q

الافكار تتبعها نتائج. لا احد يرفض هذا من الناس ولا حتى الفلاسفة. كذلك يُفترض صحيح ايضا ان ليس كل الافكار متساوية في النتائج. من بين الافكار الاكثر اهمية هي تلك التي تتعلق بأسئلة "الطبيعة الانسانية"، خاصة السؤال حول ما اذا كان الكائن البشري عدوانيا بطبعه ويميل للحرب. اذا كنا كذلك، وكانت الحرب او العنف امرا حتميا، عندئذ ستكون جميع جهود السلام بلا طائل، ولابد عندئذ من القبول بافتراض هوبز في حرب الجميع ضد الجميع، بالاضافة الى ما يتطلبه ذلك من مستلزمات الحرب، مثل تضخم ميزانيات الجيوش، واستنزاف الموارد المخصصة للسياسات المحلية، وافتراض الكراهية الدولية وما شابه.

تفسيرات امام التساؤل

في كتابه "ما وراء الحرية والكرامة" (1971)، كتب السايكولوجي B.F. skinner بان "لا توجد نظرية يمكنها تغيير ما تتعلق به النظرية ذاتها، الانسان يبقى كما هو دائما". هذا بالتأكيد يصح بشأن معرفتنا بالعالم المادي. قبل كوبرنيكوس وغاليلو وكبلر، رغم ان العديد من المفكرين البارزين اعتقدوا بنموذج بطليموس في مركزية الارض (الارض هي مركز الكون)، لكن خطأهم لم يغير الديناميكية الفلكية للنظام الشمسي، والذي استمر لاحقا ليمثل مركزية الشمس (الشمس هي مركز النظام)، بصرف النظر عن النظريات التي اعتقدها الناس حول ذلك. ونفس الشيء بالنسبة للجاذبية قبل وبعد نيوتن، الفضاء والزمن قبل وبعد اينشتاين، وغيرها.

وبالتأكيد، نفس الشيء ينطبق على نظريات الطبيعة الانسانية: غرائز الناس، بما فيها غرائز العنف، ستبقى مهما كانت بصرف النظر عما نعتقده بشأنها. لكن فيما يهم في هذه المسائل، هو ان الارتباط بين التوقعات والواقع يصبح اكثر تعقيدا، بسبب المخاطرة في ان نظريات الطبيعة الانسانية تغذي مباشرة عقول الناس لكونهم مسؤولين عن تكوين وضبط سلوكهم (ليس طبيعتهم) طبقا لذلك. انظر على سبيل المثال للعسكريين في البلد A المقتنعين بان الناس في البلد B خاضعين لغريزة الاندفاع نحو الحرب. وبالتالي، البلد A يرفض المشاركة في اية مفاوضات جادة مع البلد B مفضلا تسليح نفسه والاستعداد للحرب. بملاحظة افعال البلد A وبالاقتناع وبنفس المقدار ان مواطني A تسيطر عليهم ميول لا تُقاوم نحو الحرب، فان قادة البلد B يقومون بالشيء ذاته. كل جانب يشير للآخر في تبرير ميله للحرب، وبنفس الوقت كلاهما يؤكد افتراضاتهما غير المعلنة بان الحرب هي طبيعية وحتمية.

وباختصار، ان الخطر في افتراض ان الانسان القديم كانت لديه غريزة طبيعية للحرب هي انها قد تصبح نبوءة تدميرية متحققة ذاتيا، ليس فقط إغلاق جميع الحلول السلمية الممكنة للصراع وانما هي في الحقيقة تجعل الحرب اكثر احتمالا. ومع ذلك، ادّعاء الرؤية العلمية لأي شيء- بما فيها غريزة الانسان المفترضة نحو الحرب يجب ان تصمد او تسقط ليس وفق نتائجها السياسية والاجتماعية وانما وفق قدرتها وصلاحيتها العلمية. افتراض " الحرب هي في جيناتنا" ليس فقط غير صالح علميا وانما مشكوك فيه اخلاقيا.

أشار كارل ساغان carl sagan الى ان الادّعاءات الاستثنائية تتطلب دليلا استثنائيا. ويمكن تمديد ذلك القول بحيث ان الدعوات ذات النتائج الاجتماعية المدمرة ايضا تتطلب دليلا استثنائيا. هذا يجعل من المحزن خاصة ان تيارا هاما من الكتابات الاكاديمية الحديثة –معظمها مُنح صفة العلوم التطورية- اقترحت ان الانسان القديم هو عنيف بطبعه وميال للحرب. في السنة الماضية، على سبيل المثال، وفي مقالة نُشرت في المصلحة الوطنية National Interest بعنوان "ماذا يقول اقربائنا عن الحرب"، اجابت على سؤال "لماذا الحرب؟ "لأننا أناس" وفي نفس الوقت ادّعى مقال في New Scientist ان الحرب لعبت دورا تكميليا في تطورنا"، وهناك تقرير بحثي في مجلة العلوم Journal Science ادّعى ان "الموت في الحرب هو شائع جدا في المجتمعات البدائية الباحثة عن البذور لدرجة انه شكّل ضغطا تطوريا هاما على الانسان القديم.

لا شيء جديد هنا، ماعدا ان الادعاءات هي نوعا ما اقل صدمة من تلك التي في الماضي القريب. فمثلا، الانثربولوجي ريمون دارت Raymond Dart، الذي اكتشف اول متحجرات القرد الجنوبي عام 1924 لم يكن خجلا من استنتاج ان هذه البقايا القديمة لسلالة الانسان" أكّدت القتلة: مخلوقات آكلي اللحوم الذين سيطروا بالعنف على تلك الكائنات، فكانت العقوبة بالموت، يمزقون اجساد ضحاياهم ويقطعون اذرعهم، مشبعين عطشهم لدماء الضحايا الساخنة، ملتهمين بنهم تلك الاجساد التي تتلوى من الالم". في كتابه الواسع الانتشار، (التطهير العرقي الافريقي، 1961)، الكاتب Playwright Robert Ardrey اعتمد رؤية Dart عندما اعلن باننا "نحن اولاد آدم.. الانسان هو حيوان مفترس، غريزته الطبيعية هي القتل بالسلاح. انها الحرب والغريزة للاحتلال هي التي قادت للإنجازات العظمى للإنسان الغربي. الاحلام ربما شحذت حبنا للحرية، لكن الحرب والسلاح هما فقط من جلبها لنا".

وهناك بحث اكثر اهمية للانثربولوجي Napoleon chagnon، الذي عُرف بدراسته الممتدة لعقود حول "عنف" الناس القدماء Yanomamo people في غابات الأمازون المطيرة جرى تفسيرها على نطاق واسع كدليل بانك لو نبشت السطح الخارجي للحضارة، ستجد ان الناس وُلدوا بطبيعتهم قتلة. البروفيسور شاغان تميّز بالجرأة الفكرية والشجاعة، لكنه اسيء التعامل معه من جانب المؤسسة الانثربولوجية، واتُهم باشياء هو بريء منها كليا، معظمها بسبب استنتاجه ان ميل سلالة الناس القدماء في جنوب فنزويلا للحرب جاء بالضد من التفضيلات الايديولوجية للعديد من زملائه.

وعلى اية حال، وبعد خلافات كثيرة جرى قبول بحث شاغان – لدرجة ربما جرى تعميمه اكثر من اللازم. وهكذا، العديد من البايولوجيين وعلماء الاجتماع استنتجوا افتراضاتهم حول الانسان العاقل منطلقين من سلالة الانسان القديم في غابات فنزويلا، مجادلين ان ما يصح على السابق يصح على اللاحق ايضا. ومن الجدير بالملاحظة ان الخطأ الذي ارتكبه خبراء بارزون هو مساوي لفرضية البط البري والاستنتاج ان جميع البط البري لديه راس اخضر لامع. ان قبائل اليانومو هي عنيفة جدا، لكن العديد من جماعات العصر الحجري الحديث هي ليست كذلك، بما في ذلك جماعة Batek في غابات ماليزيا وجماعات Hadza في تنزانيا وMardu في استراليا وقبائل جنوب الهند الاصليين ومجتمعات الصيد وجمع الثمار وغيرها من الجماعات التي لا تقل انسانية عن اليانومو الذين جرى استخدامهم لإثبات شريرتنا المتأصلة. لكن بالطبع لا يوجد اساس للافتراض ان جماعات اليانومو هم أكثر تمثيلا "لظروف الانسان الطبيعية" منه الى الآخرين.

اخطاء منطقية مشابهة تحدث باستمرار عندما نأتي لاستنتاج العنف الانساني المتأصل من السلوك الملاحظ لعدد محدود من المخلوقات البدائية اللاانسانية. قرود مناطق السافانا في الغابات الاستوائية في شرق افريقيا كانت من بين المخلوقات اللاانسانية الحرة في معيشتها والتي دُرست بالصدفة، هي ايضا من بين الحيوانات الاكثر قساوة وعنفا. ونفس الشيء بالنسبة لدراسة Jane Goodall عن الشمبانزي الحر التي كشفت بالنهاية ان هذه الحيوانات تميل ايضا الى العنف الداخلي الكبير، بما في ذلك عمليات الاغارة المشابهة لحروب الانسان. ومن غير المدهش، ان يقود هذا البحث الى التعميم بان الكائن البشري ورث ميل القرود الافريقية والشمبانزي المتكرر للعنف. غير ان هذا الافتراض يواجه مشاكل كبيرة.

احد تلك المشاكل، هي ان الكائن البشري لم يتطور من القرود الافريقية ولا من الشمبانزي، وانما نحن نشترك بالنسب لكليهما، فلايوجد اي حيوان يمثل النسب الاصلي للانسان العاقل. كذلك، هناك مخلوقات لا انسانية اخرى، بما فيها غوريلا الجبال والوديان، والقرود الافريقية بانابوز (سميت في السابق شامبانزي pygmy) التي هي ليست عنيفة، والقرود الافريقية ليست اقل ارتباطا بالكائن البشري منه الى الشمبانزي. ان اختيار اي حيوان كنموذج لسلوك الانسان الطبيعي يكشف الكثير عن ايديولوجية الفرد الذي يعمل الاختيار قياسا ببايولوجيا الانسان.

ان تأثير الافتراس على الجماعات الحية الاخرى في بناء الاستعداد الذهني للانسان هو ايضا سؤال مفتوح. (الشمبانزي عادة يهاجم ويقتل الحيوانات الاخرى، بينما قرود الـ بونوبوز لا تقوم بذلك). ان بعض الانثربولوجيين يؤكدون على التأثير التكويني التطوري "للانسان الصياد"، بينما آخرون يجادلون ان "المرأة كجامع للبذور" قبل التاريخ وفرت الطاقة الغذائية الضرورية، وخلقت تأثيرا اكبر على تطورنا المبكر. ومهما يكن، لا بد من التمييز بين الافتراس ضمن جماعة الحيوانات وبين العنف الوحشي خارج تلك المجموعة من الحيوانات. رغم ان الاول هو بالتأكيد عنيف، لكن سلوك الكائنات المفترسة كما في الاسود هو مختلف كليا عندما تنال فريستها مقارنة في اشتراكها بمنافسة عنيفة مع الاسود الاخرى.

ميول غامضة

ما هي اذاً الحالة البايولوجية للانسان العاقل homo sapiens حين يقدم على العنف او الحرب؟ لسوء الحظ، الحقيقة هي غامضة، اي، تميل للإشارة الى اتجاهين متضادين. جماعاتنا الحية هي بالتأكيد قادرة على العنف سواء على المستوى الفردي (هجوم)، اغتصاب، قتل او على مستوى الجماعة (الحرب).

غير ان القدرة هي مختلفة جدا عن الضرورة – التي تنطوي على معنى اضطرام النار تحت السطح، باحثة عن فرصة للانفجار. مع ذلك، ليس هناك دليل مهما كان بان الكائن البشري الذي عاش حياته بانسجام ودون عنف، سيشعر بالحاجة لارتكاب التدمير تحت ضغط من جيناته المضطربة. وبنفس المقدار، هناك دليل آخر بانه على مستوى المجتمعات، الناس قادرون على رفض الحرب، طالما العديد من المجتمعات قامت بالضبط بذلك. ولكن يتضح ايضا ان الاختيار الطبيعي هيأ مخلوقاتنا لحب العنف تحت ظروف معينة. هذه تتضمن حالات المنافسة العالية على الموارد كالطعام، الوقاء، المناطق الجغرافية، على سبيل المثال، وفي ظل مختلف الظروف الاجتماعية الاخرى- مثلا- حين تكون قضايا المكانة الاجتماعية متوترة بما يكفي. نوع معين من الناس – ذكور الشباب البالغين – هم خصيصا حساسين لمثل هذه الضغوط. علاوة على ذلك، يجب التأكيد بانه اذا كان العنف الداخلي مرتبط مباشرة بالمؤثرات النيروبايولوجية البسيطة، التي تستلزم مناطق معينة من الدماغ يسهل تحديدها مثل جهاز عصبي وناقل معين للهورمونات، فان الحرب هي ظاهرة مختلفة كليا تتطلب اساسا عملية فكرية متقنة، وتخطيط مكثف، و تعاون اجتماعي هام، على الاقل بين من هم في نفس الجانب.

ورغم ان هناك سبب هام للاعتقاد بان الاختيار الطبيعي جهّز الكائنات البشرية مباشرة بآلية تقود بسهولة للعنف الفردي، لكنه لا يوجد هناك دليل بان الحرب كانت جزءا من الموروث البايولوجي لنا كسلالة للانسان. بالعكس، هناك دليل آخر بان الحرب هي نسبيا اضافة ثقافية حديثة للجماعات الانسانية اكتُسبت في العشرة آلاف سنة الاخيرة كنتيجة لعدة عوامل منها اختراع الزراعة بما ادى الى تراكم مصادر مادية ثمينة اصبحت عرضة للسرقة وتتطلب الدفاع عنها، الى جانب التمكن من بناء الهياكل الاجتماعية المتقنة اضافة الى تزايد تكنلوجيا الاتصال الفعالة، التنسيق والقتل. وحتى عندما تطور الانسان فهو اجاز بل وشجع في بعض الحالات السلوك العنفي. هو ايضا عزز الفعاليات الاجتماعية والميول بما فيها التضحية بالذات والتعاطف ومظاهر عديدة للتنسيق الاجتماعي والتعلم، العمل الحرفي وعمل الادوات وبناء البيوت وعوازل الحيوانات وانظمة خزن الطعام وتربية المحاصيل وتهجين الحيوانات.

وهناك فرضية ذات اهمية متزايدة تحدد التفكير الدقيق كشرط مسبق للنجاح في مخلوقات ذات تعاون اجتماعي عالي مثلما نحن لكوننا بذلنا ضغوطا اختيارية كبيرة قادت الى ظهور المستوى العالي للذكاء الانساني. وفي نفس الوقت، هذا الذكاء العالي رسم ايضا مرحلة لتطوير المزيد من الاساليب الحربية الدقيقة. اختراع السلاح النووي هو ذاته نصر لذكاء الانسان، بالاضافة لكونه تجسيد ساخر لقدرتنا على التعاون.

باختصار، في الحديث عن العنف والحرب، التطور نحو الانسان العاقل يمكن وصفه بآلة الرومان ذو الوجهين، الذي جسد اول شهر من كل سنة لأنه ينظر الى الخلف اي الى السنة التي انتهت لتوها وكذلك الى الامام الى السنة التي في بدايتها.

بالمشابه، موروثنا البايولوجي يمكن ان يدفع الكائن البشري اما نحو العنف او نحو السلام اعتمادا على الظروف. الشرط المسبق لذلك هو ان يحرر الناس انفسهم من الافتراضات السخيفة المخادعة ذاتيا وغير المدعومة علميا والقائلة بان مخلوقاتنا تميل بايولوجيا نحو عنف دائم.

هناك قصة تتحدث عن هذه المسألة وعن مسؤولياتنا المشتركة. تحكي عن فتاة شابة وقعت في شرك حلم متكرر فيه ذئبان يتقاتلان بعنف مع بعضهما. عندما نقلت الشابة القصة الى جدها وهو افضل حكيم في القرية، فسر لها بان هناك ذئبان داخل كل انسان، احدهما مسالم والآخر عدواني. هنا اصبحت الفتاة شديدة الاضطراب، فتوجهت بالسؤال الى جدها، ايهما الفائز؟. اجاب الجد: الفائز هو من تميلين اليه.

Philosophy Now, Dec 2015/Jan 2016

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق