من السهولة بمكان التكهن بما سيقع في المستقبل القريب فقط بدراسة اتجاهات الماضي الطويلة وبتشفير القوانين وبفهم أن الحاضر وكذلك المستقبل القريب ليسا سوى سفاسف سرعان ما تلتحق بالماضي، وكذلك من السهل القيام بما يجب لتفادي أسوأ الأحوال، إلا أن البشر يتجاهلون مستقبلهم سواء الشخصي...
بقلم: جاك أتالي، Jaque ATTALI
ترجمة: خاليد جوهري، Khalid JAWHARI
من السهولة بمكان التكهن بما سيقع في المستقبل القريب فقط بدراسة اتجاهات الماضي الطويلة وبتشفير القوانين وبفهم أن الحاضر وكذلك المستقبل القريب ليسا سوى سفاسف سرعان ما تلتحق بالماضي، وكذلك من السهل القيام بما يجب لتفادي أسوأ الأحوال، إلا أن البشر يتجاهلون مستقبلهم سواء الشخصي أو الجماعي بكل ما أوتوا من قوة.
وحتى الأشخاص الذين يذهبون عند العرافين أو يلجؤون إلى الأبراج لمعرفة شيء ما عن مستقبلهم، لا يقومون بذلك إلا لأنهم يعلمون في دواخلهم أن ذلك مجرد كذب، وعلى النقيض من ذلك، عندما تكون الإجابة المنتظرة جادة فلا أحد يريد معرفتها: من يريد معرفة تاريخ وفاته؟ إلى درجة أن الكثير من الناس وحتى من كانوا يقضون أوقاتهم يسألون العرافين، يرفضون زيارة الطبيب خوفا من معرفة مستجد سيء أو أكثر مصداقية مما قد تتوقعه الخرائط، لقد توفي العديد من الأشخاص بسبب عدم استشارة الأطباء الذين كان من الممكن أن ينقذونهم من الموت.
وعلى الرغم من كون الأشخاص يعشقون قراءة الكتب أو مشاهدة أفلام الخيال العلمي بغرض فهم بعض الأشياء عن العالَم المستقبلي، لأنهم يدركون جيدا أن ذلك ليس واقعيا، والقليل من يرغب فعلا في الوعي بالمخاطر الحقيقية المحيطة بالبلدان والشعوب أو الإنسانية ككل: من يرغب فعلا في معرفة تاريخ مجزرة تهدده؟
لقد تم القضاء على العديد من الشعوب لأنهم لم يستجيبوا في الوقت المناسب لنداء الطوارئ الداعي إلى ضرورة مغادرة الأراضي الأشد خطورة.
وفي كل الأحوال يضع الناس نصب أعينهم ثلاثة أسوار تمنعهم من رؤية المستقبل والعمل عليه، وهي عدم الواقعية والعمى والمماطلة.
عدم الواقعية: نحن لا نقبل أن التاريخ مأساوي بطبيعة الحال وأن الأسوأ ممكن.
العمى: حتى من يقبل أن الأسوأ ممكن نظريا، يرفضون عموما قبول أنه راجح ومحتمل.
المماطلة: ومن بين من يقبلون أن الأسوأ راجح وقليل ما هم، يؤخرون ردة فعلهم لتجنبه بكل ما أوتوا من قوة.
لِمَ هذا كله؟ لماذا تم بناء هذه الأسوار التي تمنعنا من رؤية المستقبل؟ لماذا لا نرغب فعلا في معرفة المستقبل ولو القريب منه، ولا حتى السماع لمن يتكلم عنه؟ لماذا نبقى مكتوفي الأيدي عندما يتعلق الأمر بتغيير مصيرنا؟
ببساطة لأننا في المستقبل سنموت، وأننا نكره هذه اللحظة حيث سيقطن أشخاص آخرون بيوتنا وسيحبون من نحب، تلك اللحظة حيث سيفرح الآخرون بدوننا، حينها سنُنسى، وبالتالي لأننا لا نحب التفكير في عالم بدوننا فإننا نرفض تماما أي خطاب عنه.
وهذا ما يجري اليوم على الخصوص، فمنذ سنة والناس يرفضون تقبّل خطورة هذه الجائحة، والكثير لا يقبلون أنها تتفاقم بسرعة إلى جانب تهديدات أخرى اقتصادية وبيئية وهوياتية، وأغلب الناس يتصرفون بشكل لا واعي ولا يحترمون قواعد الحجر الصحي ويطعنون في إلزاميته، لأنهم يهابون كثيرا المستقبل بل حتى التفكير فيه.
وبذلك سيخلقون وضعية أسوأ بكثير مما لو تظاهروا أنهم لا يصدقون، حيث سيطرق المزيد من المرضى أبواب المستشفيات ولا يمكن استقبالهم، وسيصبح الوضع الصحي غير محتمل أو بالكاد غير مستقر، إذ سيصبح الهلع شاملا مقارنة بالحجر الصحي الأشد صرامة من القائم الآن، الذي سيؤدي إلى أزمة اقتصادية أخطر من التي كانت تنتظرنا أصلا.
وإلى أن تعود الأمور إلى نصابها، سنتجاوز هذه الأزمة وسنعيش لحظات فرح بدون أقنعة ولا قيود، سنذهب من جديد إلى السينما والمسرح والحفلات والمطاعم، سنأخذ الطائرة، وأشياء أخرى، كل هذا بعد عدة مآسي، فقط لأننا لم نعرف كيف نجتنبها، وهذا ما يجب أن نفهم ونقبل بصدر رحب: لنهدم الأسوار الثلاثة التي تحاصرنا في حاضرنا لكي نرى أن الحياة لا زالت جميلة.
اضف تعليق