تقول تجربة العنف التي شهدتها بلدان عربية عديدة أنه كان لمثقفي السلطة دور لايقل خطورة عن أجهزة الأمن في صناعة التطرف وإشعال نار الفتنة، فقد كان لأجهزة الأمن التفنن في صنوف التعذيب الوحشي وابتكار أساليب الإهانة والتنكيل والاستفزاز فيما كان دور مثقفي السلطة تبرير المظالم وممالئة أجهزة القمع وقلب الحقائق وشرعنة الإستئصال، فيخرج المعتقل أو المطارد بقناعة مفادها وجوب الإنتقام من جلاديه الذين ساموه سوء العذاب وأيضا إخراس أصوات مبرري القمع والاستئصال من مثقفي السلطة.
وبذلك تتسع دائرة العنف والعنف المضاد مخلفة وراءها ضحايا كثر من هنا وهناك.
ويختلف المثقفون عادة في تناول ظاهرة العنف. فمثقف الأمة بمثابة الرائد الذي لا يكذب أهله فهو يقرأ الواقع قراءة صحيحة ويدرس تجلياته المختلفة ويستشرف آفاقه ويبني موقفه الفكري والسياسي على أساس من التجرد والفهم السليم فتأتي مواقفه عقلانية ومتوازنة وبالتالي أكثر صدقية وأكثر قبولا واحتراما.
أما مثقف السلطة فإنه ينظر للقضايا المطروحة من زاوية واحدة هي زاوية ما تراه السلطة وما يخدم أهداف السلطة وما يرفع الحرج عن أجهزة السلطة. والسلطة في بلادنا العربية هي الزعيم الأوحد بنزواته ونزغاته.
ومن هذه القضايا التي يتعامل معها مثقفو السلطة من هذا المنظار قضية التطرف والإرهاب فيتم إقتطاع العنف والتطرف من سياقه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والأمني وتمارس أشد صنوف التعتيم والتجاهل على أسباب نشوئه والعوامل المغذية له، ورغم أن الكل مجمع على إدانة العنف والإرهاب إلا أنه يجب أن لانغفل عن عنف آخر وإرهاب من نوع آخر لا يقل خطورة يتمثل في ممارسات السلطة وتوجهاتها.. ومن هذه الممارسات المتطرفة:
- إستهداف الهوية الوطنية للبلد وإنتهاج سياسات تجفيف منابع التحرر ومصادرة حق الأمة في الدعوة الى التغيير وتكميم أفواه الناقدين والمخلصين والوطنيين الحقيقيين...
- إطلاق العنان لأجهزة الأمن بالتفنن في تعذيب الناس وإمتهان كرامتهم بأوامر مباشر وبحماية كاملة.
- الإعتداء على الحريات الفردية والجماعية حظرا ومنعا للأحزاب الوطنية المخلصة ومصادرة للصحف وإغلاقا للمؤسسات الأهلية وسيادة للغة الإعتقال والمطاردة والزج بالناس في السجون وسط غياب لأبسط الضمانات القانونية وتلاعب بسلطة القضاء التي أضحت مجرد ملحق لإدارة أمن الدولة.
- المظالم الاقتصادية والاجتماعية المتمثلة في سياسات النهب والتفقير التي خلفت ثلة قليلة تملك كل شيء وشعب يموت فقرا وجوعا إضافة الى الشروخ الخطيرة في وحدة المجتمع العروبي التي خلفتها السياسات الكارثية لنظام الحزب الواحد... والعقلية التسلطية للزعيم(الاوحد)...
- الارتهان لأعداء الأمة وفي مقدمتهم الكيان الصهيوني الذي ارتبط ببعض الأنظمة العربية ارتباطا عضويا ويتوافق معه في كثير من الأجندة والاستراتيجيات.
- إنتهاج سياسات الإقصاء والسحق في حق كل المعارضين من مختلف التيارات والتوجهات في محيط يتجه نحو الإنفتاح والمشاركة ونزع فتيل التوتر الداخلي.
- خلط الأوراق الوطنية وعدم تقدير خط الوسطية والإعتدال مما يعكس حالة من الشذوذ الفكري والتطرف السياسي تصل حد الجنون المفضي إلى الهلاك المحقق... هذه القضايا وغيرها يجب على مثقفي السلطة إستحضارها عند حديثهم عن التطرف.
أقول إستحضارها لا لشيء آخر لأني أعلم أن البعض لايمتلك من الشجاعة الأدبية ولا الحس الوطني مايسمح له بذلك، لكن القفز عليها والحديث عن هكذا تطرف حديث غير مسؤول وغير مقنع وإن دل على شيء فإنما يدل على سعي متعمد في الإفساد وصب الزيت على نار مشتعلة أصلا وهو ما فعله مثقفون آخرون في بلدان أخرى أججوا نار الفتنة لدوافع مصلحية وأيدلوجية، فأكلتهم من ضمن ما اكلت من أبناء الوطن الواحد.
اضف تعليق