لا تعني بالضرورة استقالة الصدر من العملية السياسية أنه سيسلّم السلطة إلى أحزاب وفصائل سياسية أخرى، أو أنه سيخصص لها مكانًا فيها. وأشار المقربون منه إلى أن الجهات الفاعلة المتبقية لن تتمكن من تشكيل حكومة أو تسمية رئيس وزراء، سواء وفق أهدافهم الخاصة أو وفق الشروط التي وضعها...
بقلم: أزهر الربيعي
بعد إعلان الصدر انسحابه من العملية السياسة العراقية، اندلعت احتجاجات عنيفة، لكن من غير المرجح أن تكون هذه الاحتجاجات نهاية المناورة السياسية للصدر.
في 29 آب/أغسطس، توجه آلاف الصدريين إلى المنطقة الخضراء في بغداد التي تضم السفارات الأجنبية والمباني الحكومية في العراق. وما لبثت هذه الاحتجاجات أن اتخذت طابعًا عنيفًا لتتسع رقعتها لاحقًا وتشمل المحافظات الجنوبية، بما فيها ميسان وذي قار والبصرة، وكل ذلك ردًا على تغريدة نشرها الزعيم الشيعي البارز مقتدى الصدر بأنه سينسحب من الحياة السياسية. وفي هذه التغريدة، قدّم الصدر استقالته النهائية من النشاط السياسي وأعلن عن إقفال المؤسسات الصدرية كافة باستثناء المرقد الشريف والمتحف الشريف وهيئة تراث آل الصدر. كما طلب من أنصاره الدعاء والصلاة له في حال مات أو قُتل.
وتشكّل تغريدة الصدر والاحتجاجات التي تلتها فصلًا آخر في رواية الفوضى السياسية التي يتخبط بها العراق بعدما مر عام تقريبًا عجز خلاله عن تشكيل حكومة عقب الانتخابات المبكرة التي جرت في تشرين الأول/أكتوبر 2021. ومنذ ذلك الحين، يواجه الخصوم الشيعة، ولا سيما "التيار الصدري" بقيادة مقتدى الصدر والإطار التنسيقي الموالي لإيران الذي يضم قوات يقودها نوري المالكي وهادي العامري وحيدر العبادي، طريقًا مسدودًا لا ينفك يصبح أكثر تعقيدًا.
التبعات المباشرة لانسحاب الصدر
تسبب انسحاب الصدر سريعًا بصدامات دموية بين أنصاره، الصدريين، وفصائل شيعية أخرى مثل ميليشيا "عصائب أهل الحق." وإبان مقتل 33 شخصًا وجرح مئات آخرين في هذه الصدامات، أعلنت قوات الأمن حظر تجول شامل على المركبات في بغداد في محاولة لوقف دوامة العنف.
وفي اليوم التالي، عقد الصدر مؤتمرًا صحافيًا أوعز فيه إلى أنصاره بالانسحاب من المنطقة الخضراء ومبنى مجلس النواب العراقي في غضون ساعة. وفي خطاب متلفز، قال إنه يأسف للغاية لما يحصل في العراق مشددًا على أن طرفيْ النزاع يتحملان اللوم. وأضاف الصدر أن الثورة التي يشوبها العنف والقتل ليست بثورة.
مع ذلك، وبعد مرور عدة أيام، اندلعت في 2 أيلول/سبتمبر الاحتجاجات مجددًا في ساحة النسور داعيةً إلى وضع حد للفساد والمحاصصة والتدخل الإيراني في الشؤون العراقية. وردد المحتجون شعارات "الشعب يريد إسقاط النظام" و"إيران لن تحكم العراق" و"لا لتدخل طهران في السياسة العراقية." وعلى الرغم من أن "حركة تشرين" نظمت هؤلاء المتظاهرين بشكل مستقل ولم يرتبطوا بالتالي بالصدريين، دعوا جميع المحتجين إلى الانضمام إليهم ورددوا الكثير من المطالب نفسها، بما فيها حل البرلمان وإخضاع السلطات لعمليات تدقيق بغية مكافحة الفساد.
ويلوم المحتجون الذين خرجوا إلى الشوارع في أيلول/سبتمبر، على غرار الكثيرين في العراق، النخبة الحاكمة على استمرار الأزمة السياسية وعجزها عن إدارة البلاد. كما عبّر المتظاهرون عن اعتراضهم الشديد على التدخل الإيراني السافر في الشؤون العراقية، وهي من النقاط الرئيسية الأخرى التي يطالب بها الصدر. وعلى الرغم من انسحابه من العملية السياسية، لا يزال صدى مطالبه يتردد سواء داخل قاعدة الموالين له أو خارجها تدريجيًا.
تاريخ الصدر الحافل بالانسحابات
ناهيك عن إصرار الصدر على حججه، توقعت مختلف أطراف النزاع بقاءه في الساحة السياسية. صحيح أنه أعلن استقالته "بشكل نهائي" من الشأن السياسي، إلا أن الكثيرين يصرون على إمكانية عودته في أي وقت. وتكفي نظرة سريعة إلى مناوراته السابقة لتثبت ذلك.
بالفعل، هذه ليست المرة الأولى التي ينسحب فيها الصدر من الحياة السياسية. على مدى السنوات القليلة الماضية، فاجأ الزعيم الشيعي أنصاره أكثر من مرة بإعلان انسحابه أو استقالته من النشاط السياسي ليعدل لاحقًا عن قراره. وفي عام 2007 مثلًا، أعلن الصدر استقالته من السياسة وسافر لاحقًا إلى إيران، احتجاجًا على وجود القوات الأمريكية في العراق وللتفرغ لدراساته الدينية على السواء. وفي ذلك الوقت، وعد الصدر بأنه لن يعيد النظر في قراره إلا بعد انسحاب آخر جندي أمريكي من العراق. لكن في عام 2010، وقبل انسحاب القوات الأمريكية من العراق، عاد الصدر إلى المشهد السياسي بعد فوز كتلته بـ39 مقعدًا في انتخابات أعضاء "الإئتلاف الوطني العراقي."
وبعد ثلاث سنوات، وعقب الصدامات بين أنصار الصدر وغيرهم من الفصائل المسلحة، أعلن الصدر مجددًا أنه سيترك العمل السياسي، ليعود ويتراجع بعدها بفترة قصيرة. ولكنه انسحب مجددًا في عاميْ 2014 و2016، كما هدد مرارًا بالانسحاب في مناسبات متعددة خلال العقد الماضي. ويُعتبر إعلان الصدر الأخير واحدًا من مجموعة طويلة من الانسحابات والاستقالات.
على ضوء هذا التاريخ، تبقى بعض القوى السياسية قلقة حيال الأثر الدائم للصدر نظرًا إلى نطاق نفوذه السياسي. وتقض قاعدته الشعبية المليونية على وجه الخصوص مضجع الكثيرين بنا أنها قادرة على قلب العملية السياسية العراقية رأسًا على عقب بكلمة منه، سواء أعاد شخصيًا إلى الحياة السياسية أم لا. وحتى خارج الإطار السياسي، فإن الصدر قادر على تحريك الشعب العراقي بتغريدة واحدة لحشد المناصرين في أرجاء البلاد.
فضلًا عن ذلك، لا تعني بالضرورة استقالة الصدر من العملية السياسية أنه سيسلّم السلطة إلى أحزاب وفصائل سياسية أخرى، أو أنه سيخصص لها مكانًا فيها. وأشار المقربون منه إلى أن الجهات الفاعلة المتبقية لن تتمكن من تشكيل حكومة أو تسمية رئيس وزراء، سواء وفق أهدافهم الخاصة أو وفق الشروط التي وضعها الصدر سابقًا. وقد يسفر ذلك في نهاية المطاف عن حلّ مجلس النواب العراقي وإجراء انتخابات مبكرة لحلّ الأزمة ووضع حد للجمود السياسي القائم منذ نحو عام.
وفي حال قدّم "الإطار التنسيقي" بالفعل تنازلات أو وافق على شروط الصدر بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، من المستبعد أن يدوم انسحاب الصدر لفترة أطول. وعقب اجتماع القوى السياسية في الخامس من أيلول/سبتمبر الذي لم يضمّ أي ممثلين صدريين، يبدو هذا السيناريو محتملًا في المستقبل القريب. فخلال الاجتماع، ناقشت الشخصيات السياسية الحاجة إلى توحيد وجهات النظر المتباينة واتفقت على تشكيل فريق تكتيكي من مختلف الكيانات السياسية للتحضير للانتخابات المبكرة. ومن شأن هذه التحضيرات أن تشمل مراجعة القانون الانتخابي وإعادة النظر بدور اللجان الانتخابية، تمامًا كما أراد الصدر.
الانسحاب من الحياة السياسية وليس التخلي عنها
اعتبر المحلل السياسي رعد هاشم، كما غيره من المحللين، أن انسحاب الصدر مؤقت ليس إلا ويندرج في إطار مسعى لكسب التعاطف وحشد الدعم لحملته ضد الميليشيات المنافسة. ولكن حتى إن كانت استقالته نهائية بالفعل، من الواضح أنه سيبقى حاضرًا بشكل كبير في العمل السياسي في العراق. فالصدر ترك بصمته في "التيار الصدري" وفي أوساط الشعب العراقي على السواء، ومن المستبعد أن يبقى خارج الساحة السياسية لفترة طويلة، لا سيما في حال كثر التصعيد أو التنازلات في المستقبل.
وصحيح أن المشهد السياسي في العراق كان فوضويًا وضبابيًا في بعض الأحيان، إلا أن احتمال إجراء انتخابات مبكرة قبل نهاية العام المقبل يُعتبر خطوة مهمة لحل الجمود السياسي. وفي حال إدخال تعديلات على الدستور والقوانين الانتخابية، وتطبيق التغييرات في اللجنة الانتخابية، قد تتشكل حكومة عراقية بنجاح. بالطبع، ما من ضمانات بأن هذه التغييرات ستساهم فعليًا في حل المشاكل الراسخة بين الكتل السياسية الكبرى، ولكنها ستؤدي على الأرجح إلى عودة الصدر إلى السياسة بحيث سيكون تواقًا إلى المشاركة من جديد في العملية الانتخابية إلى جانب مناصريه، وبخاصةٍ في حال سمحت التعديلات للكتل السياسية بتشكيل تحالفات بعد الانتخابات. وفي هذه الحالة، يتوقّع المحللون أن تصبّ التعديلات إلى حدّ كبير في صالح الصدر خلال تشكيل الحكومة المقبلة، ما يمنحه الغلبة في الميدان السياسي.
اضف تعليق