المقاومة ضد النظام الدولي ليست بالأمر الجديد. ففي الولايات المتحدة الأميركية، أعربت الإدارات الجمهورية القادمة في أوائل سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عن ازدرائها للتعددية، وطالبت حلفاء أميركا المتطفلين المستغلين بدفع مزيد من الأموال مقابل المظلة الأمنية التي توفرها...
بقلم: هارولد جيمس
برينستون- لا أحد يشك في أن إدارة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب لن تبدي اهتماما كبيرا بالتعددية. فحتى أكثر المعينين توجها نحو العالمية مثل وزير الخزانة المعين سكوت بيسنت يعتقدون أن الغرض من الانخراط مع المؤسسات الدولية هو "الفوز". يجب أن تنخرط أميركا، ولكن فقط بالقدر الذي لا يسمح بتضرر مصالحها الخاصة.
يفترض النقد الأميركي النموذجي للتعددية أن النظام القائم معطل بشكل جوهري، وأن هناك حاجة قائمة إلى إحداث صدمة للمؤسسات الدولية لإزالة المخاطر التي تهدد المصالح الأميركية أو التحديات لوجهة النظر الأميركية. ولكن ماذا قد يحدث بعد الصدمة؟ ستنشأ الحاجة إلى مبادئ تنظيمية جديدة، وهي لن تأتي من مجرد مطالبة الجميع بالوقوف إلى جانب الولايات المتحدة.
من المسلم به أن التشخيص ليس خاطئا تماما. فضعف الجهود المتعددة الأطراف مؤخرا يعكس تفككا فكريا وسياسيا أشد عمقا. فبينما كان صندوق النقد الدولي يعقد اجتماع الخريف السنوي في أكتوبر/تشرين الأول 2024، عقدت مجموعة البريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا وأربعة أعضاء جدد) اجتماعا ضم 36 من القادة الوطنيين في قازان بروسيا، حيث تركز النقاش حول استبدال النظام النقدي الدولي القائم على الدولار.
في الوقت ذاته تقريبا، كان مؤتمر أطراف اتفاقية التنوع البيولوجي منعقدا في كالي بكولومبيا، وأعقبته قمة المناخ في باكو بأذربيجان التي أتت بنتائج عكسية، ثم قمة مجموعة العشرين غير المجدية في ريو دي جانيرو. لو كانت تعددية الأطراف تعمل على النحو اللائق، لكانت هذه المفاوضات كلها مُـجَـمَّـعة.
بيد أن المقاومة ضد النظام الدولي ليست بالأمر الجديد. ففي الولايات المتحدة الأميركية، أعربت الإدارات الجمهورية القادمة في أوائل سبعينيات وأوائل ثمانينيات القرن العشرين وأوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين عن ازدرائها للتعددية، وطالبت حلفاء أميركا المتطفلين المستغلين بدفع مزيد من الأموال مقابل المظلة الأمنية التي توفرها.
لم يُـخفِ ريتشارد نيكسون ووزير خزانته جون كونالي ازدراءهما للمؤسسات الدولية، بحجة أن العمل الأحادي الـمُـعَـطِّـل للقديم بدرجة كبيرة هو وحده القادر على تغيير الأمور. وقد بدأ علاجهم بالصدمة بامتياز في أغسطس/آب من عام 1971، عندما أنهى نيكسون قابلية تحويل الدولار إلى ذهب وفرض ضريبة عامة على الواردات. وتُركت البلدان الأخرى للتعامل مع عالم أصبحت فيه صادراتها أكثر تكلفة.
على نحو مماثل، في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، كان مستشارو رونالد ريجان يشككون علانية في صندوق النقد الدولي؛ وزعم كثيرون في فلك جورج دبليو بوش في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين أن الأزمة المالية الأخيرة في شرق آسيا أفقدت الصندوق مصداقيته، وأن تدفقات رأس المال الخاص من الممكن أن تلبي جميع احتياجات تمويل التنمية على أية حال.
ولكن في كل حالة، فَـرَضَت أزمة مالية حادة في نهاية المطاف إعادة النظر. ففي سبعينيات القرن العشرين، تسبب انخفاض قيمة الدولار في دفع منتجي النفط إلى رفع الأسعار، وكان لا بد من إنقاذ كثير من البلدان النامية المستوردة للنفط من خلال مرفق النفط الذي أنشأه صندوق النقد الدولي حديثا آنذاك. وفي عام 1982، أدى ارتفاع قيمة الدولار وارتفاع أسعار الفائدة الأميركية إلى إحداث أزمة ديون عامة، الأمر الذي دفع صندوق النقد الدولي إلى إعادة تشكيل نفسه لتلبية متطلبات اللحظة. وبحلول عام 1983، كان ريجان يشير إلى الصندوق باعتباره محور النظام المالي الدولي.
وأخيرا، اندلعت أزمة 2008 المالية العالمية في السنوات الأخيرة من رئاسة بوش. وسرعان ما اجتمعت الحكومات في إطار مجموعة العشرين وفي هيئات عالمية أخرى لاحتواء التداعيات ووضع قواعد جديدة للطريق.
بعيدا عن التاريخ القريب، نجد سببا أكثر جوهرية وراء استمرار تعددية الأطراف كضرورة أساسية. في عالم يبدو منقسما إلى كتل متناحرة، تركز معظم الدول عن حق على حماية مصالحها الخاصة. وبما أن تلك المصالح لا تتماشى بدقة مع مصالح أميركا أو الصين أو أي قوة عالمية طموحة أخرى، فإن الحكومات تريد الحفاظ على التواصل مع كل طرف في الصراع الذي يلوح في الأفق.
كانت ديناميكية مماثلة تكمن وراء حركة عدم الانحياز في حقبة الحرب الباردة، والتي جمعت بين الدول التي رفضت الاختيار بين أميركا والاتحاد السوفيتي. على نحو مماثل، تطورت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) من منطلق الحرص على ألا تضطر إندونيسيا إلى الانحياز إلى طرف دون الآخر، بل يمكنها أن تؤكد نفسها من خلال إقامة علاقات أقوى مع جيرانها. كما نشأت الجماعة الأوروبية، التي تطورت لتصبح الاتحاد الأوروبي، لأن الأوروبيين، على الرغم من تحالفهم مع الولايات المتحدة، لم يرغبوا في أن يكونوا امتدادا لها. وبحلول عام 2008، في خضم الأزمة المالية الجديدة، أرادت رابطة دول جنوب شرق آسيا أن تتحرك في اتجاه التحول إلى اتحاد على غرار الاتحاد الأوروبي.
حيثما نظرت في الوقت الحاضر، ستجد أن الرسالة هي ذاتها: لا نريد أن نختار جانبا، ولا ينبغي أن نُـجبَـر على ذلك. يزعم رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر عن حق أن اختيار المملكة المتحدة بين أوروبا والولايات المتحدة "خطأ بَـيّـن". في الرد على ذلك، يقترح ستيفن مور، مستشار ترمب، أن على البريطانيين أن يختاروا الاشتراكية الأوروبية أو الأسواق الحرة على النمط الأميركي. ولكن مع ملاحقة كل حكومة الآن لشكل ما من أشكال السياسات الصناعية، يصبح هذا التقارب محض وهم.
تجلب الوقائع التاريخية الصعبة إدراكا لحقيقة مفادها أن العالم لا يُبنى حقا على حسابات محصلتها صفر. وقد عبّر وزير الخزانة الأميركي هنري مورجنثاو عن ذلك بأناقة في مؤتمر بريتون وودز الأصلي: "الازدهار، مثله كمثل السلام، غير قابل للتجزئة. ونحن لا نملك ترف السماح بتبعثره هنا أو هناك بين المحظوظين أو الاستمتاع به على حساب آخرين". في الأشهر الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، رأى قادة الولايات المتحدة أنهم لا يستطيعون كسب السلام بالعمل فقط مع أولئك الذين تبنوا قواعد اللعبة الأميركية.
إذا كانت دولة قوية مثل الولايات المتحدة في عام 1945 لا تزال في احتياج إلى كسب الأصدقاء والتأثير على الناس، فمن المؤكد أن أميركا اليوم تحتاج إلى ذات الشيء. إن علاج التعددية بالصدمة من شأنه أن يجلب قدرا عظيما من الإرباك؛ ولكن بعد ذلك، يجب أن يجلب مزيدا من التعاون الدولي، لأنه لا يوجد بديل.
اضف تعليق