لا يضع كلّ ما سبق الكثير من الخيارات الجيدة أمام تركيا. وبات من المؤكّد، على ضوء الحملة الانتخابية، أن زلزال 6 شباط عزّز تمحور أهداف السياسة التركية في سورية حول مصالح أردوغان الانتخابية. هذا هو المبدأ الذي سيوجّه خطوات تركيا ومفاوضاتها في المستقبل. يُعتبر بشار الأسد أيضًا في وضع مماثل...
بقلم: فرانشيسكو سيكاردي
أثّرت كارثة 6 شباط/فبراير على مسار العلاقات التركية السورية من نواحٍ متعدّدة.
إن مرحلة ما بعد 6 شباط/فبراير 2023 لن تكون أبدًا كما قبله بالنسبة إلى تركيا وسورية. فقد أودى الزلزال المدمّر الذي ضرب المنطقة في ذلك اليوم بحياة عشرات الآلاف من السكان (كانت حصيلة الخسائر البشرية 37,000 شخص في تركيا و5,800 شخص في سورية أثناء كتابة هذا المقال)، وأسفر عن تهجير ملايين الأشخاص على طول حدود البلدَين.
لا شكّ في أن مشاعر الحزن ومساعي إعادة الإعمار سترافق المواطنين السوريين والأتراك على مدى السنوات المقبلة، لكن بتنا نتلمّس أولى التداعيات السياسية الناجمة عن هذه الكارثة. ففي تركيا، يبدو المصير السياسي للرئيس رجب طيب أردوغان على المحك.
فالسخط الشعبي من الاستجابة البطيئة التي أبدتها السلطات التركية للتصدّي إلى الكارثة قد يؤدّي إلى فقدان أردوغان فرصة إعادة انتخابه رئيسًا في السنة التي تصادف فيها الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية. لكن من المستبعَد أن يتوجّه الأتراك إلى صناديق الاقتراع يوم 14 أيار/مايو نظرًا إلى الأضرار التي خلّفها الزلزال، ومن المرجّح تأجيل إجرائها إلى منتصف شهر حزيران/يونيو، أي المهلة المحدّدة دستوريًا، أو إلى العام 2024 في حال تمكّن أردوغان وحزبه من تحقيق ذلك. أما في سورية، فالرئيس بشار الأسد يستخدم التعاطف مع ضحايا الزلزال من السوريين للدعوة إلى رفع العقوبات الغربية المفروضة على البلاد ووضع حدّ لعزلته الدولية.
ستكون للزلزال تداعيات ضخمة على العلاقات التركية السورية. لقد حدث تقدّم على مستوى تحقيق التقارب بين البلدَين لغاية كانون الثاني/يناير من العام الجاري، بعد أكثر من عقدٍ من العداء والضغينة. فبعد الإحجام عن تنفيذ التوغّل العسكري الخامس في شمال سورية، بدأت القيادة التركية إرسال إشارات مشجعة إلى دمشق. في المقابل، اشترط نظام الأسد انسحاب جميع القوات التركية من سورية. لكن بات التقاء المصالح بين أنقرة ودمشق ممكنًا على نحو متزايد بهدف إحباط تطلّعات استقلال الأكراد في شمال شرق سورية.
وإن كان اهتمام الأسد بالانفتاح التركي نحو بلاده قد أمْلته رغبته في الصمود السياسي، فسياسة تركيا المتعلقة بسورية تُحرّكها عوامل خارجية وداخلية على السواء. من جهة، كانت روسيا تدفع تركيا لفتح قنوات حوار مع سورية بهدف خفض فرص الانتشار العسكري التركي الموسّع في شمال سورية، ودقّ إسفين بين أنقرة وحلفائها الغربيين، الذين يعارضون أي مصالحة مع النظام السوري. ومن جهة أخرى، اعتبرت أنقرة أن تحسين علاقاتها مع سورية قد يساعدها على تحقيق مكاسب انتخابية من خلال إظهار أن الحكومة سعت من أجل التوصّل إلى حلول عملية لأعداد اللاجئين السوريين الكبيرة في تركيا. وسيكون ذلك بمثابة سرقة نقطة من المعارضة التي اقترحت إجراء حوار مع الأسد كحلّ لإعادة اللاجئين السوريين إلى بلادهم. وقد سلّط ذلك أيضًا الضوء على القضية الكردية في النقاش السياسي التركي، ما اعتبر أردوغان أنه سيصبّ في صالحه.
بعد زلزال 6 شباط/فبراير، تغّيرت هذه الاعتبارات بطرق عدّة. على الصعيد الدولي، ستواصل روسيا وقوى إقليمية أخرى الترويج للتطبيع مع نظام الأسد. وقد قدّمت بعض من هذه الدول، مثل الإمارات العربية المتحدة، بسخاء مساعدات طارئة إلى تركيا وسورية، إضافةً إلى المساهمة في تحسين المالية العامة لتركيا. وعلى الصعيد المحلي، من المنطقي ألا يكون الوقت مناسبًا لقيام أنقرة بتصعيد خطابها المناهض للأكراد السوريين، ناهيك عن إقناع ناخبيها بأن مكافحة الإرهاب وضبط الحدود يشكّلان مبرّرًا جيّدًا لنشر الجيش التركي في شمال سورية. علاوةً على ذلك، أعلن حزب العمال الكردستاني عن تعليق عملياته مؤقتًا في تركيا، ما من شأنه أن يصعّب أكثر على الحكومة تبرير موقفها. مع ذلك، برزت تقارير عن تنفيذ غارات تركية بطائرات مسيّرة في شمال سورية خلال الأسبوع الذي أعقب الزلزال.
وعلى الرغم من أن عمليات الإغاثة ستبقى الشغل الشاغل للحكومة التركية على الأمدَين القصير والمتوسط، ستشكّل قضية اللاجئين على نحو متزايد عقبة أساسية في طريقها. واقع الحال أن الخطاب الشعبوي المعادي للسوريين قد تصاعد في المناطق التركية الأكثر تضرّرًا من الزلزال. واتُّهم السوريون بالسرقة، وانتشرت مقاطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي بفضل حملة نظمها سياسيون يمينيون متطرّفون مناهضون للاجئين على غرار أوميت أوزداغ. ومن المستبعد أن تنتهي هذه الظاهرة في وقت قريب. لكن من الصعب تخيّل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى بلادهم في ظل الظروف الراهنة.
وسيتعيّن على تركيا أيضًا التعامل مع احتمال تدفّق المزيد من اللاجئين السوريين من محافظة إدلب، التي كانت قبل الزلزال تأوي نحو 3 ملايين من الأشخاص النازحين داخليًا. لهذا السبب، من المستحيل أن تتمكّن أنقرة من الوفاء بالشروط المسبقة التي وضعها نظام الأسد للحوار، والمتمثّلة في سحب تركيا جيشها من شمال سورية ووقف دعمها للمتمرّدين على الأرض. فتركيا ترى أن استمرار وجودها العسكري في إدلب يشكّل ضمانة في وجه أي تدفق للاجئين عبر الحدود في المستقبل.
لا يضع كلّ ما سبق الكثير من الخيارات الجيدة أمام تركيا. وبات من المؤكّد، على ضوء الحملة الانتخابية، أن زلزال 6 شباط/فبراير عزّز تمحور أهداف السياسة التركية في سورية حول مصالح أردوغان الانتخابية. هذا هو المبدأ الذي سيوجّه خطوات تركيا ومفاوضاتها في المستقبل.
يُعتبر بشار الأسد أيضًا في وضع مماثل، إذ يقوم باحتساب كل خطوة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب وإبعاد نفسه عن صورته كمنبوذ على الصعيد الدولي. وسيقدّم الأسد تنازلات يراها مناسبة في هذا الشأن. وأحدث مثال على ذلك فتح ممرات للمساعدات الإنسانية إلى مناطق شمال غرب سورية الخاضعة لسيطرة المتمردين. لكن وبينما تتجلّى حسابات الجانبَين التركي والسوري، ستبقى على الأرجح معاناة ضحايا الزلزال في البلدَين مستمرة. لكن لا يبدو أن لمأساتهم ثقلًا كبيرًا ضمن اللعبة السياسية الأكبر التي ترتسم معالمها من حولهم.
اضف تعليق