ينصرف مفهوم استقلال البنك المركزي الى تحرر متخذو القرار النقدية من النفوذ السياسي والحكومي المباشر في وضعهم للسياسة النقدية، ومن دلالات الاستقلال هو عدم ارتباط البنك المركزي بوزارة المالية او السلطة التنفذية، انما يعد البنك المركزي مؤسسة قائمة بذاتها تعمل بموجب القانون الخاص بها، وتشرف على السياسة النقدية من خلال ادوات سعر الفائدة والسوق المفتوحة، ومن الدلالات الاخرى على الاستقلال هو بقاء كبار المسؤولين في وظائفهم فترة طويلة نسبياً.
وتجدر الاشارة الى انه يجب التمييز مابين استقلال السياسة النقدية بالمعنى التشريعي والسياسي وبين استقلال العمليات النقدية عن المالية العامة وهو مايعرف بالاستقلال الفني، والاخير يمثل سمة اقتصادية مستقلة عن التشريع والسلطة التنفذية القائمة، وقد جاءت الدعوة لاستقلال البنوك المركزية في أعقاب معدلات التضخم المرتفعة في الدول المتقدمة، لاسيما بعد اهتمام البنوك المركزية بقضايا مثل النشاط الانتاجي والتشغيل على حساب استقرار الاسعار من أجل ارضاء الحكومات.
وقد قادت معدلات التضخم المرتفعة اواخر السبعينات وبداية الثمانينات في العالم الى فحص اداء البنوك المركزية والدعوة الى استقلالها، وشك ان درجة الاستقلال تتفاوت من دولة لاخرى، ففي عام 1997 اعلن بنك انكلترا استقلاله عن الخزانة، وفي نفس العام اجرت اليابان التعديل القانوني الذي منح البنك المركزي استقلالاً في ادارة العمليات، اما في الولايات المتحدة الاميركية فقد كان الاستقلال عام 1978 وتعزز في السنوات اللاحقة، في حين يعد البنك المركزي الاوروبي بأنه الاكثر استقلالية.
ويتطلب استقلال البنوك المركزية في سياسة السيطرة على التضخم مايسمى الاستقلال الفني والذي يعني امتلاك البنك المركزي لادوات كافية لتأمين استقرار الاسعار وهذه مسألة يحكمها الواقع ولايكفي التشريع لضمانها وهي العقبة التي تواجه البنك المركزي العراقي، وتاريخياً تأثرت الترتيبات المؤسسية للسياسة النقدية والرقابة على المصارف الى حد كبير بتقليدين متمايزين، اولهما الانكليزي حيث السياسة النقدية والرقابة على المصارف يرتبطان تحت مظلة البنك المركزي، والثاني هو التقليد الالماني حيث تنفصل الوظيفتان في مؤسستين مستقلتين، ورغم ان بريطانيا تحولت عن تقليد الجمع عام 1998، الا انه بقى يسمى انكليزياً واستمر هذا التمييز لان بريطانيا يعتمد قطاعها المالي على الاسواق المالية.
اما في العراق فتتولى الهيئة العراقية للاسواق المالية الرقابة على سوق الاسهم وثلثي الاسهم المتداولة في هذا السوق للمصارف الخاصة، بمعنى ان توحيد الرقابة على المؤسسات المالية يتضمن ايضا تطوير الرقابة على المصارف ذاتها، ويبدو ان التوجه لتوحيد الاجهزة الرقابية يرتبط عكسيا مع دور البنك المركزي في الرقابة على المصارف.
ومن تسعينات القرن الماضي، اتجهت الدول لمنح البنوك المركزية من الاستقلال من جهة وتقليص مهامها الرقابية او تحويل تلك المهام الى مؤسسات اخرى، وعلى الاكثر تتولى تلك المؤسسات البديلة الرقابة على جميع مؤسسات القطاع المالي (اسواق المال والتأمين وصناديق الاستثمار المالي والمصارف وسواها)، وبعد العام 2005، قامت كل من بريطانيا واليابان ومجموعة اخرى من الدول على الغاء رقابة البنك المركزي على المصارف، واقترن ذلك التوجه بتركيز البنوك المركزية على التضخم ومنها استهدافه بنسبة محددة، الا ان البنوك المركزية تتولى مهمات واسعة ولها الدور الحاسم عندما يهتز الاستقرار المالي كما حدث منذ عام 2007.
فيما بعد قامت اغلب دول اوروبا بأستحداث مجلس الخطر النظامي، وهو مايعني مراقبة مجمل القطاع المصرفي للوقاية من الفشل الشامل، اي تعزيز وظيفة الرقابة التحوطية الكلية، وفيما بعد وخلال العام 2012، تم تطوير واقرار نظام الرقابة الموحد على المصارف، وعلى مستوى الدول الاخرى في اوروبا مثل المانيا بوضع الرقابة المصرفية تحت مسؤولية البنك الاتحادي، وهو المصرف الوطني لالمانيا الذي كان البنك المركزي قبل الوحدة النقدية الاوربية، وهو الان يزاول الكثير من وظائف الصيرفة المركزية مثل بقية البنوك الوطنية.
وبالتالي نفهم ان استقلال البنوك المركزية هي نتاج تطورات حصلت في العقود الاخيرة، وهي ليست قانوناً ولا هو جزء من الديمقراطية او تصوغها الفيدرالية، كما ليس لها علاقة بالصراع مابين الليبرالية السياسية والثقافة التقليدية وغيرها.
اضف تعليق