تركت الازمة المالية الاخيرة وماأفرزته من أثار وانعكاسات كبيرة على اقتصادات العالم، تساؤلات عديدة، حول مستقبل الرأسمالية في العالم، فبعد نجاح الرأسمالية بأن تكون هي القطب الأوحد في أدارة الاقتصاد العالمي، من بعد أنهيار الاتحاد السوفيتي الاشتراكي المنافس السياسي والاقتصادي للرأسمالية، أصبحت الرأسمالية عالمية الفكر والعقيدة، وحتى ماتبقى من معسكرات اشتراكية كالصين الشيوعية وبعض دول امريكا اللاتينية، فأن تأثيرها كان محدوداً للغاية في اقتصاد العالم، بل ان العديد منها بات يتوجه نحو مسار الرأسمالية الجديدة التي تعرف بالرأسمالية المالية بعد ان كانت الرأسمالية صناعية، كالبرازيل مثلاً، وبات المنافس الاشتراكي مجرد متربص للوقت الذي تسقط فيه الرأسمالية المتزايدة في الانتشار والقوة، وقبل أن يصل مرحلة اليأس في ذلك، حتى طرقت ابواب الرأسمالية المتخمة بأموال القروض والتحويلات المالية وأسوق المال والاسهم والسندات والمعروض النقدي، أزمة خانقة ابتلعت كل هذه الاموال الهائلة عام 2008، أزمة ظن معها الجميع ومن ضمنهم الاشتراكي الذي يريد التشفي انه أخر مسمار يدق في نعش الرأسمالية الامبرالية بحسب وصفه، وربما هي كانت ذلك في وقتها فخسائر الاقتصاد العالمي وصلت الى مايقارب الـ 71 تريليون دولار، حتى بات العالم قريباً من الافلاس على المستوى النظام المالي، وماقوى هذا الصدمة الكبيرة هو ان الرأسمالية ظهرت في صورة من لايملك حل لهذه الكارثة، وكأنها سلمت نفسها للسقوط او الانجراف امام الاعصار، وتحولت الرأسمالية الى مايعرف بالرجل المريض .
عوامل قوة الرأسمالية
وقبل ان يوافي الأجل هذا الرجل وقبل ان يشمت الاشتراكي في موته ويطلق أفراحه للصباح، ظهر الترياق الذي سيشفي الرجل المريض(الرأسمالية) من مرضه ويجعله يقف من بعد كبوته التي هزت أركانه وضعضعت مفاصله، اذ ولربما غاب عن الجميع ان سبب بقاء الرأسمالية كل هذه المدة هو ذات السبب الذي ابقاءها صامدة لحد الأن، ففضلاً عن ان مصدر قوة الرأسمالية هو الفرد ذاته الذي تستمد قوتها منه، على العكس من الأشتراكية التي تستمد قوتها من قوة القيادة، وان الفرد هو الذي يمثل المجتمع فأنه باقٍ لايزول، بينما القيادة تزول بزوال أصحابها، فأن السبب الرئيسي الأخر هو مرونة الرأسمالية ومطاطيتها بوجه المشاكل والعقبات التي تواجهها، فالرأسمالية ومن أجل ضمان بقاءها واستمراريتها لامانع لديها من أن تتخذ اي حل وان تعارض مع قيمها ومبادئها، طالما كانت الغاية البقاء والاستمرار، حتى وان كان من يملك الحل هو عدوها او من ينافسها، وهذا ماميز هذا النظام عن بقية الانظمة الاخرى، فالاشتراكية المنافس الاول لها ورغم قرتها في مامضى الا انها لم تستوعب جماهيرها وشعوبها، بل صنعت منهم أسفلت كي تمر عليه منهم، وفي وقت الأزمة إستبدت برأيها ايماناً بانها هي الأصدق وتكبراً منها وعلواً بأن جميع الحلول للازمات تكمن عندها دون غيرها، فأصرارها على نهجها على انه الصواب وان كانت في داخلها تعلم عقمها في ايجاد الحلول للكثير من المشاكل، وان عدم تكيفها مع الاوضاع السياسية والاقتصادية وعدم قبولها بإيجاد البدائل، وانغلاقها على نفسها خلف أسوار من العزلة، وعلى أن الأخرين على خطأ وأنهم في تصورها أعداء يريدون النيل من منجزات الأشتراكية، دفع بها الى شفير الهاوية، حتى جاء ذلك اليوم الذي سقط فيه هذا البناء الشامخ والقائم على الدماء والجماجم، أسقطه جوع الشعب وكبرياءاً بائس لافائدة منه سوى اتساع الفجوة بين القائد وشعبه، بين قيادة ترى في نفسها انهم ملائكة وترى في الشعب انهم ضالون لايعرفون كيف يخلصون انفسهم من العذاب وعلى انهم هم المخلصين لهم، الا ان هذا الاحلام الاشبة بالخيال صار الأن شبحاً يطار كل من مازال يظن ان الاشتراكية كانت مُثلى وانها هي الحل لأوجاع العالم، هذا المصير جعل الرأسمالية تتنبه لهذا الدرس الكبير، وعلمها أن تأخذ ماينفعها من أي مكان حتى وأن كان من يريد الاطاحة بها، وبما أنه ومن احدى ركائز الرأسمالية هو عدم تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية، فأنها كانت على طول الطريق ومدى الزمان تحارب تدخل الدولة، الا ان الازمة الأخيرة، جعلت الرأسمالية توقن بأن سبيل الخروج من هذه الأزمة هو أن تتدخل الدولة، وهذا ماحصل فعلاً، فلا كبرياء عند الرأسمالية مادام الهدف هو البقاء، لذا نجدها راحت مهرولةً تستجدي الدولة للتدخل وحل الأزمة، وعبر أسلوب مزوق سُمي بـ (التحفيز المالي)، قامت الدولة بالتدخل والانفاق من أجل حفظ ماء وجه الرأسمالية، وان كان وجهها أسوداً من جراء ماصنعته بالفقراء والجياع في هذا العالم، وبهذا عادت الرأسمالية من جديد الى موقع القوة والصدارة .
رأسمالية الدولة
ورغم أن الصفعة كانت قوية الا أنها قوت الرأسمالية وان جعل ذلك قواها تخور، ليعود من بعد ذلك اصحاب التيار والطرف المعاكس والمنافس الى احلام اليقظة التي ينتظرون فيها أزمة أخرى تقتل فيها الرأسمالية ليعودوا هم من جديد لزمام السلطة والسيطرة على العالم الذي ضاع منهم. الا ان هذا دفع الى ان يخرج الكثير منهم من هذه الاحلام، ليشكل تياراً جديداً بعد ماأيقن انه لامناص من الرأسماليه، لنجده يدعو الى فكر جديد، أصبح يُعرف الأن بـ (رأسمالية الدولة) او (الدولة الرأسمالية)، ويطلق البعض عليها (اشتراكية السوق)، وهو أن تتشارك الدولة والقطاع الخاص مهمة ادارة الاقتصاد، اي ان تكون هناك شراكة بين القطاع والقطاع الخاص، والسبب في ذلك ان الاشتراكية باتت على يقين ان المعايير التي يعتمدها السوق والمتمثلة بالمهنية والكفاءة والتخصص هي التي تمثل طريق الابداع والتجدد والازدهار، وهذه المعايير هي ماكانت تفتقده في السابق، وحتى لايصاب السوق بالفشل او بما يُعرف بـ (فشل السوق)، وهو ان يكون همه الوحيد الربح وبالتالي حرمان المجتمع من العديد من السلع التي قد يبتعد عنها السوق (القطاع الخاص) عن انتاجها لأنها لاتولد له الارباح، فأن من الضروري من ان يكون للدولة دور في تنظيم آلية السوق بالشكل الذي يسمح للجميع الاستفادة من مزايا معايير السوق، وان دور الدولة هو رقابي منظم لاأكثر، لاتدخلاً في عمل السوق او تأميماً له، وهذا مايحدث الان في الصين التي غيرت صبغتها الاشتراكية الى الرأسمالية لكن في ظل وجود الدولة كرقيب يتدخل لضمان عدم خروج السوق عن تحقيق الاهداف العامة والخاصة للدولة. وإيماناً بأن الصراع بين الرأسمالية والأشتراكية يجب أن ينتهي وأن يبدأ عصر يتشارك فيهما الأثنين ادارة الاقتصاد وحتى السياسة .
ويبقى السؤال هل سينجح هذا الفكر الجديد ويسيطر على الاقتصاد العالمي منتزعاً الصدارة من الرأسمالية التي تحمي أسوارها دول كبرى كالولايات المتحدة وبعض دول أوروبا كفرنسا وبريطانيا؟، وهل سيكون هناك توافق حقيقي ومستمر بين الدولة والقطاع الخاص، ام سيعود الصراع من جديد؟ وماهي الضمانات لذلك؟، والأهم من ذلك هل التوزان شرط ضروري للاستمرار أم الصراع هو الحالة الطبيعية لوجود هذا الأنسان في الحياة؟.
اضف تعليق