تعاني ألمانيا اليوم من مشكلات وأزمات كبيرة ومنها تفاقم العمليات الإرهابية وارتفاع أعمال العنف التي تقوم بها بعض الأحزاب والشخصيات اليمينية المتطرفة، والتي ازدادت في الفترة الأخيرة بعد ان استقبلت ألمانيا أعداد كبيرة من المهاجرين. وهو ما اجبر السلطات الألمانية على اتخاذ إجراءات أمنية جديدة شملت تكثف تحرياتها في عموم البلاد، واعتقال العديد من الأشخاص ممن ينتمون لتنظيم داعش الإرهابي او الأحزاب اليمينية المتطرفة. ويرى بعض الخبراء ان سبب زيادة حجم المخاطر الإرهابية في المانيا وغيرها من الدول الأوروبية، يعود الى الهزائم الكبيرة والمستمرة التي مني بها تنظيم داعش في الشرق الأوسط، حيث يسعى هذا التنظيم الى البحث عن بدائل لإثبات حضوره، على الأقل في وسائل الإعلام المختلفة.
هذه الإعمال وغيرها أسهمت أيضا في تفاقم ظاهرة جرائم الكراهية، التي اصبحت تطال الأفراد والمراكز الدينية، وبدأت تثير قلق الجالية المسلمة في ألمانيا، خصوصا وان المجموعات اليمينية المتشددة قد سعت هي الاخرى الى الاستفادة من جرائم تنظيم داعش الارهابي من اجل إثارة الشارع ضد الاقليات المسلمة والمهاجرين بشكل عام. وقد اكدت بعض التقارير الرسمية ان المانيا تعيش حالة غير مسبوقة من معاداة الأجانب والمسلمين، إذ ارتفعت الأعمال المعادية لهم بشكل ملفت في السنوات الأخيرة.
وبخصوص ظاهرة "الإسلاموفوبيا" شهدت ألمانيا ارتفاعاً ملحوظاً فيها، إلى جانب مشاعر العداء تجاه المهاجرين في السنوات الماضية، ويعزى ذلك بالأساس إلى الدعاية المغرضة، التي تروج لها الأحزاب الشعبوية في البلاد، بعدما استغلت أزمة اللاجئين أسوأ استغلال لتذكية الكراهية والتعصب في البلاد، ونتيجة لذلك ارتفعت أعمال العنف والاعتداءات على مراكز إيواء اللاجئين، خاصة في غرب ألمانيا، كما تزايدت الاعتداءات على دور العبادة الإسلامية. تجدر الإشارة إلى أن ألمانيا، التي يبلغ عدد سكانها 81 مليون نسمة، تعيش بها ثاني أكبر جالية مسلمة في أوروبا، ويقدر عدد المسلمين بحوالي أربعة ملايين نسمة.
هجمات محتملة
وفي هذا الشأن قال مسؤولون أمنيون كبار بالحكومة الألمانية إنه ينبغي التأهب للتصدي لمزيد من الهجمات في ظل تزايد عدد المتشددين الإسلاميين المحتملين وتعهدوا بتكثيف الجهود لمحاكمة وإدانة وترحيل المشتبه بهم. وقال هانز جيورج ماسن رئيس جهاز المخابرات الداخلية الألمانية (بي.إف.في) إن متشددين إسلاميين نفذوا خمسة هجمات في ألمانيا العام الماضي منها هجوم في ديسمبر كانون الأول على سوق لهدايا أعياد الميلاد في برلين أودى بحياة 12 شخصا فضلا عن فشل أو إحباط سبع هجمات أخرى.
وقال ماسن للصحفيين "ينبغي أن نتوقع هجمات أخرى ينفذها أفرد أو جماعات إرهابية". وتابع يقول "الإرهاب من قبل إسلاميين أكبر تحد يواجه الجهاز ونراه واحدا من أكبر التهديدات التي تواجه الأمن الداخلي الألماني". وذكر تقرير وكالة المخابرات السنوي للعام 2016 أنه يوجد 24400 إسلامي متشدد في ألمانيا بينهم نحو 9700 سلفي وأن عدد السلفيين زاد إلى أكثر من عشرة آلاف في العام الجاري. وأوضح التقرير أن العدد الإجمالي يشمل نحو عشرة آلاف عضو في حركة مللي جوروش الإسلامية التركية. وأضاف أن مئات "الجهاديين" دخلوا البلاد بين أكثر من مليون مهاجر استقبلتهم ألمانيا خلال العامين الماضيين. بحسب رويترز.
وقال وزير الداخلية الألماني توماس دي مايتسيره إن مسؤولي الأمن يراقبون نحو 680 متشددا يشكلون مصدر تهديد محتمل وأغلبهم متأثرون بالفكر السلفي. وأضاف أن ألمانيا كثفت بشدة جهودها لمكافحة التشدد حيث شهد العام الماضي عددا قياسيا من عمليات الاعتقال والمحاكمات والترحيل لمشتبه بهم. وقال ماسن إن التقديرات تشير إلى أن 930 شخصا غادروا ألمانيا للقتال إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق نحو 20 بالمئة منهم نساء. وذكر أن التقديرات تشير إلى مقتل 145 إجمالا من هؤلاء.
ارتفاع العنف
الى جانب ذلك أفاد تقرير مخابراتي أن أعمال العنف التي يقوم بها النازيون الجدد وغيرهم من الجماعات اليمينية المتطرفة ارتفعت بنسبة 14 بالمئة إلى 1600 في عام 2016 فيما يعكس تصاعدا مطردا في المشاعر المعادية للمهاجرين التي أثارها وصول أعداد كبيرة من المهاجرين منذ عام 2014. وأورد التقرير السنوي لجهاز المخابرات الداخلية الألماني (بي.إف.في) تقديرات بأن 12100 شخص يتبنون آراء اليمين المتطرف في ألمانيا يعتبرون مستعدين لارتكاب أعمال عنف بزيادة بنحو 300 شخص أو بنسبة 2.5 بالمئة عن عام 2015.
وقال التقرير "نرى تطرفا واضحا في الجوهر وفي أسلوب الخطابة فيما يتعلق بقضايا اللجوء من المتطرفين من أقصى اليمين". وأضاف أن استخدام مواقع التواصل الاجتماعي زاد بشدة من انتشار وتأثير هذه المجموعات. وتابع التقرير "الخطر الذي يمثله اليمين المتطرف في ألمانيا يظل على مستوى مرتفع". بحسب رويترز.
وفي وقت سابق قضت محكمة بسجن أربعة يمينيين متطرفين لمدد تصل إلى خمس سنوات لتشكيلهم "جماعة إرهابية" لها أغراض تتعلق بالعنصرية ومناهضة السامية والتخطيط لشن هجمات على المهاجرين. وارتفع إجمالي عدد جرائم اليمين المتطرف إلى نحو 23555 في عام 2016 في حين انخفضت جرائم اليسار المتطرف بنسبة 2.2 بالمئة إلى 9389 وفقا لإحصاءات الشرطة التي أصدرتها الحكومة في أبريل نيسان.
مزيد من التطرف
على صعيد متصل تعرضت فراوكه بيتري الزعيمة المشاركة لحزب البديل من أجل ألمانيا لهزيمة محرجة عندما رفض مشاركون في اجتماع حزبي مناقشة اقتراحها للتحول نحو "التيار السائد" مما يدفع بالحزب اليميني إلى مزيد من التطرف. وتراجع التأييد للحزب، المنبوذ في الحياة السياسية الألمانية، خلال الشهور الماضية وانقلب آلاف الألمان على موقف الحزب المناهض للمهاجرين. وصدمت بيتري الوجه الأشهر للحزب مؤيديه عندما أعلنت أنها لن تقود حملته للانتخابات الاتحادية المقررة في 24 سبتمبر أيلول.
واقترحت إعادة توجيه الهوية المؤسسية للحزب والسعي للانضمام إلى ائتلافات أخرى بعد انتخابات 2021 بدلا من البقاء في المعارضة "بشكل أساسي". وترفض كل الأحزاب العمل مع حزب البديل من أجل ألمانيا. وقالت بيتري بعد التصويت ضد اقتراحها إن الحزب "أخطأ" مضيفة أن من يعرفون الحزب منذ إنشائه في عام 2013 يدركون "تماما أن عدم وجود استراتيجية" له كان سببا في الكثير من الانقسامات الداخلية. بحسب رويترز.
وقالت "مادام الحزب لا يوضح الاتجاه الذي يريد السير فيه فإن من يستطيعون التكيف مع هذا الوضع هم أكثر قدرة مني على قيادة تلك الحملة الانتخابية". وقال متحدث باسم الشرطة الألمانية لتلفزيون (إن.تي.في) إن عددا يتراوح بين 10 و15 ألفا من المحتجين تظاهروا ضد اجتماع حزب البديل من أجل ألمانيا في كولونيا وهو عدد أقل بكثير من الذي كان متوقعا وهو 50 ألفا. وأصيب رجلا شرطة وأضرمت النار في سيارة للشرطة خلال الاحتجاجات. كما صوت المشاركون في اجتماع الحزب لصالح تشكيل فريق من المرشحين الوطنيين للحملة الانتخابية رغم تحذير بيتري من هذه الاستراتيجية.
إصلاحات في الجيش
في السياق ذاته يواجه الجيش الألماني فضيحة بعد أن اعتقلت الشرطة ضابطا بعد ظهوره بهوية غير حقيقية كطالب لجوء ربما سعيا لتنفيذ هجوم وإلقاء اللوم فيه على المهاجرين. وأثارت القضية عمليات تفتيش لكل ثكنات الجيش الألماني بحثا عن الفكر النازي. وفي يناير كانون الثاني عام 2014 رفض قائد أكاديمية عسكرية فرنسية رسالة الماجستير التي تقدم بها ضابط من قوات النخبة في الجيش الألماني يعمل تحت إمرته بسبب تطرف ما جاء فيها من أن حقوق الانسان قد تؤدي إلى إبادة الأجناس الغربية. وقال القائد لقادة الضابط الألماني الشاب "لو كان مشاركا فرنسيا في الدورة لكنا استبعدناه".
وقال أكاديمي اختير لمراجعة رسالة الماجستير لكبار الضباط في الجيش الألماني إن الرسالة تتضمن محتوى عنصريا وقوميا متطرفا لكنهم اختاروا ألا يخضعوا الضابط الشاب لإجراءات تأديبية رسمية لأنهم لا يريدون تعريض الحياة المهنية لضابط طموح للخطر. وكان هذا التساهل مخالفة للقواعد الألمانية التي تقضي بضرورة قيام المخابرات العسكرية بالتحقيق في أي بلاغ عن تطرف في صفوف الجنود على الفور.
والآن أصبح الضابط الشاب الذي يشار إليه باسم فرانكو إيه رهن الاعتقال في انتظار توجيه اتهامات له بانتحال شخصية مزيفة لشخص يطلب اللجوء. ويتحرى المحققون ما إذا كان قد خطط لشن هجوم يبدو أنه كان يأمل إلقاء مسؤوليته على طالبي اللجوء. وقالت أورسولا فون در ليين وزيرة الدفاع في مقابلة تلفزيونية وهي تصف السيناريو المروع "كان هجوم سيقع. وكان سلاح سيوجد في الموقع وعليه بصمات. وكنا سنفحص البصمات الموجودة في النظام وكنا سنجد بصمات تضاهيها للاجئ سوري."
وتفجر الأمر ليصبح فضيحة متكاملة الأركان عن تطرف يميني في صفوف الجيش أدى إلى تفتيش كل ثكنات الجيش الألماني بحثا عن الرموز التذكارية النازية. وفرضت تلك القضية ضغطا على حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وبعد تجاهل تحذيرات القائد الفرنسي لم يكتشف أمر فرانكو إلا من خلال بلاغ من الشرطة النمساوية عندما ضبطته يحاول استعادة سلاح محشو خبأه في دورة المياه بمطار فيينا بعد حفل للضباط.
واكتشفت السلطات الألمانية بعد ذلك حصوله بوسائل احتيالية على ألف طلقة من الذخيرة الحية من مخزونات الجيش وتخبئتها لدى شريك له عمره 24 عاما. وأسفر التفتيش في ثكناته بفرنسا عن العثور على صلبان معقوفة وتذكارات أخرى تخص الجيش أيام الحرب العالمية الثانية. ويعكف مدعون على فحص سجلات الدردشة والملفات الموجودة على هاتفه المحمول وجهاز الكمبيوتر الخاص به بحثا عن أدلة على وجود شركاء آخرين له.
وعندما أعيد تأسيس القوات المسلحة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية تبرأت من أي صلة تربطها بفترة الحرب والتي شارك فيها الجيش في كثير من الفظائع النازية. وكان الغرض من تأسيس الجيش الجديد في عام 1955 أن يكون ديمقراطيا مؤلفا من جنود مواطنين لديهم الاستقلال والثقة لرفض الأوامر غير الأخلاقية. غير أن الالتزام المدني طغى عليه فيما يبدو في حالة فرانكو، الاستثمار المسبق في جندي تدل الشواهد على أنه نموذجي اختير مع عدد قليل من المجندين الواعدين للدراسة في أكاديمية عسكرية مرموقة في فرنسا.
وقالت وزيرة الدفاع في خطبة ألقتها أمام كبار الضباط الألمان "عندما تقول رسالة الماجستير التي أعدها أن الهجرة تؤدي إلى الإبادة الجينية للشعوب الغربية فيجب أن يكون واضحا للجميع أننا نتعامل مع أفكار نازية". ولم يصدر قرار بعزل فرانكو بل تم توجيه تحذير شفهي له وسمح له بإعادة كتابة الرسالة. وبعد حصوله على الماجستير عين في اللواء الفرنسي الألماني في إيلكيرش وهو وحدة مرموقة ترمز للتقارب بين البلدين بعد عدائهما في الحرب العالمية.
وفي الوقت نفسه سجل اسمه بهوية مزيفة كطالب للجوء باسم ديفيد بنجامين وقدم نفسه لسلطات الهجرة على أنه لاجيء يتعرض للاضطهاد ويتكلم بالفرنسية ويعرف بعض كلمات اللغة الألمانية. وكان ينتقل بوسائل المواصلات من القاعدة في فرنسا لحضور جلسات اللجوء التي كان يتحدث فيها من خلال مترجم. وقد واجهت جيوش كثيرة مشاكل في اجتثاث المتطرفين اليمينيين من صفوفهم. لكن الماضي يجعل هذا الأمر ذا حساسية بالغة بالنسبة للجيش الألماني.
ومنذ الحرب العالمية الثانية اعتبرت الحكومات الألمانية المتعاقبة الالتزام بحقوق الإنسان ومعارضة التطرف عنصرين أساسيين في التكفير عن جرائم ألمانيا النازية وإعادة بناء ثقة الحلفاء. وتم ذلك بسهولة في وقت كان الجيش الألماني نادرا ما يقوم فيه بمهام خارجية وكان أغلبها المشاركة في مهام حفظ السلام. غير أنه يتعين البت في اختيارات صعبة في ضوء مطالبة الحلفاء الآن أن تتحمل ألمانيا صاحبة أكبر اقتصاد في أوروبا قدرا أكبر من العبء الأمني في القارة.
برفض الماضي الموصوم يحرم الجيش الألماني نفسه من البعد التاريخي الذي يتيح لجيوش أخرى محاربة أن تستخدمه في خلق روح الجماعة. وبالنسبة لزملاء فرانكو من الضباط كانت الصور المعلقة على الحائط في قاعة الطعام لجنود يرتدون ملابس قتالية، تدرك العين الخبيرة أنها من أيام جيش الحرب، إقرارا مسموحا به بالتقاليد. غير أن القواعد الألمانية تقضي بغير ذلك وقد حصلت وزيرة الدفاع على دعم من أطراف من بينها ميركل لما تعهدت به من الوصول إلى الحقائق فيما حدث من إخفاق وأدى إلى التغاضي عن تطرف فرانكو.
وأمر مدعون بتفتيش كل ثكنات الجيش الألماني بحثا عن رموز مماثلة. وذكرت وسائل إعلام رسمية أن غرفة فرانكو كانت تزدان بنذر رهيبة من بينها صلبان معقوفة. وقال فولكر فيكر قائد القوات المسلحة الألمانية في مقابلة تلفزيونية "صورتنا لحق بها ضرر من هذه الوقائع". وبعد أن تعرضت وزيرة الدفاع في البداية لانتقادات بسبب الإدانة الشاملة للقوات المسلحة للتساهل مع التطرف اعتذرت الوزيرة وأشادت بأعمال أغلبية رجال القوات المسلحة البالغ عددهم 250 ألفا. وقد وجد الجيش تعاطفا من أطراف غير متوقعة. بحسب رويترز.
فقد قال توبياس فلوجر نائب رئيس حزب اليسار الداعي للسلم إن الجنود يطلب منهم المستحيل بأداء دور أوروبي أنشط وفي الوقت نفسه رفض الماضي العسكري لألمانيا. وأضاف "إذا أرسلت الآن دبابات ألمانية إلى الحدود مع روسيا في ليتوانيا فلا يمكنك أن تنسى التاريخ" مشيرا إلى دعوات تطالب حلف شمال الأطلسي بحماية دول البلطيق الحليفة من روسيا. وقال "فالدبابات الألمانية كانت هناك من قبل وفعلت شيئا هناك. ثمة مسؤولية تاريخية وعلى ألمانيا أن تتوخى الحذر بشدة".
اضف تعليق