرب:
هم الذين حاربوا الإسلام في الطور المكي من عمر البعثة، ليس دفاعا عن أصنام يعرفون قبل غيرهم أنها لا تنفع ولا تضر، وإنما قاتلوه دفاعا عن مصالحهم الدنيوية، ومراكزهم الاجتماعية!
وهم الذين حاربوه في الطور المدني، ليؤسسوا لأنفسهم مواقع في داخله، تتيح لهم التحرك لهدمه، أو توظيفه ليخدمهم ويحقق طموحاتهم!.
وهم الذين أوحوا للعشائر في السنة الثامنة للهجرة لتُسْتنفر وتهب متوجهة صوب المدينة لتعلن إسلامها.
وهم الذين حاربوه بصور متنوعة على مر التاريخ.
وهم الذين كانوا ولا زالوا يحاربونه إلى الآن، بسبب تلك المواريث الجاهلية وبنفس أساليبها.
وكنت قد خصصت فصلا في كتاب "نظرية فارسية التشيع" وجزءً من أصل جزئين من كتاب "الحسن بن علي الإمامة المنسية" للحديث عن ذلك، وعن دور السياسيين العرب الكبير في تلك المراحل، وأشبعته بحثا، فثبت لي من خلال البحث والتقصي أن الأعم الأغلب من هذه الفرق إنما هي من صنع السياسيين أنفسهم، وأنها كانت حينما تُعلِن عن نفسها، أو يُعلنُ عنها؛ تكون في كامل الجهوزية، إعدادا وتدريبا وترتيبا، وعلى استعداد تام لأداء دورها المرسوم لها. ولذا تجدهم كما وصفهم رسول الله (صلى الله عليه وآله): "يخرجون على حين فرقة من الناس" حيث يستغل السياسيون فُرقة الناس، كما يحدث الآن في العراق وسوريا واليمن والبحرين وتونس، فيحركونهم كأدوات للقتل، مستغلين جهلهم وغباءهم.!
وبناء عليه، أقول: في الوقت الذي أشارت فيه مصادر التاريخ، وأجمعت على أن ولادة فرقة الخوارج، جاءت رد فعل لرفع المصاحف على الرماح في حرب صفين، ولاسيما بعد أن ظهر أن علي (عليه السلام) لم يعترف برفعها، بل وأراد من جنده أن لا يتهاونوا ولا يضعفوا بسببها، لأنها مجرد خدعة سياسية بنيت على مكر سياسي كبير، فحثهم على الاستمرار بالقتال حتى والمصاحف مرفوعة على الرماح!. وأن مجموعة من جيشه أغلبهم من القراء رفضوا التصديق بأقواله، ولم يأخذوا بها؛ فجاء ردهم كنوع من تعلقهم بالقرآن واحترامهم له، ورغبتهم في أن يكون الحَكَم بين المسلمين في الأزمات.
بسبب ما تقدم أرى أن ذلك الرأي يحتاج إلى المراجعة والتصحيح، فالوقائع والأدلة تثبت يقينا أن الخوارج كانوا موجودين ومنظمين ومرتبين ومهيئين لأداء دورهم في الوقت المناسب والمكان المناسب، وانهم كانوا خلايا نائمة في انتظار إشارة أسيادهم، فلما حان دور الإفادة منهم في أحلك أيام صفين، امروا بالظهور، فظهروا واعلنوا عن أنفسهم، وأدوا دورهم، فظن المؤرخون وغيرهم ظنا أن ظهورهم الذي بدا وكأنه مفاجئً ومن دون مقدمات؛ أنهم ولدوا مصادفة في تلك اللحظة الحاسمة، وهو أمر لا يتقبله العقل، ولا يمكن تصديقه، أو الركون إليه، ويراد من ورائه تسطيح الفكر الإسلامي. يثبت صدق رأينا، وصحة استنتاجنا؛ وجود مجموعة قرائن مهمة جدا، يُستنتج منها أنهم كانوا موجودين قبل تاريخ صفين، وقبل الجمل، وقبل الكثير من الأحداث الأخرى، ومن هذه القرائن:
أولا: ما يدل على وجودهم في عصر البعثة، وتكاد قصة "ذي الثدية" أن تكون أشهر من نار على علم، حيث حرص رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قتله لتخليص الأمة من شروره المرتقبة، ولكن اللذين أرسلهما النبي لقتله؛ انخدعا بوقوفه خاشعا يصلي فتركاه وعادا إلى مواضعهما، فأرسل النبي عليا ليقتله، فلم يجده في مكانه، فرجع. هنا تورد مصادر التاريخ المعتبرة ومنها الإصابة لابن حجر، وحلية الأولياء لأبي نعيم، والبداية والنهاية لابن كثير أن رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال بعد عودة علي (عليه السلام): "لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان"(1)
ذو الثدية هذا، هو: الخويصرة التميمي، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة، مستدركا على من لم يذكره في الصحابة، وأورد في ترجمته ما أخرجه البخاري من حديث أبى سعيد، قال: بينا رسول الله يقسم ذات يوم قسما، فقال ذو الخويصرة؛ رجل من بني تميم: يا رسول الله اعدل، فقال: "ويلك من يعدل إذا لم أعدل" (2)
وأخرجه مسلم أيضا: "إنكم لتخبروني عن رجل أن في وجهه لسفعة من الشيطان. فأقبل حتى وقف عليهم، ولم يسلم، فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله): أنشدك الله، هل قلت حين وقفت على المجلس: ما في القوم أحد أفضل مني أو خير مني؟ قال: اللهم نعم، ثم دخل يصلي، فقال رسول الله: من يقتل الرجل؟ قال أبو بكر: أنا. فدخل عليه فوجده يصلي، فقال: سبحان الله: أقتل رجلا يصلي؟ وقد نهى رسول الله عن قتل المصلين؟ فخرج، فقال رسول الله: ما فعلت؟ قال كرهت أن أقتله وهو يصلي، وقد نهيتَ عن قتل المصلين. قال رسول الله: من يقتل الرجل؟ قال عمر: أنا، فدخل، فوجده واضعا جبهته، قال عمر: أبو بكر أفضل مني. فخرج، فقال النبي: مهيم؟ قال: وجدته واضعا جبهته لله، فكرهت أن أقتله. فقال (صلى الله عليه وآله): من يقتل الرجل؟ فقال علي: أنا. فقال ( صلى الله عليه وآله ): أنت إن أدركته. فدخل عليه، فوجده قد خرج، فقال (صلى الله عليه وآله): "لو قتل ما اختلف من أمتي رجلان".
وفي أسد الغابة، عن الخدري، قال: قال ذو الخويصرة: يا رسول الله اعدل، فقال: ويلك ومن يعدل إذا لم اعدل. فقال عمر: ائذن لي فلأضرب عنقه، قال: "لا. إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية... يخرجون على حين فرقة من الناس"(3) فهذه الروايات تثبت وجود الخوارج في عصر البعثة، إذ لم يكن ذو الخويصرة وحده بدلالة قول النبي: "إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم".
ومن غرائب الدهر أن تجد "ذو الخويصرة" قد ذكر مع الصحابة، وهو ما دفع ابن حجر العسقلاني إلى القول: "ووقع في موضع آخر في البخاري، فقال: عبد الله بن ذي الخويصرة، وعندي في ذكره في الصحابة وقفة"(4)
وتجد له ذكر في فتوح العراق، ذكر الطَبري في حديثه عن فتح الأهواز سنة سبع عشرة أن عُتبة بن غزوان كتب إلى عمر يستمدّه، فأمده بحرقوص بن زهير، وكانت له صحبة؛ وأمرهُ على القتال على ما غلب عليه، ففتح سوقَ الأهواز(5). وحرقوص هو ذو الخويصرة نفسه، قال الزركلي: "حرقوص بن زهير السعدي، الملقب بذي الخويصرة: صحابي من بني تميم"(6).
والظاهر أن اثر وتأثير السياسيين لا زال فاعلا إلى يومنا الراهن، فهناك من يرفض الاعتقاد بوجود الخوارج في عصر البعثة، إذ جاء في موسوعة الفرق المنتسبة للإسلام، الباب السابع، فرقة الخوارج، قولهم: "وقد قال بهذا القول كثير من العلماء منهم: الشهرستاني وابن حزم وابن الجوزي، والآجري، إلا أنه ينبغي التفريق بين بدء نزعة الخروج على صورة ما، وظهور الخوارج كفرقة لها آراء وتجمع قوي.
فذو الخويصرة لا يعتبر في الحقيقة زعيماً للخوارج، لأن فعلته حادثة فردية- تقع للحكام كثيراً- ولم يكن له حزب يتزعمه ولا كان مدفوعاً من أحد" وهذا مخالف لما جاء في أسد الغابة عن الخدري، في قول النبي: "إن له أصحابا يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كمروق السهم من الرمية".
ثانيا: ما ذكره الطبري، عن محمد بن راشد، عن أبيه، قال: "كان من سيرة علي أن لا يقتل مدبرا ولا يُذفف على جريح، ولا يكشف سترا، ولا يأخذ مالا؛ فقال قوم يومئذ: يُحل لنا دماءهم، ويُحرم علينا أموالهم؟ فقال علي: "القوم أمثالكم، من صفح عنا فهو منا، ونحن منه، ومن لج حتى يصاب؛ فقتاله مني على الصدر والنحر، وإن لكم في خمسه لغنى" فيومئذ تكلمت الخوارج"(7) وهم إن كانوا قد تكلموا يوم الجمل، ووجد هناك من شخصهم وأشار إليهم، فهذا دليل على وجودهم قبل هذا التاريخ، ودليل على معرفة الناس بهم وبوجودهم.
ثالثا: هناك قرينة أخرى لا تقل أهمية، وهي عبارة عن تصرف غريب بدر من واحد منهم، أظنه أخطا في التوقيت، وهو "عروة بن أدية التميمي"؛ الذي صاح قبل أن يجتمع الحكمان في صفين: "لا حكم إلا لله" ظنا منه أن ذاك وقتها(8)، بينما المعروف أنهم وقتوا لإطلاق هذا الشعار السياسي الكبير في مرحلة ما بعد التحكيم تحديدا، وليس قبله، وبعد أن يجبر الإمام على قبول شروط التحكيم المجحفة، فيطلقونه كرفض لهذا القبول المنتظر، ليثيروا الفتنة في صفوف جيش الإمام! وهذا يثبت أن الخوارج كانوا موجودين ومنظمين ومهيئين للعب دور خطير، ويثبت أن موضوع رفع المصاحف على الرماح لم يكن هو الآخر وليد لحظته بل كان ضمن المخطط السياسي لوقائع وصفحات الحرب مع علي! بمعنى أنه كان صفحة قد أعدت سلفا لاستخدامها في مرحلة ما من مراحل الحرب، وهذا ينبيك أن العقل السياسي العربي كان عقلا متقدما على زمانه!
هنا قد يقول قائل: لو كان هذا صحيحا، فلماذا لم ينصرهم جماعتهم يوم رأوا أنهم أحيط بهم، وسوف يقتلون بسيف الخليفة علي وسيوف جيشه في النهروان عن آخرهم، فتركوهم يواجهون مصيرهم الأسود دون عون ومساعدة؟
وهذا سؤال مثمر منتج، أقول جوابا عليه: إن تجميع وتجنيد القراء ضمن هذا التنظيم لم يكن عملا اعتباطيا، وإنما كان عملا سياسيا فريدا أعتمد على تجميع أنموذجات من المسلمين الأكثر التصاقا بحرفية العقيدة، السادرين في فهم العقيدة فهما نمطيا محاكاتيا تقليديا جامدا، من الذين يربطهم مع بعضهم كرههم الخضوع إلى السلطان وإلى الحكم المركزي؛ بسبب تجلي النزعة القبلية البدوية في مبادئهم السياسية(9) وكرههم لتسلط قريش دون غيرها عليهم، وكانوا يناضلون للتخلص من الحكم القرشي. والظاهر أن العقل السياسي العربي رصد فيهم هذه النزعة، ونجح في توظيفها، لتقديمهم إلى المحرقة في الوقت المناسب بعد أن يزج بهم لأداء أحد الأدوار القذرة في المؤامرة ضد أمير المؤمنين، بما يضعهم بمواجهة قوات الخلافة لإضعافها وإنهاكها، ومن ثم التخلص منهم ومن المشاكل التي قد يثيرونها مستقبلا للمتآمرين أنفسهم الذين لم يكن في نيتهم الاهتمام بالجوانب الدينية التي يدقق بشأنها مثل هؤلاء المتزمتين.
طبيعة هؤلاء القراء النمطيين التقليديين المتمسكين بالقشور دون اللب فضلا عن كونها تدل على سذاجتهم وسهولة انقيادهم لمن يخدعهم، فهي تشبه إلى حد كبير طبيعة المسلمين المتطرفين المعاصرين، بل قد يكون هؤلاء حملة فكر من سبقهم من القراء، فأولئك بعد الحوار الذي أجراه الإمام علي بن أبي طالب معهم قبل أن يحاربهم وبعد أن ذكَّرهم بالقرآن والسنة وحدودهما الصحيحة، أدركوا خطأهم و"رجع إليه منهم ألفان، وأقام أربعة آلاف لم يقنعوا برأيه"(10) أما المعاصرون منهم، بكل تشكيلاتهم (الجهادية والحديثية) فلا يمكن إقناعهم أبدا، ولا ينفع معهم إلا السيف، وهذا ما يجب أن تستعد له الدول والحكومات ونعمل به!
أما مسألة تركهم ليموتوا بذلك الشكل المهين رغم كبر دورهم، فلا يقل أهمية في نظر السياسيين أنفسهم عن دور الفتنة التي أثاروها، وليس غريبا أن تجد الدول العظمى، تقوم بدعم وتقوية الإرهابيين لا لتغيير أنماط الحياة الإسلامية نحو الأحسن، كما يفهم البعض، وإنما لتدميرها سواء نجح الإرهابيون بذلك أم لم ينجحوا، وهم كما يقولون في وصفهم لجموع الإرهابيين: "خلق ليفنى" أي خلق لأداء دور ما ينسب إليه، ولا فرق بين موته وحياته بعد ذلك، بل إن موته أفضل من بقائه، ولذا تجدهم يسهمون في قتال الخوارج ليتخلصوا منهم أو ليضعفوهم، كما تفعل أمريكا والدول الغربية اليوم مع الدواعش، فهي من جانب تدعمهم، وتحدد وتقيد حراك من يريد محاربتهم، ومن جهة أخرى ترسل طائراتها وجنودها لمحاربتهم وإضعافهم، لكي لا يتمردوا عليها، ويبقون تحت سيطرتها تحركهم كيفما تشاء، فالفتنة التي أثاروها أثمرت، فحطمت عرى التقارب الإسلامي، وشوهت صورة الإسلام في العالم كله، وهو الدور نفسه الذي لعبوه قديما، فحروب الجمل وصفين والنهروان، وحرب الإمام الحسن ومقتل الإمام الحسين(عليهم السلام) ومقتل زيد ويحيى وقتل أبي حنيفة النعمان وغيرها من مجازر التاريخ الإسلامي الأخرى التي طالت الجميع، إنما هي محطات أريد منها تنقية الأجواء للسياسيين عن طريق التخلص من كل المنافسين الأصليين والمحتملين، والذين سيرفضون المشروع التآمري، وعليه قدمت صفين وحدها إلى الموت أكثر من سبعين ألف مسلم موحد منهم خمسة وأربعون ألفا من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفا من أهل العراق، وفي هؤلاء الكثير من الصحابة ومن أهل بدر!. واستمر تأثيرها فاعلا قويا عبر التاريخ إلى درجة أنها قدمت لنا في عصرنا الراهن القاعدة وداعش وجبهة النصرة والحركات المتطرفة في جميع المذاهب، وهؤلاء بمجموعهم هم الذين تسببوا بقتل مئات الألوف من البشر غالبيتهم من المسلمين، متبعين نفس منهج الخوارج القديم، تحركهم الأصابع نفسها التي كانت تحركهم عبر التاريخ.
اضف تعليق