ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يقرروا ما إذا كانت إعادة فرض عقوبات أممية على إيران تستحق المجازفة بحمل إيران على إنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع سلاح نووي، وخروجها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما كانت طهران هددت به رداً على العقوبات. وسيكون على إيران أن...
بقلم: إيريك بروير، هنري روم
بعدما حاولت لأكثر من عامين بعث الاتفاق النووي الإيراني عام 2015 وفشلت في ذلك، يبدو أن إدارة بايدن خلصت إلى أن الاتفاق بات غير قابل للإنعاش.
وامتنعت طهران في مارس (آذار) ومرة أخرى في سبتمبر (أيلول) 2022 من إحياء الاتفاق المعروف باسم خطة العمل الشاملة المشتركة، وبدلاً من ذلك قدمت مطالب جديدة كانت تعلم، على الأرجح، أن الحكومات الغربية لا تستطيع تلبيتها.
ومنذ ذلك الحين، قمعت إيران بوحشية الاحتجاجات المناهضة للحكومة في الداخل، وقدمت المساعدة العسكرية لروسيا مما بدد كل ما تبقى من الحماسة لاستعادة خطة العمل الشاملة المشتركة في العواصم الغربية.
وأعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أخيراً في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أن الاتفاق لم يبق على قيد الحياة، وقال "لقد مات".
وفي وقت تعثرت المفاوضات تقدم البرنامج النووي الإيراني بشكل غير مسبوق، وفي بعض الأحوال على نحو لا رجعة فيه، ومنذ انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترمب من الاتفاق عام 2018، بلغت إيران مراحل رئيسة على طريق الصناعة النووية خصوصاً خلال العامين الماضيين، وقامت بتخزين مئات الأرطال من اليورانيوم العالي التخصيب وتركيب الآلاف من أجهزة الطرد المركزي المتطورة، ويمكن لإيران أن تنتج كمية كافية من اليورانيوم الذي يصلح لصنع الأسلحة وتطوير قنبلتها الأولى في غضون أسابيع، وكميات أخرى للقنابل اللاحقة بعد ذلك بوقت قصير.
ولم تسدد إيران أي ثمن تقريباً خلال الأشهر الأخيرة لقاء اجتيازها مراحل التقدم النووي هذه، لا بل على العكس من ذلك تحسن موقعها الجيوسياسي، وعززت صلاتها بالصين وروسيا وطبعت العلاقات مع بعض جيرانها، بما فيهم منافستها الإقليمية السعودية.
ولا يخفى سبب اعتقاد المرشد الأعلى علي خامنئي أن في مقدوره التمتع بثمرات الصناعة النووية من دون المعاناة من سلبيات هذه الصناعة، معاً.
إذا كانت إدارة بايدن تخلت عن الخطة (أ)، وهي إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي)، فهي تجنبت تغيير اتجاهها لتميل نحو الخطة (ب) التي اقترحها كثير من المحللين والمسؤولين الإسرائيليين، وقوامها مراكمة الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري على طهران.
لكن بدلاً من ذلك اختارت الإدارة الخطة (ج)، أي الحؤول دون أسوأ نتائج المواجهة النووية مع إيران مع الاحتفاظ بإمكان حل المسائل المتعلقة في المستقبل. وتسعى واشنطن إلى منع إيران من إنتاج قنبلة وتجنب التصعيد المحفوف بالأخطار الذي قد ينجم عن زيادة الضغط وإرجاء بت القضية والتوسل بحل دبلوماسي على أمل أن تنضج شروط صفقة جديدة لتحل محل خطة العمل الشاملة المشتركة، وتكون أكثر ملاءمة مع مرور الوقت.
ولكن حتى لو نجحت الخطة (ج) فهي لن تتحقق من دون بعض الكلف، وستسمح لإيران بالمضي في تطوير برنامجها النووي بخطى ثابتة، وتخرج في الوقت نفسه من عزلتها الاقتصادية والسياسية. وبدلاً من إرساء الأساس لعقد اتفاق يؤدي إلى نقيض برنامج طهران النووي.
تجازف هذه الإستراتيجية بترسيخ مكانة إيران كدولة على عتبة الإنتاج النووي، فعلى الولايات المتحدة والدول الأخرى المعنية أن تضاعف جهودها الرامية إلى منع إيران من إنجاز خطوات حاسمة على طريق حيازة سلاح نووي، وإلى تعقيد جهود طهران الرامية إلى شق شريان اقتصادي جديد وتطبيع وضعها النووي.
ويوفر هذا النهج أفضل فرصة لتجنب أسوأ سيناريوهات تسلح إيران النووي أو نشوب حرب في الشرق الأوسط، مع الإبقاء على إمكان التوصل إلى نوع من الاتفاق الدبلوماسي في المستقبل.
حدود الخطة (ج)
ويعبر تبني إدارة بايدن للخطة (ج) عن رغبتها في تجنب إثارة أزمة من شأنها أن تصرف الانتباه عن الأولويات الأخرى وعن أن الصفقة التي تعتبر الخيار الأفضل، فهي قد توجه التقدم النووي الإيراني في اتجاه يخالف اتجاهه حالياً، وتفرض قيوداً صارمة وإجراءات شفافة على البرنامج ستظل بعيدة المنال وباهظة الثمن في المستقبل المنظور، وبعبارة أخرى تعد الخطة (ج) شبه إقرار بأنه على رغم أن الوضع الراهن ليس جيداً إلا أن البدائل قد تكون أسوأ بكثير.
وكانت إدارة بايدن عزمت على تحويل انتباهها بعيداً من الشرق الأوسط نحو المنافسة مع الصين وروسيا حتى قبل اندلاع الحرب في أوروبا، ورأى المسؤولون الأميركيون أن المواجهة الرئيسة مع إيران ستؤدي إلى استنفاد الطاقة المتوافرة وتحول الموارد بعيداً من القضايا البارزة، ولدى الإدارة أهداف أخرى في الشرق الأوسط قد تكون فرصة نجاحها أفضل، مثل التوسط لإبرام تتمة لـ "اتفاقات أبراهام".
لذا كان "خفض التصعيد" هو شعار السياسة الأميركية تجاه إيران، وترجم هذا الشعار عملياً إلى تطبيق متساهل للعقوبات النفطية الأميركية على إيران، وردود كبحت على الهجمات التي تعرضت إليها القوات الأميركية في سوريا والعراق من قبل وكلاء إيران.
ووافقت الولايات المتحدة على النزول عن مراقبة طهران في اجتماع مارس (آذار) لمجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وذلك بعد أن كشف عن أن إيران أنتجت طوال مدة قصيرة مواد مخصبة بنسبة 84 في المئة. ومع أن هذه أقل قليلاً من نسبة الـ 90 في المئة، وهي النسبة الضرورية للتصنيع العسكري، إلا أنها مرتفعة بما يكفي لاستخدامها في صناعة قنبلة إذا أنتجت كميات منها تفي بالحاجة، كما سمح لإيران بالحصول على بعض أموالها المجمدة في العراق لقاء سماح طهران بزيادة قليلة وغير كافية في المراقبة الدولية لبرنامجها.
،، إذا أمكن ردع إيران بوسائل أخرى فقد يكون إبرام الاتفاق أقل إلحاحاً ،،
قد تعتقد إدارة بايدن أنها تستطيع تفادي السيناريو الأسوأ، أي صناعة سلاح نووي إيراني، من طريق الإصرار على الحظر إلى النهاية، وفي حال استمرت إيران في زيادة مخزونها من اليورانيوم فإن واشنطن تأمل في أن تؤدي مجموعة متضافرة من الأسباب إلى الحؤول دون إنتاج طهران مواد قابلة للاستخدام في صناعة قنبلة.
ومن هذه الأسباب التدريبات العسكرية المشتركة مع إسرائيل، علاوة عن التهديدات الإسرائيلية باستخدام القوة العسكرية ضد إيران، وتكرار التصريحات بأن الولايات المتحدة لن تسمح لإيران بحيازة هذا الصنف من السلاح، وتحذيرات أوروبا من أن تخصيب اليورانيوم بنسبة 90 في المئة قد يحمل على إعادة فرض عقوبات الأمم المتحدة، والأرجح أن يستغرق إنتاج إيران سلاحاً نووياً قابلاً للإطلاق مدة بين عام وعامين.
وينطوي هذا الجهد على المجازفة بافتضاح أمره على المستوى الدولي، وقد يكون هذا عاملاً مثبطاً إضافياً لمحاولة طهران إنجاز اختراق نووي، وإذا أمكن ردع إيران بوسائل أخرى فقد يكون إبرام الاتفاق أقل إلحاحاً.
وإذا تعاظمت الكلفة السياسية التي تترتب على صفقة فقد تجددها هذه الكلفة، ولم تحظ خطة العمل الشاملة المشتركة بالشعبية في الكونغرس الأميركي على الإطلاق، ولكن إدارة بايدن كانت مستعدة في البداية للتعرض لبعض الأضرار لقاء إحياء الاتفاق إلا أن الظروف تغيرت، ومن الصعب على الإدارة أن تطلب من الكونغرس دعم اتفاق نووي من شأنه أن يؤدي حتماً إلى إثراء دولة تعتبر أكبر مصدر لإمدادات موسكو العسكرية، ولا تزال ذكرى رد فعل طهران العنيف على الاحتجاجات الحاشدة العام الماضي حية.
تواصل إيران ارتكاب انتهاك حقوق الإنسان، بما في ذلك إعدام المتظاهرين، ونظراً لاقتراب موعد الانتخابات الأميركية عام 2024 فالأرجح أن إدارة بايدن غير راغبة في خوض معركة في الكونغرس، لا سيما من أجل صفقة تحوي بشكل شبه مؤكد قيوداً على النشاط النووي الإيراني أقل من تلك التي تنص عليها خطة العمل الشاملة المشتركة الأصلية.
والأمل في أن تنضج الحلول الدبلوماسية بمرور الوقت جزءاً لا يتجزأ من الخطة (ج)، وقد تتدهور الأوضاع الداخلية في إيران بسبب العقوبات وسوء الإدارة الاقتصادية، كما أن النظام الايراني يجهد بعسر في محاولة تلبية حاجات الايرانيين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الأساس، مما يضمن عملياً اندلاع الاحتجاجات الكبرى من جديد.
وقد تقنع مجموعة من هذه العوامل النظام في نهاية المطاف بالسعي إلى التوصل لاتفاق، وقد تؤدي النهاية المحتملة للحرب الروسية في أوكرانيا إلى إضعاف المعارضة في الولايات المتحدة [للتعامل بطرق] دبلوماسية مع إيران.
النجاح الكارثي
ولا يزال تعثر الخطة (ج) ممكناً، وقد تبدأ إيران في مراكمة اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة، إما لأنها تعتقد أن الولايات المتحدة لن ترد على مثل هذا الاستفزاز، وإما لأن تنفيذ إسرائيل اغتيالاً أو هجوماً سرياً قد يغضبها، وهذا قد يقود بدوره إلى دورة من التصعيد تفضي إلى هجوم عسكري أميركي أو إسرائيلي على المواقع النووية الإيرانية.
غير أن النجاح، ومظهره هو عدم وجود قنبلة إيرانية، في لجم التصعيد ووجود احتمال الاعتماد على الدبلوماسية في مرحلة ما في المستقبل تصاحبه تحدياته الخاصة، ولن يكون الوقت بالضرورة في مصلحة الولايات المتحدة، وبينما واشنطن أسيرة الانتظار فإن إيران تعزز برنامجها النووي وتقوي علاقاتها بالصين وروسيا، وتستغل الضغوط الناجمة عن العقوبات الضعيفة في كسر عزلتها عن بقية العالم.
وكانت إيران على استعداد لتقييد نشاطاتها النووية عندما اعتقدت أن الاستمرار فيها ينطوي على مجازفة كبيرة، وكان في متناولها مخرج دبلوماسي يركن إليه، بيد أنه من المستبعد أن تتحقق مثل هذه الظروف في وقت قريب، والحق أن إيران قد تعتقد أن سياسة حافة الهاوية التي تنتهجها أخذت تؤتي ثمارها أخيراً.
وستستمر إيران خلال الأشهر المقبلة في تحسين برنامجها النووي المتقدم من خلال توسيع مخزونها من اليورانيوم المخصب، وتعزيز قدرات تصنيع أجهزة الطرد المركزي، وعزل منشآتها بشكل أفضل [لحمايتها من] الضربات العسكرية.
كما ستواصل طهران مراكمة المعرفة القيمة من طريق تشغيل أعداد أكبر من أجهزة الطرد المركزي المتطورة، وستجعل هذه الخطوات مجتمعة من الصعب على المجتمع الدولي تقليص برنامج إيران النووي، ومن الممكن القضاء على المواد النووية غير أن القضاء على المعرفة النووية غير ممكن.
ومن الناحية النظرية سيكون لدى طهران مزيد من أوراق المساومة لتستعملها في أية مفاوضات مستقبلية من خلال تطوير برنامجها النووي، إلا أن القادة الإيرانيين قد يحجمون عن مقايضة تقدم [محتمل] على طريق صناعة قنبلة لقاء أي ثمن مقابل.
ومنذ أوقفت إيران برنامج صنع القنابل عام 2003، كان هدفها النووي النهائي في الغالب أن تصبح دولة نووية "فعلية" أو على "عتبة" [انتاج أسلحة نووية]، أي دولة يمكنها بناء أسلحة نووية بسرعة إذا احتاجت إلى ذلك، وهذا بالنسبة إلى طهران ليس معياراً تقنياً وحسب، بل هو معيار سياسي يجبر العالم على قبول الوضع النووي الفعلي لإيران بحكم الأمر الواقع، ويقلص الضغط الدولي على النظام.
وانطلاقاً من اعتقادهم بأنهم ماضون نحو تحقيق هذا الهدف فقد لا يرى القادة الإيرانيون أن ثمة داعياً قوياً يدعوهم إلى تفكيك برنامجهم النووي، لا سيما أن تخفيف الولايات المتحدة العقوبات أمر مقلق وغير موثوق، ويتوقف على سيد البيت الأبيض.
العلاقات مع أشخاص نافذين
وقد تؤدي الرياح الجيوسياسية المتغيرة إلى مزيد من تصلب إيران ومعارضتها الاتفاق، وعلى رغم أن الصين وروسيا مستمرتان في الغالب في معارضة سلاح نووي إيراني، وكلاهما يتدخل في المحافل الدولية أكثر فأكثر لمصلحة إيران، ويؤدي تعاونهما معها إلى إضعاف نظام العقوبات الذي قد يقنع طهران إذا بقي قوياً، بالوصول إلى اتفاق نووي.
ومن المرجح أنه لم يبق متسع لحصول تعاون بين الصين وروسيا وبين الأعضاء الدائمين الآخرين في مجلس أمن الأمم المتحدة وألمانيا، من جهة أخرى، لاحتواء إيران، على شاكلة ما فعلت هذه الأطراف حين فاوضت على الاتفاق النووي عام 2015.
وصب الغزو الروسي لأوكرانيا في مصلحة إيران، فهو فاقم اعتماد موسكو على قدرات طهران العسكرية، وفي مقابل مئات الطائرات الإيرانية المسيرة وشحنات الذخيرة، دعمت روسيا إيران سياسياً ومالياً وتكنولوجياً بتكنولوجيا غربية استولت روسيا عليها في المعارك الأوكرانية، وهي تنظر حالياً في بيع إيران أسلحة متقدمة مثل الطائرات المقاتلة وتكنولوجيا الصواريخ، كما أن دوام عزلة روسيا عن الغرب في المستقبل المنظور يزيد نفوذ طهران على موسكو.
وستستمر منافسة إيران وروسيا في أسواق السلع العالمية، ولكن من المرجح أن تتعمق علاقاتهما الاقتصادية، وفي وقت تسعى الولايات المتحدة إلى تفكيك شبكات الالتفاف الروسية على العقوبات، تعزز موسكو طرق التجارة والعلاقات المالية الأخرى التي تتجنب القيود الأميركية وتتعاون مع إيران.
وتعمل إيران، إلى هذا، على توسيع علاقاتها مع الصين، وتعد هذه العلاقات شريان حياة إيران الاقتصادي الأساس، وقد استوردت الصين إلى اليوم في العام الحالي نحو مليون برميل من النفط الإيراني الخام في اليوم والمكثفات (هيدروكربون سائل خفيف جداً)، أي حوالى 80 في المئة من الصادرات الإيرانية.
وتحظر العقوبات الأميركية هذه التجارة، بيد أن واشنطن لم تطبق هذه العقوبات، وارتفعت أحجام الطاقة [التي تصدرها الى الصين] كثيراً خلال العامين الماضيين، وكلما طال امتناع واشنطن من التدخل رسخت هذه التجارة وازدادت مرونة.
ولم تقدم بكين وموسكو لطهران الدعم الاقتصادي الذي كانت ربما ترغب فيه هذه، ولا يستبعد أن تقوض القيود التجارية والسياسية التعاون معها في المستقبل.
وإلى ذلك، لا تكافئ هذه العلاقات المنافع التي تجنيها إيران من تخفيف العقوبات المترتب على اتفاق نووي شامل، وهي لا تريح إيران من ضائقتها الاقتصادية على المدى القريب، وطالما حسبت إيران أن الصين وروسيا تعطيانها أكثر مما تقدر الولايات المتحدة وأوروبا على إعطائها، فمن المرجح أن تمضي على تعاونها معهما إلى آخر الشوط.
التطبيع من دون نزع الأسلحة النووية
والديناميات في جوار إيران المباشر تصب كذلك في مصلحة طهران، وهي قامت العام الماضي بتطبيع علاقاتها مع الكويت والسعودية والإمارات العربية المتحدة، وأدى التطبيع هذا إلى خفض التوترات الإقليمية في الجوار.
ويمكن لاتفاق طهران مع السعودية، بوساطة الصين في مارس الماضي، بخاصة أن يقلص التهديدات الصاروخية التي تطاول المدن السعودية، ويعزز فرص حل النزاع في اليمن على افتراض التزام إيران بالاتفاق.
وعلى رغم أن الولايات المتحدة تشاطر [دول المنطقة] هدف خفض التصعيد الإقليمي، يؤدي تحقيق الانفراج في الخليج العربي إلى تعقيد عمل واشنطن التقليدي في مجال الدبلوماسية النووية، وقد حاولت إدارة بايدن ودول الخليج تأطير اتفاق نووي كشرط أساس لتحفيز علاقات سياسية واقتصادية أوسع [مع إيران]، وهي معادلة قوضتها اتفاقات التطبيع الأخيرة.
وعلى سبيل المثال تسعى الإمارات العربية المتحدة نحو زيادة التجارة مع إيران، ويقول مسؤول إماراتي إن بلاده هي الشريك التجاري الأول لإيران مما يجعلها تتفوق، من هذا الوجه، على الصين.
وقال وزير المالية السعودي محمد الجدعان بعد مدة وجيزة من إعلان اتفاق التطبيع إن هناك "كثيراً من الفرص للاستثمارات السعودية في إيران"، وزار وزير الشؤون الاقتصادية والمالية الإيراني إحسان خاندوزي في مايو (أيار) الرياض لمناقشة سبل توسيع الروابط الاقتصادية.
وعلى رغم أن العقوبات الأميركية ستستمر في إعاقة التدفقات الاقتصادية، فقد تكون دول الخليج أكثر استعداداً لاختبار مدى العلاقات الذي ترضى به واشنطن مع الوقت.
ومن المرجح أن تشعر إيران بالارتياح إلى وضعها غداة أكتوبر (تشرين الأول) حين ترفع قيود الأمم المتحدة على برنامج الصواريخ الباليستية والعقوبات ذات الصلة، بحسب ما هو مقرر.
وتشمل هذه القيود بنداً تنتهكه إيران حالياً، ويحظر عليها شحن الطائرات المسيرة إلى روسيا، وإذا قبلت الحكومات الغربية بانتهاء صلاحية هذه القيود من غير خطة بديلة، فقد تغامر بإبلاغ القادة الإيرانيين أن النهج الذي يتبعونه يؤتي ثماره.
،، تتدخل الصين وروسيا بشكل متعاظم في المحافل الدولية لمصلحة إيران ،،
من ناحية صناع السياسة الغربيين فيرجح أن يحسبوا الصفقة باهظة الثمن من الناحية السياسية العام المقبل، في الأقل. فإيران إلى جانب دعمها جهود الحرب الروسية وقمعها مواطنيها، اعتقلت كثيراً من مزدوجي الجنسية وخصوصاً الأوروبيين منهم، وإن عمدت طهران إلى إجراءات من شأنها تخفيف هذه التوترات موقتاً وأفرجت عن مسجونين أميركيين، على سبيل المثال، فلن يخفض هذا الحدة الحالية كلها، ويتوقع أن تبعث الانتخابات البرلمانية في فبراير 2024 والانتخابات الرئاسية منتصف عام 2025 اضطرابات داخل إيران، وترفع كلف التسوية السياسية في حسبان المسؤولين الإيرانيين المتشددين.
ومن شأن وفاة المرشد الأعلى خامنئي (84 سنة) أن تبتدئ مرحلة انتقالية من المحتمل أن تكون متقلبة، وأن تتجاهل إيران أثنائها محاولات دبلوماسية نووية.
ولكن يحتمل ذلك جانباً إيجابياً يضيء اللوحة القاتمة، إذ يمكن أن يعزز موقف طهران الجيوسياسي المحسن قرارها بعدم استغلال برنامجها النووي والتهديد به في الوقت الحاضر، ومن المؤكد أن في الداخل الإيراني من قد يضغط في سبيل تجاوز العتبة النووية، والحق أن برنامج إيران النووي كان على الدوام وسيلة إلى تحقيق غاية وهي التمتع بالأمن والمكانة والاستقلال والنفوذ الدولي، ولم يكن غاية في حد ذاته.
وإذا جنت طهران هذه المنافع فقد تستنتج أن المضي حتى نهاية مسار صناعة القنبلة ليس ضرورياً ويعرض هذه المكاسب إلى الخطر.
الحؤول دون الأسوأ
ومن غير الجلي إلى متى قد يستمر الوضع الراهن الجديد، فقد يحدث انعطاف في أكتوبر 2025 حين تنتهي آلية "العودة المفاجئة" التي ينص عليها اتفاق 2015 النووي، ويزيل مجلس أمن الأمم المتحدة البرنامج النووي الإيراني من جدول أعماله.
(يظل قرار مجلس الأمن الذي صادق على خطة العمل الشاملة المشتركة ساري المفعول على رغم أن الصفقة باتت في حكم المنتهية، وتتقلص القيود التي وضعتها الأمم المتحدة بشكل تلقائي من غير تفكير في النتائج إذا لم تفعّل القوى الغربية أحكام العودة المفاجئة).
ويتعين على الولايات المتحدة وحلفائها أن يقرروا ما إذا كانت إعادة فرض عقوبات أممية على إيران تستحق المجازفة بحمل إيران على إنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع سلاح نووي، وخروجها من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، وهو ما كانت طهران هددت به رداً على العقوبات.
وسيكون على إيران أن تقرر ما إذا كانت ستنفذ تلك التهديدات وتجازف بتعطيل بيئة كانت مواتية لها قبل حصول ذلك، وبرد سببته لنفسها، ويلحظ توجيه ضربة عسكرية محتملة على منشآتها النووية، لذا فليس بعيداً أن تدعو هذه المجازفات واشنطن وطهران، مع اقتراب الموعد النهائي عام 2025، إلى صوغ حل سياسي.
ومع هذا فليست الولايات المتحدة في حاجة إلى الانتظار حتى ذلك الحين للبدء في التخفيف من أخطار الانفجار، فهناك إجراءات في الخطة (ج) على واشنطن اتخاذها في سياق إبطاء تقدم إيران النووي وتحجيم علاقتها المتعاظمة بالصين وروسيا.
أولاً على الولايات المتحدة تعزيز جهودها الرامية إلى ردع إيران عن المضي قدماً في برنامجها النووي، سواء بواسطة بلوغ مستويات أعلى من التخصيب أو تحويل المواد النووية أو الخروج من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ويقتضي ذلك قيام إدارة بايدن بإعداد بيان مشترك مع مجموعة منوعة من الدول مثل البرازيل والهند واليابان وكوريا الجنوبية وتركيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة، للتعبير عن القلق من الاستفزازات النووية الإيرانية والضرر الذي قد تلحقه بنفسها جراء التصعيد، مثل التخصيب بنسبة 90 في المئة. وعلى واشنطن أيضاً أن تشجع هذه الدول وغيرها، بمن فيها الصين، على توجيه هذه الرسالة إلى إيران مباشرة.
،، لا ينبغي لواشنطن أن تتخلى عن الدبلوماسية بالكامل ،،
وعلى مثال قواعد اللعبة التي شهدتها أوكرانيا، فعلى الولايات المتحدة الاتفاق مع دول أخرى على العواقب الوخيمة المترتبة على خطوات إيران النووية المحددة، وتوضيح هذه العواقب لإيران مسبقاً، وإذا كانت إستراتيجية طهران تعتمد جزئياً على تطوير شراكات عالمية جديدة بغية تطبيع مسارها النووي، فعلى واشنطن أن تسعى إلى منعها من بلوغ هذا الهدف.
ثانياً، يجدر بالولايات المتحدة أن تحاول جعل تواصل إيران مع الصين وروسيا أكثر تعقيداً، مما يؤدي إلى تآكل الفوائد التي تأمل طهران في الحصول عليها من محورها الشرقي، وعلى واشنطن أن تعظم العقوبات على صادرات النفط الإيرانية، بما في ذلك زيادة الضغط على الدول الوسيطة، وينبغي أن تعمل أيضاً مع أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان في سبيل فضح الروابط الإيرانية - الروسية وتعقيد التهرب من العقوبات.
أخيراً، حتى لو بدا أن فرص التوصل إلى صفقة ضئيلة فلا ينبغي لواشنطن أن تتخلى عن الدبلوماسية بالكامل، وعلى سبيل المثال يجب أن تستكشف كيف يمكن للدبلوماسية الإيرانية - السعودية أن تفتح الباب للقيود النووية الإقليمية، ومن المحتمل أن توفر بعض القيود على الأنشطة النووية المستقبلية، إضافة الى ضمانات ضد إنتاج الأسلحة مع التحلي دائماً بالواقعية في شأن ما يمكن أن تحققه مثل هذه الترتيبات، ولا توجد أسباب كافية للاعتقاد بأن لدى طهران الدافع الذي يحملها على تقليص برنامج التخصيب بشكل معقول.
وفي ضوء أن التوترات بين إيران والسعودية تتراجع تماماً في وقت يبلغ البرنامج النووي الإيراني مستويات جديدة، فمن المحتمل أن يعزز ذلك اعتقاد طهران أن في إمكانها الاقتراب أكثر من صناعة القنبلة والمحافظة على أفضل العلاقات مع جيرانها (أو ما هو أسوأ من ذلك كأن تظن أن التوسع النووي الإيراني حفز السعودية على إصلاح خلل علاقاتهما).
وإلى ذلك يمكن لدول الخليج أن تتفق على تدابير شفافية قوية وضمانات نووية أقوى، والتزامات بعدم إعادة معالجة الوقود النووي أو إنتاج اليورانيوم المستخدم في صنع الأسلحة، وربما حتى على آليات للتعاون النووي السلمي، وهذه الإجراءات بعيدة كل البعد من القيود الصارمة المنصوص عليها في خطة العمل الشاملة المشتركة، ويبقى من الضروري على الولايات المتحدة أن تتعامل مع إيران كدولة نووية فعلياً، وفي ظل غياب أية فرصة حقيقية للتوصل إلى اتفاق نووي شامل فقد تكون هذه الإجراءات أفضل ما يمكن أن تأمله إدارة بايدن.
اضف تعليق