بنيامين كوهين

 

سانتا باربرا ــ منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة، تسببت تدفقات رأس المال في رفع قيمة الدولار إلى مستويات غير مسبوقة منذ أكثر من عشر سنوات. للوهلة الأولى، قد يبدو الأمر وكأن الأسواق تسجل تصويتا هائلا للثقة في الرئيس المنتخب أو أن انتخاب ترامب سيكون مفيدا للاقتصاد الأميركي، وبالتالي الدولار الأميركي.

لكن المظاهر قد تكون خادعة. ذلك أن تحركات سعر الصرف في الأجل القصير ليست وسيلة للحكم على القوة الأساسية للعملة. والاتجاهات الأطول أمدا في كيفية استخدام المال دوليا ــ وخاصة كمخزن للقيمة للمستثمرين الأجانب أو البنوك المركزية ــ هي التي قد تنبئنا بالكثير. ففي سياق السنوات القادمة، وليس الأسابيع القليلة المقبلة، يكاد يكون من المؤكد أن انتخاب ترامب ليس في صالح الدولار.

فبادئ ذي بدء، لم يسجل الدولار ارتفاعا قويا بعد الانتخابات إلا لأن ترامب وَعَد بتخفيضات ضريبية عميقة وزيادة الإنفاق على البنية الأساسية المتدهورة والمؤسسة العسكرية الأميركية التي يفترض أنها أصبحت "منهَكة". وهذا من شأنه أن يعزز النمو الاقتصادي في الأمد القريب، وأن يدفع أسعار الفائدة إلى الارتفاع حتما. وفي عالم متعطش لتحقيق عائدات استثمارية جذابة، دَفَعَت طفرة ترامب المرتقبة الأموال إلى وال ستريت، وهذا بدوره يزيد من الطلب على الدولار.

من المؤكد أن الدولة التي تصدر العملة المفضلة دوليا قادرة في عموم الأمر على فرض نفوذها على الآخرين، وهي تتمتع بميزة اقتصادية واضحة. والواقع أن مكانة الدولار كعملة احتياطية دولية مهيمنة ترقى إلى ما أطلق عليه الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان وصف "الامتياز الأميركي الباهظ". فما دام الأجانب متعطشين للدولار، تستطيع الولايات المتحدة أن تنفق كل ما تحتاج إليه لاستعراض القوة في مختلف أنحاء الكرة الأرضية؛ ولكي تدفع الولايات المتحدة ثمن كل هذا فما عليها إلا أن تدير مطبعة النقود.

بيد أن مستقبل الدولار الآن سوف يعتمد على ما إذا كان ترامب قد ينجح حقا في "جعل أميركا عظيمة مرة أخرى". فإذا فعل، سوف تتعزز جاذبية الدولار دوليا بمرور الوقت. ولكن إذا أصر على ملاحقة وعد الحماية الذي يضع "أميركا أولا"، والذي ينضح بالقومية الكارهة للأجانب، فقد يضطر المستثمرون والبنوك المركزية تدريجيا إلى البحث عن احتياطيات بديلة لملياراتهم الشحيحة.

من المؤسف أن السيناريو الأخير يبدو أكثر ترجيحا، وهناك أسباب وفيرة للتشكك في دوام امتياز أميركا الباهظ. فمن منظور محاسبي بحت، تعتبر الدولارات المحتفظ بها خارج الولايات المتحدة على جانب الخصوم وليس الأصول، وقد أعرب المراقبون لفترة طويلة عن قلقهم من أن الولايات المتحدة قد لا تكون قادرة على خدمة "عبء" الديون الخارجية المتصاعدة إلى ما لا نهاية. فقد تبلغ الخصوم الدولارية نقطة التحول في أي وقت، إذا تسبب المستثمرون المتقلبون، الذين يسعون إلى إيجاد مستودع بديل للقيمة، في التعجيل بدوامة هابطة لا رجعة فيها.

الواقع أن الرئيس غير المثقف الساذج الذي يلاحق سياسات شعبوية قد يشعل شرارة مثل هذه الدوامة. وقد أطلق ترامب نواقيس الخطر بالفعل خلال حملته الانتخابية بما ألقاه من تصريحات طائشة عن محاولة إعادة التفاوض على ديون الولايات المتحدة من خلال إعادة شرائها من الدائنين بسعر مخفض. وهذا هو على وجه التحديد ما يفعله ترامب غالبا عندما تنزلق إحدى شركاته إلى متاعب، وهذا يرقى فعليا إلى التخلف جزئيا عن سداد الديون الوطنية. والحق أننا لن نجد أبدا أي تصريح أفضل صياغة لاستفزاز الرغبة في التراجع عن الدولار الأميركي.

على نحو مماثل، دعونا نفترض أن ترامب سوف ينفذ وعوده بشأن الميزانية. من الواضح أن التخفيضات الضريبية وزيادات الإنفاق ربما تحفز النمو الاقتصادي في الأمد القريب، ولكنها ستزيد الدين الحكومي حتما، وهو ما من شأنه أن يثير المزيد من الشكوك حول استعداد أميركا في الأمد البعيد للوفاء بالتزاماتها.

ولا ينبغي لنا أن ننسى تعهد ترامب بإعادة الملايين من وظائف التصنيع المجزية إلى الولايات المتحدة من خلال فرض رسوم على الواردات وإلغاء الاتفاقيات التجارية. فإذا كانت تدابير الحماية على أجندته حقا، فيتعين علينا أن نفترض أن ضوابط رأس المال هي أيضا على أجندته. وقد تكون النزعة التجارية على طريقة ترامب القشة التي تقصم ظهر البعير في نظر دائني أميركا الأجانب.

ولكن لا شيء من هذا يعني ترجيح سيناريو الهلاك ــ التكالب الفوري على سحب الودائع بالدولار، أو التدافع الجماعي الفجائي من قِبَل الدائنين الأجانب للتخلص من الدولار. فقد صمد الدولار في مواجهة أخطاء سياسية فظيعة ارتكبتها إدارات سابقة، وتحدى نبوءات الزوال المتكررة.

وبوسعنا أن نستبعد هروبا سريعا واسع النطاق من الدولار، وذلك نظرا لمكانته الفريدة التي ظلت قائمة لفترة طويلة باعتباره مستودعا دوليا للقيمة. ولا تستطيع أي عملة أخرى حتى الآن أن تتحدى الدولار كوسيط استثماري أو أصل احتياطي، ولن تتمكن أي دولة أخرى من مضاهاة الأسواق المالية الأميركية التي تتمتع بكفاءة غير عادية، والتي توفر قدرا من السيولة لا نظير له. وعلى هذا فسوف يظل الدولار الملاذ الآمن المطلق للعالَم في الوقت الراهن، ومن غير المرجح أن يتعرض لضربة مفاجئة قاتلة، حتى وإن تبين أن سياسات ترامب كارثية.

من ناحية أخرى، قد يستسلم الدولار لنزيف بطيء طويل الأمد، مع محاولة القوى المالية المنافسة لأميركا جعل عملاتها أكثر جاذبية ومنالا. ومن جانبها، لم تحاول الصين إخفاء نيتها تأسيس الرنمينبي كبديل جدير بالثقة للدولار. وبمرور الوقت، مع اكتساب المزيد من العملات للقدرة التنافسية، سوف تتآكل المزايا الفريدة التي يتمتع بها الدولار، وكذا مكانة أميركا المتميزة.

بمرور الوقت، لن تعود رئاسة ترامب بالفائدة على الدولار، لأنها لن تفيد الاقتصاد الأميركي. بل على العكس من ذلك، إذا أصر ترامب على تحقيق وعوده الانتخابية، فقد يُطاح بالدولار في نهاية المطاف من على قمة التسلسل الهرمي النقدي العالمي، مع ظهور مجموعة متزايدة الاتساع من البدائل التي تسحبه إلى أسفل.

* بنيامين كوهين، أستاذ الاقتصاد السياسي الدولي في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربرا

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق