الساعة الرابعة صباحا بتوقيت بغداد، نسجت خيوط الفجر الأولى لوحة الفجر الصادق في سماء المدينة الظلماء، بإمكان هذا الصباح أن يغير ما جاء به الليل، من سواد وظلم، هكذا كانت أمنيات أهل المدينة، الجميع ينتظر ذلك الفجر، ولم تكتمل لوحة الرسم حتى هذه الساعة.
كنت أقف عند النافذة انظر الى إبداع الخالق في رسم هذا الكون، اليوم بدأت افقد نعمة النظر الى السماء وما عليها، ليس لأنني فقدت البصر، بل لأنني فقدت حريتي وهويتي وكل شيء كان معي، في هذا المكان الموحش من الصعب ان تعرف الليل من النهار، حتى التوقيت هنا مختلف تماما عن توقيت مدينتي، لحظة تشعر انك هاجرت وأنت في مكانك، اللغة مختلفة، الوجوه مختلفة، الديانة، لا اعرف كم شخص موجود معي في هذه الحجرة، ولا أتمكن من معرفتهم، من صوت أنفاسهم تعرف ان الحجرة ممتلئة، أصوات التعذيب التي كنت اسمعها، الرصاص، صوت السكين وهي تقطع الأشلاء، السلاسل وهي تضرب، الكرسي وهو يسحب من تحت القدم، فقدت البصر لكنني لم افقد البصيرة، كل يوم كانت أصوات الأنفاس تقل من الحجرة، وهذا الأمر كان يخيفني جدا، يشعرني أنني اقتربت من أدواتهم، وقد أكون يوما عند منصة الإعدام او السكين.
الأنفاس أصبحت شبه معدومة، قد لا نتجاوز العشرة أشخاص بعدما كان المكان مكتظاً، تقدمت خطوة الى الخلف، سمعت أصوات قادمة نحو الزنزانة، ازرقت قدمي وسقطت من الهول، جلست في مكان السقوط، رافعا رأسي نحو الأعلى، جسدي يرتعش، جرس الخوف يضرب في كل جسدي، أحاول أن أتجاهل الأمر، ألم الخوف من الموت يهاجمني، أتمتم مع نفسي ولم افهم تلك التمتمات كأنني أتكلم بلغة لا يعرفها لساني، قطرات تبلل قدمي، لا أستطيع تمييزها ان كانت ماء او دماً، الظلام شديد، زفرات أنفاسي تلهب نسمات الهواء فتردها جمرة.
لا نعرف أوقات اليوم ما نعرفه هو وقت الصلاة فقط، عندما يأتون لنا لإقامة الصلاة، وللاستماع إلى محاضرات التي تتحدث عن حكم الله وحكم الأمير، وكيف تكون الدولة الإسلامية، ومبايعة الخليفة، أصواتهم كانت مزعجة جدا، وهم يتحدثون عن الدين وأفعالهم بعيدة عن الدين والإسلام، الجميع يصمت أمام هذه الخطبة، لا يمكنك أن ترفض ما يقولون او تفعل ما يخالف قوانينهم، وأعلن شيخهم ان المبايعة تكون يوم الجمعة بعد صلاة الظهر تحت إمارة الموصل، وعلى جميع السجناء المبايعة او الإعدام، اي يوم من الأسبوع هذا أهو الأحد أم الأربعاء، لا احد يعرف جميعنا ننتظر يوم الجمعة.
بدأت علامات الموت تقترب هكذا كنا نشعر، حتى ان احد السجناء قد مات من الخوف، ورفضوا ان تخرج الجثة، رائحة الموت تفوح من المكان، اقترب مني احد السجناء وهو يلمس لجدار بيده ويتفحص قدماه خوفا من السقوط، اقتربت منه وأمسكت يده، لحظة شعرت ان احدهم يشاركني في المصيبة، اتكأ على يدي وقال لي: قد تكون آخر أيام عمري أرجوك إصغ لي جيدا، انقطع نفسه، وكتم أمره، بعد لحظات عاد لي الطلب، مررت يدي على ملامحه لعرف ان كان شيخا او شابا، ثمة تجاعيد كثيرة في وجهة، وشيبة لم أتمكن من رؤيته ان كانت بيضاء او سوداء، أحسست أن عليّ ان افعل شيئا اتجاه هذا العجوز، انتظرت متى تهدأ الأنفاس لكمل حديثي معه، فانا أيضا بحاجة الى الفضفضة، الوقت ثقيل جدا، ألملم بقايا ذكرياتي واجعلها في خزانة ذاكرتي الشاحبة، التي تكاد أن تسمع أنينها، آهاتي وحسرتي تحرق من حولي، اغتالت أحلامي وأنا في العشرين من عمري، همس لي ذاك العجوز وقال لي:
- كم عمرك.
أجبته بصوت منخفض جدا:
- عشرون عاما.
قال:
- انت بعمر ولدي شهاب (صوته كان مذبوحا) شهاب قتلوه وقطعوا يده وسحبوا جثته في الأسواق.
بكى كثيرا.
اجبت: لماذا يا عم قتلوه .
- شهاب كان رياضيا ويشجع المنتخب الأرجنتيني، ويلعب في الساحة مع أبناء المنطقة كل يوم، حتى جاء ذاك اليوم الأسود وحكموا فيه، طلب منه الأمير ان يترك كرة القدم لأنها حرام وتغضب الله، وحاولوا معه كثيرا أن يمنعوه من لعب فشلت كل محاولاتهم، وكان مستمر في لعب، في الصباح طرق الباب احد جنودهم وعلق على دارنا هذا البيت تابع الى دولة الإسلامية، اخرجوا من الدار بملابسه، بعد ساعات نصبوا منصة في الساحة وجاؤوا يطرقون الطبول ويرتلون التكبيرات، ساقوا ولدي في الأسواق، ضربوه حتى ازرق جسده، وأدمت عيونه، خصلات شعره كانت متفحمة، لم يكتفوا بهذا فقد رفعوا على المنصة الساحة حتى يمتنع الشباب من كرة القدم، وبعدها أطلقوا عليه الرصاص وسحبوا جثته في الأسواق، دموعه متحجرة وغصة تقطع نياط قلبه.
انسحبت منه وكان جسدي تعرض لصدمة كهربائية، ينخر عظامي، توجه نحوي العجوز وهو مازال يكمل حديثه، لا تخف يا ولدي هذا قدر شهاب مات شهيدا.
- ما الذي جاء بك هنا وأنت في أرذل العمر.
- لي أخ كبير يعمل إمام جامع في المدينة، طلب مني أن اعمل معه في تنظيم دولتهم، رفضت وتشاجرت معه، بعد ثلاثة أيام وجدت نفسي هنا .
- أخوك من فعل هذا .
- نعم اخي المنصب والأموال جعلته يقتل ويسجن أخاه من اجل امارة الموصل والنساء، وأنت يا ولدي لم تقص علي قصتك؟.
- أنا لا اختلف كثيرا عن شهاب أيها العم، اسمي (محمد) اعمل حلاقا، لأنهم يرفضون الجمال حاربوني، أغلقوا المحل، وطلبوا من الشباب عدم حلق لحية والشعر، وتقليد الأجانب، وان من يقلدهم يسجن او يعذب، قطعوا رزقي، الشباب كانوا يأتون الى داري ويطلبون مني ان ارتب شعرهم، وصل الخبر الى الأمير، هدموا دارنا وأخرجوني معصب اليدين مغلق العينين، والى هذا اليوم لا اعرف عن عائلتي اي شيء.
سار الصمت بينا، استجمعت ما تبقى لي من قوة وحسبت خوفي داخل جسدي حتى لا انهار، أخذني شعور جارف نحو الهاوية، الأيام بطيئة جدا، كأنك تمسك قارورة فيها باقي أيامك، لم اشعر بالجوع او العطش، فالوجع تسلل الى أنحاء جسدي، فتحت باب الزنزانة، اقتربوا من العجوز، هم يقتربون وهو يبتعد عنهم، خائفا يترقب أخاه لينقذه، أغلقت الزنزانة، اختفت أنفاس العجوز، بحثت عنها في الزنزانة، لا أجد غير رائحة الدم.
بعد ثلاثة أيام أخرجونا من تلك الظلمة الموحشة لمبايعة الخليفة عرفت في وقتها أن اليوم يوم الجمعة، لا أستطيع أن افتح عيني أمام ضوء الشمس فهذه المرة الأولى التي أرى فيها الضياء، أمام الملأ وقف رجل لا يتجاوز الأربعين عاما، يرتدي الزي العربي، وعلى يمينه حراس وعلى شماله حراس، خطب خطبة استلام الولاية وقال اعلموا يا قوم إنني اطلب منكم ان تعاهدوني على الالتزام بقوانين دولتنا ألا وهي:
- يمنع خروج النساء الى الأسواق.
- يمنع استعمال الانترنت في البيوت.
- تغلق المقاهي والمطاعم ليلا.
- يحرم تقليد الغرب في كل شيء من الحلاقة الى الملابس.
- يحاسب كل من يتصل بقوات الجيش او يتعاون معهم.
- إباحة بيوت الرافضة وجعلها مذاخر لكم.
- تزوجوا فهذا يعتبر جهاد أيضا (جهاد النكاح).
- منع كرة القدم، والمشروبات الغازية، وبيع الملابس النسائية في الأسواق.
- علموا أولادكم القتال.
- تغير المنهاج المدرسي وتبديله.
- تغير العملة المحلية واستبدالها.
- من يبايع فهو معنا ولم يبايع يذبح هو وعائلة.
هذه قوانين الدولة ومن يخالف هذه القوانين سيدفع ثمن المخالفة، هل سمعتم؟.
نعم أيها الأمير.
أطلقوا يدي، بعدما قلت نعم، بحثت بين الواقفين عن ذاك العجوز، أرسلتُ نظري الى من حولي، لم أجده، سمعت ان الأمير الذي كان يخطب هو اخ العجوز، وانه قتل أخاه العجوز ورمى جثته في النهر، أحزنني كثيرا هذا الخبر، وجعلني اشعر ان جثتي ستطفو احد الأيام في النهر كما هو حال العجوز.
لكن إرادة الله كانت تختلف فقد نجوت من الموت المحتم، كنت مختبئا في بيت قديم بعد القصف الجوي الذي استهدف المدينة وأدى إلى مقتل الأمير والحرس، الأمر الذي دفع التنظيم إلى قتل الموجدين او جعلهم دروعا بشرية.
تناول الأعلام أخيرا قضية السجناء عند داعش حسب ما نشرته قناة الحرة "قالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان رافينا شمداساني، الجمعة، إن مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" أعدموا المزيد من الأشخاص في مناطق محيطة بالموصل هذا الأسبوع، وإن هناك تقارير عن تخزينه كميات من الأمونيا والكبريت في مواقع مدنية ربما لاستخدامها كأسلحة كيمائية.
وأضافت شمداساني: استنادا إلى معلومات من مصادر على الأرض، أن مقبرة جماعية تحوي أكثر من 100 جثة في بلدة حمام العليل ما هي إلا واحدة من ساحات عدة نفذ فيها التنظيم عمليات قتل، وتُنفذ عمليات إعدام علنية لاتهامات "بالخيانة والتواطؤ" مع القوات العراقية، التي تحاول استعادة الموصل، أو بسبب استخدام الهواتف المحمولة التي يحظرها التنظيم أو لمحاولة الفرار.
وقالت شمداساني إن التنظيم نشر في طرقات البلدة القديمة في الموصل أفرادا يرتدون أحزمة ناسفة، ووزع نساء مختطفات على مقاتليه أو أبلغهن بأنهن سيرافقن قوافله".
اضف تعليق