إن ما نراه ليس النهاية، بل البداية فاتحة عصر جديد، للتنافس على التفوق العالمي، حيث تجد إمبراطوريتان عظيمتان أن مناطق نفوذهما أصبحت على تلامس متزايد مع بعضها البعض وربما تتداخلان، جواً وبحراً. قمة الرئيسين بايدن وشي، في المدينة التي ينظر إليها على أنها تعطي لمحة عن مستقبل أميركا...
بقلم: ماري ديجيفسكي
القمة التي جمعت الرئيس الأميركي مع نظيره الصيني قد تدل إلى تحول كبير في موازين القوى العالمية
إذا نظرنا إلى الأحداث، فقد يتبين أن هذا اللقاء كان الأكثر أهمية ليس فقط في هذا الأسبوع، لا بل في هذا الشهر وهذا العام، هذا اللقاء لم يحدث في الشرق الأوسط أو أوكرانيا، المنطقتين اللتين تهيمنان على أخبار وسائل الإعلام الغربية حالياً، بل في مكان بعيد جداً عن منطقتي الصراع المذكورتين.
في اجتماع أكد عقده في اللحظة الأخيرة فقط، عبر الرئيس الصيني شي جينبينغ المحيط الهادئ لإجراء محادثات مع رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، في مزرعة بضواحي سان فرانسيسكو.
وكانت هذه هي المرة الأولى التي يجتمع فيها الزعيمان منذ عام، ولكن الفاصل الزمني هذا لاجتماع الزعيمين ليس بالأمر غير المألوف [غير الاعتيادي]. لكن ما جعل هذا الاجتماع حدثاً تاريخياً هو الشكوك في إمكانية [استبعاد احتمالات] حدوثه من الأساس، واستعداد شي للسفر إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى التحولات الكبيرة في ديناميكيات القوة العالمية التي حدثت خلال ذلك العام.
أما لماذا لم تتسبب هذه القمة بين زعيمي قوى عظمى إلا في ردود فعل قليلة نسبياً في أوروبا، فقد يعود الأمر لأسباب عدة، منها الانشغال بالحروب القريبة، وعلى رغم أن الأمر قد يبدو سخيفاً، فإن فارق التوقيت قد يكون سبباً آخر، فقد وصل الرئيس شي بموكبه الضخم إلى سان فرانسيسكو بينما كان الوقت في معظم أنحاء أوروبا متأخراً. وعقد الرئيس الأميركي المؤتمر الصحافي الختامي في اليوم التالي، ولم يكن هناك ظهور مشترك مع شي، في وقت كان فيه معظم الأوروبيين نياماً.
ومن جهة أخرى، فإن الجانب السلبي لبث الأخبار على مدار الساعة وطيلة أيام الأسبوع، قد يعني أن تغطية حدث ما قد لا يستمر بثها في الأخبار حتى اليوم التالي، وبخاصة عندما تكون الصور عبارة عن محادثات رسمية، بدلاً من الدراما ورعب الحرب. لكن يمكن القول، إن أحد أهداف هذا الاجتماع هو درء خطر الحرب، وهو أمر أكده بايدن بطريقة ما، حيث قال للصحافيين: "مسؤوليتي هي أن أجعل هذه العلاقة عقلانية ومعقولة، كي لا تؤدي إلى صراع، هذا هو هدفي".
ومن بين نقطتي الاتفاق الوحدتين المعلن عنهما، كان الاتفاق المتعلق بصادرات مكونات عقار الفنتانيل، وهو الموضوع الذي كان يعكس قلقاً داخلياً في الولايات المتحدة مع دخول البلاد عام الانتخابات [الفنتانيل عقار يوصف كمسكن للألم الشديد، لكن مكوناته يمكن استخدامها أيضاً في صناعة المخدرات. يعتبر العقار كمخدر السبب الرئيس في وفيات الأميركيين بين سن 18 و49 سنة. واعتبر تقرير أميركي أن الصين كانت المصدر الأساس لاستيراد العقار بشكل غير قانوني في الولايات المتحدة].
أما الاتفاق الآخر، فهو الاتفاق المتعلق باستئناف الاتصالات بين الجيشين، والتي عُلقت بعد زيارة نانسي بيلوسي [رئيسة مجلس النواب الأميركي حينها] إلى تايوان عام 2022، فقد نجح لقاء القمة في استعادة بعض العلاقات الطبيعية المرحب بها بعد عام من العلاقات المتوترة. لكن المؤشرات الأكثر أهمية لما تمت مناقشته خلال اللقاء جاءت في البيانات اللاحقة من المسؤولين في البلدين.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، بدا أن الهدف الرئيس هو الإشارة إلى عدم وجود تغيير، وبخاصة عدم وجود ضعف، في ما يتعلق بالدفاع عن تايوان، وهو ما بدا أكثر وضوحاً في ظل اللقاء من أي وقت آخر. وهناك وجهة نظر واسعة الانتشار في الغرب مفادها أنه إذا شعرت الصين أن الدعم الأميركي لأوكرانيا أو إسرائيل بدأ يضعف، فإنها قد تحاول إعادة دمج تايوان عاجلاً وليس آجلاً. من ثم فإن الولايات المتحدة قد تجد نفسها مكشوفة في وقت واحد على ثلاث جبهات، أمام روسيا في شأن أوكرانيا، وإيران في شأن إسرائيل، وأمام الصين في ملف تايوان، ولكن من وجهة نظري [الكاتبة] فأنا لا أرى أي صلة معينة، حقيقية أو محتملة، بين [هذه الملفات أو الجبهات] أوكرانيا و/أو إسرائيل وتايوان.
ويبدو لي أن ما قاله شي جينبينغ بنفسه، وما نقل عنه، له نفس أهمية الإعلان عن عدم التغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه تايوان. ولم يتضمن ذلك [ما ورد عن الرئيس شي] إنكار وجود أي جدول زمني لدى الصين "لإعادة التوحيد" مع تايوان فحسب، بل وأيضاً تصريحات مفادها أن الصين والولايات المتحدة لا ينبغي أن ينظر إليهما باعتبارهما متنافسين، وأن "كوكب الأرض شاسع ويتسع لإحراز البلدين النجاح".
وقال شي جينبينغ: "ليس لدى الصين أي خطط للتفوق على الولايات المتحدة أو إطاحتها، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تخطط لقمع الصين أو احتوائها". وما يوحي به هذا هو أن الصين أيضاً، وليس الولايات المتحدة وحدها، ترى أن الأحداث الحالية ربما تنذر بنقطة تحول ما في توازن القوى العالمي.
في الشهر الماضي، في خطابه بعد هجمات "حماس" على إسرائيل، أشار الرئيس بايدن إلى ما سماه نقطة انعطاف في التاريخ، "واحدة من تلك اللحظات التي سترسم وجه القرارات التي نتخذها خلالها، المستقبل لعقود مقبلة". ويبدو أن الرئيس شي جينبينغ يجمع في الرأي على خطورة المرحلة الحالية ويهتم بشكل كبير بالحد من المخاطر.
ويمكننا الآن أن نستشهد بالتصريحات، وبخاصة الصور، من اجتماع بايدن ونظيره الصيني، ونستنتج أن القوة العالمية تنتقل فعلاً، وربما انتقلت بالفعل، من الولايات المتحدة المتدهورة إلى الصين الصاعدة. وهناك بعض الصور الواضحة: رئيس صيني نشيط ويتمتع بصحة جيدة بشكل ظاهر، ورئيس أميركي أقل صحة إلى حد ملحوظ. كان بيان بايدن لوسائل الإعلام مقتضباً، بل وسطحياً. لقد تعثر واعترف بضعف الذاكرة ولجأ بشكل متكرر إلى الملاحظات [المدونة أمامه]. وبصراحة، من العسير توقع أن يمسك بمقاليد سلطة الرئاسة لمدة أربع سنوات أخرى.
لكن يبقى من السابق لأوانه أن نعلن أن تغيير النظام العالمي قد حدث بالفعل. من المؤكد أن الصين كانت أكثر نشاطاً ووسعت نطاق عملها الدبلوماسي خلال العام الماضي، وقد فعلت ذلك بنجاح غير متوقع بالنسبة إلى كثيرين.
ففي الشرق الأوسط، لعبت بكين دور الوسيط لاستئناف العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران. وكذلك قدمت خطة لوقف إطلاق النار في أوكرانيا في الذكرى السنوية الأولى للغزو الروسي، كما وطد الرئيس شي جينبينغ تواصله مع الرئيس بوتين، عبر [اللقاء] شخصياً وعبر الهاتف. لقد كانت الصين أيضاً نشطة في مجموعة "بريكس" وبرزت أكثر فأكثر كنواة في الأمم المتحدة، إن لم تكن زعيمة فعلية، لما يسمى بالجنوب العالمي أو "غير الغرب"، وهي مجموعة كبيرة من البلدان التي رفضت الانحياز إلى أحد الجانبين في أوكرانيا، واتهمت الدول الغربية بازدواجية المعايير في ما يتعلق بالدولة الفلسطينية.
وعلى رغم أن الصين تعمل بلا أدنى شك على تعزيز ثقلها الدولي، فمن السابق لأوانه التنبؤ الموثوق بما إذا كان صعودها الحالي سيستمر بنفس السلاسة أو إذا ما كانت هيمنة الولايات المتحدة في طريقها إلى الأفول النهائي. فالولايات المتحدة لا تزال تتمتع بقوة اقتصادية وعسكرية متفوقة، ولا يزال نموذجها السياسي يعمل كنقطة جذب لكثيرين. ومن ناحية أخرى، تواجه الصين بشكل مفاجئ اقتصاداً متعثراً ومخاوف ديموغرافية [سكانية] قد تدعو إلى التشكيك في سرعة أو حتى احتمال، أي صعود آخر [الطعن في احتمال تربع أي قوة على سدة السلطة العالمية].
إن ما نراه هو بالأحرى ليس النهاية، بل البداية [فاتحة عصر جديد]، للتنافس على التفوق العالمي، حيث تجد إمبراطوريتان عظيمتان أن مناطق نفوذهما أصبحت على تلامس متزايد مع بعضها البعض وربما تتداخلان، جواً وبحراً. قمة الرئيسين بايدن وشي، في المدينة والولاية التي ينظر إليها على نطاق واسع على أنها تعطي لمحة عن مستقبل أميركا، اختتمت هذا الأسبوع بهدوء لإعطاء الأفضلية للتعايش السلمي والحذر.
ولكن هذه الحال قد لا تدوم. وإن حدث وقيض لها الاستدامة، فهي السبب وراء أن هذا اللقاء، الذي حدث بعيداً من الأضواء إلى حد كبير في وقت وصفه بايدن بأنه "نقطة انعطاف في التاريخ"، قد يتبين أنه أكثر أهمية بكثير مما بدا هذا الأسبوع.
اضف تعليق