الانتقادات الشديدة للاقتصاد السياسي الليبرالي الكلاسيكي لم تقتصر فقط على ما كان سائدا في القرن التاسع عشر بل استمرت وبزخم اكبر في القرن العشرين ايضا، وهو ما سنعرضه مع بعض الردود في هذه الورقة.
ثلاثة اقتصاديين معارضين لإقتصاد السوق
كانت الانتقادات ضد اقتصاد السوق في النصف الاول من القرن العشرين تسير على جبهتين، جبهة الجزئي micro وجبهة الكلي macro(1). الهجوم الجزئي كان ذاته مرتكزا على افتراض ان المنافسة التامة هي شرط ضروري لكي تعمل الاسواق بشكل مقبول، وان التوزيع العادل هو شرط ضروري كي تكون الاسواق عادلة. هذا قاد الى استنتاج وهو، طالما ان المنافسة التامة لم تكن قائمة في اي مكان بالعالم، والتوزيع العادل يتحدد فقط من جانب الخيار الاجتماعي، فان الاسواق الحرة لا يجب الوثوق بها في تعظيم الرفاهية. هذا الاستنتاج اشترك به كل من الاقتصاديين "المنطقيين" المعارضين للسوق كما سماهم (paul samuelson)(2)، والاقتصاديين الرياضيين المهتمين بالتخطيط.
اما الهجوم الكلي كان بقيادة جون ماينرد كنز، بعد ان ادى الكساد الكبير في الثلاثينات الى فقدان تام للثقة في نظام حرية الاسواق. في الحقيقة، كان ذلك قبل عدة سنوات من ادّعائه نهاية عدم التدخل "The End of Laissez Faire"عام 1926. وكما متوقع هو اقترح في (النظرية العامة للاستخدام والنقود وسعر الفائدة، عام 1936) ان الاقتصاديات الحديثة تميل لتجد نفسها في جو كئيب من توازن البطالة، وان العلاج يكمن بين ايدي الحكومات، في دورها كمنقذ للحضارة البرجوازية.
كلا القوتين، الجزئي والكلي اتحدتا لاحقا تحت راية الاطروحة الكلاسيكية الجديدة بقيادة ساملسون. وهكذا فان المسمار الاخير قد دُق في نعش الليبرالية الكلاسيكية.. فهل كان ذلك؟
للإجابة على هذا السؤال سنحقق مع جماعة ممثلة من ثلاثة اقتصاديين كان لهم دور في سبات الليبرالية الاقتصادية في النصف الاول من القرن العشرين. سنأخذ من النوع الادبي (literary economists) ارثر بيغو. ومن الرياضيين المخططين (mathematical economists) سنتناول اوسكار لانغ الذي حاول تأسيس "اشتراكية السوق"في بولندا السوفيتية. اخيرا، سنسلط الضوء على بول ساملسون، الرياضي الذي أسبغ على الليبرالية الناعمة رداءاً علميا.
آرثر بيغو(1877-1950)
كتاب آرثر بيغو (اقتصاد الرفاهية، 1924) هو من اكثر الكتب نجاحا في الاقتصاد السياسي واكثرها ايذاءاً. سار بيغو على خطى (جون ستيوارت مل) الذي هو اول من صنف مظاهر فشل السوق بالتركيز على المعرفة غير التامة، والآلية المعيبة للأسواق ورأس المال غير القابل للتجزئة(3).كان من المنطقي لبيغو ان يبين ان هذه الانواع من الفشل قادت الى تأثيرات اجتماعية ايجابية وسلبية واقتراح تدخلات حكومية لتصحيح تلك العيوب. في الجزء الثاني الفصل الثامن من كتابه وضع تمييزا حاسما بين صافي الناتج الاجتماعي وصافي الناتج الخاص للامة واقترح مختلف انواع التدخلات الحكومية لردم الهوة بين الاثنين.
المقصود بصافي الناتج الاجتماعي هو ما يُصنع من مساهمات تراكمية للدخل القومي، اما صافي الناتج الخاص هو المساهمات التي تكون اما اكبر او اقل من صافي الناتج الاجتماعي والتي هي يمكن بيعها واضافة حصيلة البيع لمدخول الفرد المسؤول عن فعالية الاستثمار.
اعتبر (بيغو) اللامساواة بين الناتج الخاص والناتج الاجتماعي كأمر ثابت. وان التدخلات الحكومية وحدها منْ يزيل تلك الفجوة.
من الواضح ان الصناعيين، عموما مهتمون ليس في صافي الناتج الاجتماعي وانما فقط في صافي الناتج الخاص لعملياتهم. ولذلك، فان المصلحة الذاتية لا تميل لإيجاد المساواة بين قيم صافي الناتج الاجتماعي الحدي للاستثمار في مختلف الصناعات(ص 151). يستمر بيغو لاحقا ليضع قائمة بالحالات التي لا يتساوى بها صافي الناتج الاجتماعي مع صافي الناتج الخاص"لأن الخدمات الثانوية تُنجز لاطراف ثالثة يصعب فيها تقنيا المطالبة بمدفوعات". امثلته في ذلك، اضاءة البيوت، الكراجات الخاصة لوقوف السيارات في المدن، الطرق وخطوط الترام، الغابات الخاصة، منع التدخين، البحوث العلمية.
بعدها أدرج بيغو الاستثمارات التي فيها الناتج الخاص اكبر من الناتج الاجتماعي، مثل الالعاب المؤذية للجيران، الازعاج الناتج عن المصانع في المناطق السكنية، الازدحام في المدن، تمويل الحروب في الخارج، إلزام المرأة بالعمل في المصانع قبل او بعد الولادة. هو اخيرا ذكر الخسارة السايكولوجية للمستهلكين عند رؤيتهم الآخرين يستهلكون سلعا افضل واحدث مما لديهم.
يرى بيغو ان اي انتاج او استهلاك له بعد اجتماعي يحتاج تصحيح بالمكافآت والضرائب. بيغو لم يذكر ابدا ان المنافسة كقوة تصحيحية يمكنها تحقيق المساواة بين الناتج الاجتماعي والناتج الخاص، بل كان في تضاد مع الاقتصاديين اللاحقين للمدرسة الرياضية الذين اكدوا بان هذه الظاهرة الكريهة من اللامساواة سوف تختفي مع وجود المنافسة التامة. مذهب بيغو ربما اصبح العقيدة المقبولة للاقتصاديين (قبل ان يثبت رونالد كوس Ronald Coase خطأه).
آدم سمث والتوازن العام
لنعد الآن الى المدرسة الرياضية للاقتصاديين الذين حاولوا ان يكونوا حياديين فيما يتعلق بمزايا السوق الحر والاقتصاد الموجه وبالنتيجة هم اساءوا لنظام الحرية الاقتصادية.
من المفارقة ان المقترحات الاكثر اتقانا للتخطيط الجمعي كانت مرتكزة على نظرية التوازن العام General Equilibrium theory لـ ليون ولرس(1834-1910)، النظرية التي كشفت عن مدى صحة حدس آدم سمث في رؤية ان جميع الاجزاء المختلفة للاقتصاد تميل باستمرار لتكون منسجمة(4).
كان والرس ذاته رجل القناعات الاجتماعية الراسخة. هو كان قادرا على طرح نموذج لتوازن اقتصاد تنافسي خالص، اي القول بان الاقتصاد يكون في افضل وضع (optimum) لأن هناك تناسب تام بين جميع منحنيات الطلب والعرض. هو استنتج ان احدا لا يحتاج لسوق واقعي كي يصل الى افضل وضع اجتماعي، وهو الدرس الذي ادركه حالاً اتباع والرس، بما فيهم اوسكار لانك.
الاكتشاف الاعظم لأدم سمث كان بروز نظام في المجتمعات الانسانية هو الأبعد احتمالا ولا هدفية، وحيث لا احد يتولى تصميمه او حكمه. هذا يرفعهُ الى نفس المستوى العلمي لشارلس دارون، الذي عمم هذه الفكرة لنشوء النظام عبر تطبيقها على الطبيعة ككل. سمث يرى المصلحة الذاتية باعتبارها تمنح الحافز الضروري: "انها ليست طيبة القصاب او صانع البيرة او الخباز منْ يجهز لنا وجبة العشاء، وانما هو ما يتعلق بمصلحتهم الذاتية". ولذلك وبدون اي معرفة، فان كل فرد يعمل وبشكل ضروري لجعل العائد السنوي للمجتمع اكبر ما يمكن. الفرد عموما لا يقصد تعزيز المصلحة العامة، ولا يعرف المقدار الذي يعزز به هذه المصلحة، هو في هذه وكما في عدة حالات تقوده يد غير مرئية لتعزيز غاية لم تكن في باله.
ليس الفرد وحده من لايعلم بالنظام العام الذي يرسخه، وانما هو لا يستطيع متابعة الكيفية التي يعمل بها هذا النظام على مستوى التفاصيل لأن تقسيم العمل واستخدام النقود يحجبان عن عينه الشبكات الرابطة. وفي ضوء التعقيدية الهائلة للنظام الاقتصادي، يبدو اننا نعيش في مجتمعات ليست منظمة كثيرا: لأن حدس سمث ينطوي على ان كميات الطلب والعرض يجب ان تتطابق، وان الاستثمارات يجب ان تجد الادخارات الضرورية، وان مؤسسات النقود يجب ان تساعد الناس حينما لا يتزامن دخلهم المخطط مع انفاقهم المخطط – كل ذلك يتم تلقائيا.
ان رؤية سمث، لم تكن مرتكزة على الايمان بوجود تناغم ميتافيزيقي في المجتمع، كما يقول بعض نقاد الليبرالية الكلاسيكية. ما الهدف من كتاب آدم سمث "تحقيق في طبيعة واسباب ثروة الأمم" اذا كان كل شيء يتم في احسن العوالم الممكنة ولأجلها؟. في عام 1926 كتب كنز مقالة بعنوان "نهاية عدم التدخل". هو اراد الغاء "المبدأ الميتافيزيقي" الذي ارتكز عليه عدم التدخل الحكومي.
لا صحة لما يقال ان الافراد يمتلكون "حرية طبيعية" توجيهية في نشاطاتهم الاقتصادية. لا يوجد هناك ميثاق يمنح حقوقا دائمة لامتلاك الملكية او اكتسابها. العالم لم يُحكم من فوق بحيث تتطابق دائما المصلحتين الخاصة والاجتماعية. انه ليس استنتاجا صحيحا من مبادئ الاقتصاد بان المصلحة الذاتية التنويرية دائما تعمل باتجاه المصلحة العامة. وكذلك ليس صحيح ايضا ان المصلحة الذاتية هي عموما تنويرية. من المألوف جدا ان الافراد الذين يعملون على انفراد لتعزيز اهدافهم الخاصة هم اكثر جهلا واكثر ضعفا لتحقيق تلك. التجربة لا تبين ان الافراد حينما يشكلون وحدة اجتماعية، هم دائما أقصر رؤية مما لو كانوا يتصرفون منفصلين(1926، صفحة 287-288).
انها عبارات بعيدة عن الاتفاق مع آدم سمث (ومع واقع الاسواق) وهي ربما يصعب تصورها.
نوعان من التوازن العام
لندع جانبا معارضة كنز الميتافيزيقية للاسواق ولنرى ماهي الطريقة التي تساهم بها رؤية آدم سمث في نظرية التوازن العام للاقتصاد. النظام في اقتصاديات السوق بعيد عن الكمال، لكن ذلك ممكن من حيث المبدأ وضمن حدود. انه ليون والرس Leon Walras 1834-1910 اول من فتح الطريق ليثبت رياضيا بان مثل هذا النظام كان منسجما حقا. وبالاستعانة بنموذج مرتكز على افتراض المنافسة التامة، هو بيّن ان اقتصاد السوق قد يصل حالة التوازن العام، حينما تكون جميع متساويات سمث(الطلبات والعروض، الاستثمارات والادخارات، عرض النقود وما موجود منها في اجراءات التبادل) تبقى ثابتة(5).
الآن، برز من نموذج والرس نوعان مختلفان كليا. الاول يستخدم فكرة المنافسة التامة، وان كانت غير واقعية كأداة لاكتشاف تشوهات الحياة الواقعية: النموذج ساعد في تشخيص النتائج غير المتوقعة وردود الافعال لأي تغيير في السياسة او اصلاح مؤسسي لو استمرت القيود في بقية الاقتصاد وربما تجعل للتغيير او الاصلاح نتائج سلبية. مثلا، ليس كل ازالة للرسوم على الاستيراد يجعل التجارة الكلية حرة، لأن هذا التحرير الجزئي قد يزيد درجة الحماية في بقية الاقتصاد. هذا الخط من التفكير يعرف اليوم بـ "التوازن العام التطبيقي"، يتبع الميثدولوجية البوبرية(نسبة الى كارل بوبر) في عمل تنبؤات مُراقبة وتكذيبها عبر الملاحظة او التجربة. هذا الاتجاه استعمله ملتن فريدمن وغاري بيكر والعديد من انصار مدرسة شيكاغو. وهكذا، عرض فريدمن عام 1957 نموذجا احصائيا كذّب فيه نظرية كنز في وظيفة الاستهلاك، اما بيكر في عام 1981 كان قادرا على طرح توضيحات اقتصادية للتغيرات الديموغرافية التي ترفض التفكيرات السوسيولوجية العادية.
النوع الآخر للتوازن العام هو المدرسة الرياضية المجردة. الاستنتاج المحير لاقتصاديي هذه المدرسة حول التوازن العام هو ان تصوّر آدم سمث للنظام الناشئ لا يمكن تطبيقه على العالم الحقيقي لأن المنافسة التامة غير موجوده، وعليه، يصبح من الضروري التدخل المستمر لجعل الاسواق تعمل واقعيا لرفاهية الناس. اولئك الاقتصاديون يعانون من احادية النظرة. فكرة آدم سمث عن اليد اللامرئية هي ان الاسواق اللامركزية، حتى في ظل المنافسة غير التامة، قادت الى تنظيم اكثر فعالية ورتابة من ذلك المفروض بسيطرة مركزية. لذا فان البعض يريد القول بان نظرية التوازن العام يجب استخدامها لكي تبين ان الاسواق الواقعية هي أقل شأناً من نظام الاقتصاد المخطط. طبقا لتلك النظرية، الافضلية الاجتماعية المثلى يمكن بلوغها فقط عبر اسواق المنافسة التامة مع عدالة التوزيع في الدخل.
وبما ان الاسواق الواقعية ليست ذات منافسة تامة ولا هي عادلة في التوزيع، فانها يجب اما ان تُستبدل بنموذج مصمم وخالص او تبقى على الاقل تحت مراقبة واشراف مستمرين لكي يمكن تعظيم وظيفة الرفاهية الاجتماعية التي يريدها اولئك النقاد. منظرو التخطيط، مثل لانك، ستكون لديهم سلطة تخطيطية تستخدم نموذج السوق الاقتصادي لتسهيل حساباتهم ولكي يمكن فرض توزيع عادل. لا احد من الاجتماعيين الليبراليين مثل ساملسون سيسمح للسوق بالبقاء الاّ باعادة التنظيم والتصحيح المستمرين له. هم دائما يرون السوق مجرد آلية تخطيطية، بدلا من ان تكون مؤسسة اجتماعية مستقلة، وهم يعتبرون المنافسة التامة كهدف قابل للتحقيق بدلا من رؤيته كمجرد وسيلة تحليلية. حين نأتي للحكم على حرية السوق من وجهة نظر التنظيم او النتائج، فان فريق التوازن العام للمدرسة الرياضية يتضح انه يزخر بالاشتراكيين الحقيقيين.
ان التقدم في الاقتصاد العلمي في القرن العشرين ارتبط بأسماء جون هايك وبول ساملسون وكينيث ارو وامارتيا سين والعديد من المنظرين المتميزين الآخرين، الذين قدّموا بالفعل لنا وسائل لتجنب الاخطاء النظرية الشائعة او المنطقية. ولكن للمفارقة ان نتائجهم الايجابية محدودة، بسبب انهم يقيمون اساسا في جو من التجريد الرياضي والحيادية الفلسفية المضادة اساسا لنظام آدم سمث في "الحرية الطبيعية".
اوسكار لانك (1904-1965)
هو اقتصادي بولندي رياضي ذو اتجاه شيوعي. في مقال له "حول النظرية الاقتصادية للاشتراكية(1936-1937) عبّر بدون شك عن تفوق الاقتصاد الاشتراكي على نظيره الرأسمالي. بدأ لانك هجومه على Ludwig von Mises المعارض للاشتراكية. في صفحة(53) اوضح مسيز انه في عام 1920 و1935 سيكون من المستحيل عمليا على دول الكومنويلث الاشتراكية اتخاذ قرارات حول ما تنتجه من تشكيلة البضائع الاستهلاكية بدون وجود اسعار نقدية وملكية خاصة، فضلا عن صعوبة تقييم بضائع الانتاج في ظل مختلف التركيبات الممكنة من الخدمات الانتاجية لعرض الاستهلاك. لذا هو اعلن ان "الاقتصاد الاشتراكي لا يستطيع حل مشكلة التخصيص الرشيد للموارد".
(لانك) ادرك الحاجة لمواجهة هذه التحديات التي جسدها مسيز ليثبت ان الاشتراكية هي ترتيب اجتماعي صالح للعمل.
هو بدأ بتوضيح لـكيفية حدوث "التوازن بالسوق التنافسي". اذ استخدم مناورة والرس في المنافسة التامة ليوضح كيف ان جميع الاسواق في الاقتصاد الحر تكون فارغة، اي، جميع الطلبات والعروض تكون متطابقة. ذلك بسبب ان المستهلكين يعظمون منفعتهم الكلية، والمنتجين يقللون الى اقصى حد تكاليف الانتاج للحصول على الربح، ومالكي الموارد يبيعون خدماتهم. الاسعار التي تؤدي الى توازن سعري يتم الوصول اليها بالتجربة والخطأ. الاقتصاد المخطط، حسب قوله، يمكنه العمل كما يعمل اقتصاد السوق. قواعد الانسجام في القرارات والفاعلية في الاقتصاد الاشتراكي هي بالضبط مثل تلك التي تحكم السلوك الحقيقي لرجال الاعمال في سوق المنافسة التامة(صفحة 123).
هيئة التخطيط المركزي تتولى اساسا وضع جدول بالاسعار المحاسبية التي سوف تُصحح في نهاية الفترة المحاسبية اذا كان هناك فائض او نقص في اي سلعة. ولكن منْ يرشد الانتاج ليس خيار المستهلك: مقياس الافضلية "يُثبّت من قبل هيئة التخطيط المركزي بينما نظام الاسعار يُستعمل لتوزيع سلع الاستهلاك المنتجة".(صفحة 70). على سبيل المثال، الهيئة تخصص قيمة عشر وحدات نقدية لإنتاج مائة الف قبعة شهريا، بينما تخصص قيمة ثمان وحدات نقدية لإنتاج مائة وخمسون الف قبعة شهريا(ص68).
عبر الاستدلال من اسعار المستهلك الناتجة عن التجربة والخطأ، سيتم وضع اسعار الخدمات الانتاجية بحيث يكون لدى مصنع القبعات ما يكفي من مكائن ومعدات اخرى. (لانك) لم يذكر الكيفية التي تثبت بها هيئة التخطيط امتلاكها للمعرفة التكنلوجية المسبقة لربط الموارد بالإنتاج النهائي. كذلك كما يشير مسيز(1935) ستكون هناك ترابطات تكنلوجية معقدة بين الموارد في عملية الانتاج التي يجب اختيارها، وهناك ستكون حاجة لخيارات حول ما اذا كان بالامكان تطبيق استعمالات متعددة للموارد، مثل بناء جسر او قنال او حفر منجم فحم(6).
اخيرا هناك مشكلة سعر الفائدة. في المدى القصير توضع اسعار الفائدة وفق حركة العرض والطلب على الائتمان في النظام المصرفي الاشتراكي. اما في الاجل الطويل، فان الهيئة ستقرر كم تحتاج من رأس المال للتراكم وبهذا تطرح التوفيرات المسبقة قبل توزيع الدخل المتاح لاستعمال المواطنين.
هذه الاسئلة تمت الاجابة عليها بالقول: "ان هيئة التخطيط المركزي لديها معرفة واسعة بما يحدث في كامل النظام الاقتصادي قياسا باي معرفة يمتلكها رجل الاعمال الخاص، وبالنتيجة، ربما هي قادرة للوصول للتوازن السعري الصحيح بسلسلة قصيرة من التجارب المتعاقبة قياسا بما يقوم به السوق التنافسي.(ص 67). رغم ما يبدو من عيوب في السوق الاشتراكي لكن (لانك) يبدو مقتنعا بان النظام ينتمي لنفس العائلة ولذا يطرح السؤال بوضوح:
لماذا نغير كامل النظام الاقتصادي اذا كان بالإمكان الحصول بالضبط على نفس النتيجة من نظامنا الحالي، وذلك فقط عبر اجباره للابقاء على المستوى التنافسي؟(ص 123). الجواب: "الاقتصاد الاشتراكي هو فقط منْ يستطيع توزيع الدخل ليحقق اعظم رفاهية اجتماعية" عبر تأسيس مساواة حقيقية. السلطات ستكون صائبة في الافتراض ان "منحنيات المنفعة الحدية للدخل ستكون ذاتها لدى كل الافراد". الاساس في هذا الافتراض هو ان "الفروقات في الحساسيات الموجودة في المجتمع الحالي هي ناتجة اساسا من الفوارق الاجتماعية بين الطبقات". المساواة في الدخل دون التأثير على الفاعلية ستتحقق عبر دفع دخل نقدي متساوي لجميع المواطنين ومن ثم فرض اسعار للمهن ذات الامتيازات مثل "المتعة والآمان".
ايضا النظام الاشتراكي يمكنه وضع اسعار كي تلتقي الكلفة الخاصة مع الكلفة الاجتماعية، انه يستطيع ضبط الميل الحدي للتوفير كي يترك مجال للاستهلاك، ولكي يبدد مخاوف كنز، يستطيع النظام ايام الركود الحفاظ على الاستخدام عبر "برامج جريئة للاستثمار العام)، وستختفي دورة الاعمال من دراسة الاقتصاد الاشتراكي.
(لانك) اعترف بواحدة من عيوب الاشتراكية وهي ان كفاءة المسؤولين الحكوميين كمدراء للإنتاج تكون اقل بالمقارنة مع القطاع الخاص. لكنه قلل من شأن هذه المخاوف معتبرا هذا الموضوع يعود للسوسيولوجي وليس للنظرية الاقتصادية.
بول ساملسون 1915-2009
سنتناول نقد ساملسون -وهو احد عمالقة النظرية الاقتصادية- للاقتصاد السياسي. عمله في مجال النظرية العليا خاصة في الاقتصاد الرياضي ترك بصمات دائمة على الموضوع(7). هو ركز جهوده العملية على كتابة ومراجعة كتابه التدريسي "الاقتصاد" وهو افضل كتاب تدريسي في القرن العشرين. حياته العملية تُوجت بجائزة نوبل للاقتصاد عام 1970.
في كتابه "اسس التحليل الاقتصادي، 1947"وضع عبارة "الرياضيات لغة "ليشير الى اتجاهه في النظرية الاقتصادية: الرياضيات لا تسمح فقط بالعرض المحكم للنظريات الاقتصادية وانما تساعد ايضا في ضمان الانسجام الداخلي واكتشاف المتقابلات وتعميم النتائج.
في الفصل الثامن من "اقتصاد الرفاهية" حاول ساملسون حل مشكلة الكيفية التي ترتكز بها سياسة الرفاهية على النظرية الاقتصادية بالاستعانة بالرياضيات. نقطة البدء لديه كانت ان معظم الاقتصاديين شعروا بان "المنافسة التامة بدرجة ما جسدت موقفا مثاليا". مصطلح "مثالي" قصد به " حالة التوازن". لكن المنافسة التامة لم تكن كافية: كان لابد للمرء من رؤية ان "المنافسة التامة هي مثلى عندما يكون توزيع الدخل ملائما".
لذا لدينا الآن ثلاثة عناصر لتعظيم الرفاهية الاجتماعية في اقتصاد مغلق (لا يوجد فيه صادرات ولا استيرادات، كل ما يحتاجه البلد من سلع تُصنع محليا): منافسة تامة، توازن ثابت، وتوزيع اخلاقي – جميعها شروط اصطناعية عالية في اي موقف قابل للتصور. بالطبع، استحالة تحقيق هذه الشروط في اي موقف لسوق واقعي دفع ساملسون بسرعة للمطالبة بالتصحيح والتدخل والتنظيم.
1- المنافسة التامة تعني: لا متعامل يستطيع التأثير على الاسعار، وان السلع والموارد تامة التجزئة، وان هناك معلومات تامة. (في الحقيقة، بناء المنافسة التامة لم يُلاحظ في الواقع وانما جرى تعريفه ببطء كوسيلة تحليلية على مدى سنوات).
2- تعظيم الرفاهية سيتحقق عندما يكون الاقتصاد في توازن مستقر.
3- التوزيع العادل يصعب تعريفه حتى بالنسبة لساملسون. لاحظنا كيف ان (لانك) ارتكب كثير من التحريفات محاولا اختراع طريقة لمساواة الدخل دون التأثير على الفاعلية. (ساملسون استخدم بناءاً آخراً لحل المشكلة: دالة الرفاهية الاجتماعية).
لننظر في الشرط الثالث. دالة الرفاهية الاجتماعية Social Welfare Function التي تجسد رؤية اخلاقية عامة كنوع من الرفاهية التي يسعى اليها المجتمع. مختلف الناس يعطون للرفاهية الاجتماعية مختلف الاشكال: مثلا، قد يهدف احد ما الى اكبر مساواة ممكنة بين اعضاء المجتمع. حاليا، اصبحت فكرة ضرورة وجود وظيفة رفاهية اجتماعية كي يمكن تقييم عدالة الترتيبات في المجتمع بواسطة مراقب اخلاقي خارجي تواجه معارضة من الفرديين الحقيقيين. اذا نظرنا الى سياسات ساملسون التطبيقية، فان خطر التنوعية الفكرية اصبح واضحا. هناك ثروة من المقالات يمكن الاختيار منها في سبعة اعداد من مقالات علمية هامة لبول ساملسون. في العدد الثاني، مقالة بعنوان "حقائق الاقتصاد الحديث والفردية" هو انكر "مبدأ الانسجام " كونه غير عملي كليا.(السوق الحر هو عملية متناسقة). في العدد الثالث نجد مقالة حول "الحريات الفردية والحريات الاقتصادية في الاقتصاد المختلط"حيث هو يعرض كتاب فردريك هايك "الطريق الى العبودية" كرؤية شديدة التبسيط. في العدد الرابع، في مقالة بعنوان "الليبرالية في المواجهة" هو يشير الى ان آدم سمث كان خاطئا بالقول ان "نظام السوق التنافسي المتعلق بالافراد (الذرات) الذين بسعيهم لمصالحهم الضيقة، سيقود عبر يد لامنظورة الى تحقيق الخير للكل".(هو بالتأكيد لم يقرأ نظرية العواطف الاخلاقية).
اضف تعليق