NOURIEL ROUBINI

 

نيويورك ــ فاز دونالد ترمب برئاسة الولايات المتحدة بدعم من الطبقة العاملة والناخبين المحافظين اجتماعيا من ذوي البشرة البيضاء على أساس برنامج انتخابي شعبوي يقوم على القومية الاقتصادية. فقد رفض ترمب أجندة الحزب الجمهوري التقليدية المؤيدة للأعمال والتجارة، ومثله كمثل بيرني ساندرز على اليسار، خاطب ترمب الأميركيين الذين تضرروا بفِعل التكنولوجيات المعطلة للنظام السائد وسياسات "العولمة" التي روجت للتجارة الحرة والهجرة.

ولكن في حين خاض ترمب الانتخابات بوصفه زعيما شعبويا، فإنه مارس الحكم كأي حاكم ثري، وبشكل خاص مؤخرا، من خلال تأييد نظرية جانب العرض في التعامل مع الضرائب، والتي فقدت مصداقيتها ولا يزال أغلب الجمهوريين يتشبثون بها. كما خاض ترمب الانتخابات بوصفه شخصا يعتزم "تجفيف المستنقع" في واشنطن العاصمة، وفي وال ستريت. ولكنه رغم ذلك عبأ إدارته بأصحاب المليارات (وليس فقط أصحاب الملايين) وخريجي جولدمان ساكس، في حين ترك مستنقع جماعات الضغط من أصحاب الأعمال يرتفع أكثر من أي وقت مضى.

وكانت خطة ترمب والجمهوريين لإلغاء قانون الرعاية الميسرة (أوباما كير) لعام 2010 لتتسبب في حرمان 24 مليون أميركي ــ وأغلبهم من الفقراء أو أبناء الطبقة المتوسطة الذين صوت كثيرون منهم لصالح ترمب ــ من الرعاية الصحية. والواقع أن سياساته الرامية إلى إلغاء القواعد التنظيمية تتسم بانحياز صارخ ضد العمال والنقابات العمالية. وفي الأغلب الأعم، تحابي خطة الإصلاح الضريبي الجمهورية التي أقرها ترمب الشركات المتعددة الجنسيات وأعلى 1% دخلا بين الأسر الأميركية، والتي سوف يستفيد قسم كبير منها، وخاصة من إلغاء ضريبة الأملاك والتركات.

كما تخلى ترمب عن قاعدته الانتخابية في مجال التجارة، حيث لم يقدم سوى الخطابة ولكن بلا أي إجراء ملموس. صحيح أنه ألغى الشراكة عبر المحيط الهادئ، ولكن هيلاري كلينتون كانت لتفعل الشيء نفسه. وقد أعرب عن رغبته في الانسحاب من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، ولكن هذا قد يكون مجرد تكتيك تفاوضي. كما هدد بفرض تعريفة جمركية بنسبة 50% على السلع المستوردة من الصين والمكسيك وغيرهما من شركاء الولايات المتحدة التجاريين، ولكن لم تتحقق أي من هذه التدابير. أما المقترحات المتعلقة بما يسمى ضريبة التعديل الحدودية فقد نسيت تماما.

ولم تكن تغريدات ترمب العدائية ضد الشركات الأميركية التي تنقل الإنتاج إلى الخارج أو تمارس الانقلاب الضريبي أكثر من مجرد كلام رخيص، ويعرف كبار رجال الأعمال هذا حق المعرفة. فقد استمر المصنعون الذين خدعوا ترمب وصوروا له أنهم سيواصلون الإنتاج داخل الولايات المتحدة في نقل عملياتهم بهدوء إلى المكسيك والصين وأماكن أخرى. وعلاوة على ذلك، تُعطي الفقرات الدولية في التشريع الضريبي المنتظر الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات حافزا أكبر للاستثمار وتشغيل العمالة والإنتاج في الخارج، في حين تستخدم تسعير التحويل وغير ذلك من المخططات لتجنيب الأرباح في المناطق حيث الضرائب منخفضة.

بالمثل، وعلى الرغم من خطاب ترمب العدواني بشأن الهجرة، فإن سياساته كانت معتدلة نسبيا، ربما لأن كثيرين من رجال الأعمال الذين دعموا حملته الانتخابية يفضلون في حقيقة الأمر نهجا أكثر اعتدالا. ولا يؤثر "حظر المسلمين" على المعروض من العمالة في الولايات المتحدة. وعلى الرغم من تسارع عمليات الترحيل في عهد ترمب، فمن الجدير بالذكر أن الملايين من المهاجرين غير الشرعيين جرى ترحيلهم في عهد باراك أوباما أيضا. أما الجدار الحدودي الذي كان ترمب عازما على إرغام المكسيك على إقامته على نفقتها فيظل حلما غير ممول. وحتى خطة الإدارة لمحاباة العمال المهرة على حساب العمال غير المهرة لن تؤدي بالضرورة إلى تقليل عدد المهاجرين غير الشرعيين في البلاد.

وعلى الرغم من كل هذا، مارس ترمب الحكم كحاكم ثري في رداء شعبوي ــ وهذه هي شعبوية الحكام الأثرياء. ولكن لماذا سمحت له قاعدته الانتخابية بملاحقة سياسات من شأنها أن تلحق بهم الأذى في الأغلب؟ يرى بعض المراقبين أن ترمب يراهن على تصويت المحافظين الاجتماعيين وأنصار العمال من ذوي البشرة البيضاء في المناطق الريفية على أساس المشاعر القومية الدينية وكراهية النخب الساحلية العلمانية، وليس على أساس مصالحهم المالية.

ولكن إلى متى قد يدعم أي شخص "الرب والبنادق" على حساب "الخبز والزبد"؟ كان الحكام الأثرياء الشعبويون الذين حكموا الإمبراطورية الرومانية يعلمون أن الإبقاء على الدهماء الشعبويين بعيدا يستلزم توفير الثروة والإلهاء: "الخبز والسيرك". وتُصبِح التغريدات الغاضبة بلا معنى من منظور الأشخاص الذين لا يمكنهم اكتساب حياة كريمة، ناهيك عن تذاكر لحضور كولوسيوم العصر الحديث لمشاهدة كرة القدم.

وقد يثبت التشريع الضريبي الذي دفع به الجمهوريون عبر الكونجرس كونه خطيرا بشكل خاص، لأن الملايين من الأسر المنتمية إلى الطبقتين المتوسطة والدنيا لن يحصلوا على أقل القليل منها فحسب، بل وسوف يدفعون المزيد في حقيقة الأمر عندما يبدأ التخلص التدريجي من التخفيضات على ضريبة الدخل بمرور الوقت. وعلاوة على ذلك، تقضي خطة الجمهوريين بإلغاء التفويض الفردي لقانون الرعاية الميسرة. ووفقا لمكتب الميزانية غير الحزبي في الكونجرس، فإن هذا من شأنه أن يتسبب في فقدان 13 مليون شخص للتأمين الصحي، وارتفاع أقساط التأمين بنسبة 10% على مدار العقد المقبل. ومن غير المستغرب أن يجد استطلاع آراء حديث أجراه معهد كوينيبياك أن 29% فقط من الأميركيين يدعمون الخطة الجمهورية.

ومع ذلك، يبدو أن ترمب والجمهوريين على استعداد لخوض المجازفة. فمن خلال تأجيل رفع الضرائب على الطبقة المتوسطة إلى تاريخ لاحق، صمموا خطتهم بحيث تسمح لهم باجتياز انتخابات التجديد النصفي في عام 2018 والانتخابات العامة في عام 2020. ومن الآن حتى انتخابات التجديد النصفي، يمكنهم أن يتفاخروا بخفض الضرائب المفروضة على أغلب الأسر. وربما يتوقعون أن تبلغ تأثيرات التحفيز الاقتصادي الناجم عن الخفض الضريبي ذروتها في عام 2019، قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة مباشرة ــ وقبل فترة طويلة من صدور مشروع القانون.

وعلاوة على ذلك، من المرجح أن يعمل التشريع النهائي على خفض الخصم الفيدرالي على فوائد الرهن العقاري وإلغاء قابلية ضرائب الولايات والبلديات للاستقطاع. وهذا من شأنه أن يُلحِق بالأسر في الولايات الديمقراطية مثل نيويورك، ونيوجيرسي، وكاليفورنيا أضرارا أكبر كثيرا من تلك التي قد تلحق بالأسر في الولايات الجمهورية.

يتلخص جزء آخر من الاستراتيجية الجمهورية (المعروفة بمسمى "تجويع الوحش") في استخدام العجز الأعلى نتيجة للتخفيضات الضريبية كحجة لصالح تخفيض الإنفاق على الاستحقاقات مثل ميديكير (الرعاية الطبية لكبار السن) وميديك ايد (الرعاية الطبية للفقراء)، والطوابع الغذائية، والضمان الاجتماعي. ومرة أخرى، هذا اقتراح بالغ الخطورة، لأن كبار السن المنتمين إلى الطبقة المتوسطة وأولئك من ذوي الدخول المنخفضة يعتمدون بشدة على هذه البرامج. صحيح أن الفقراء من العاملين وغير العاملين الذي يحصلون على مدفوعات الضمان أو الطوابع الغذائية يضمون أقليات تميل إلى التصويت لصالح الديمقراطيين، ولكن الملايين من المنتمين إلى طبقة العمال من المحافظين من ذوي البشرة البيضاء الذي صوتوا لصالح ترمب يعتمدون أيضا على هذه البرامج وبرامج أخرى مماثلة.

مع توسع الاقتصاد العالمي، ربما يأمل ترمب أن تؤدي التخفيضات الضريبية وخطط إلغاء القيود التنظيمية إلى تحفيز القدر الكافي من النمو لخلق العدد الكافي من الوظائف حتى يُصبِح لديه ما يتفاخر به. ولن يكون معدل النمو المحتمل بنسبة 2% كافيا بالضرورة لمساعدة قاعدته الانتخابية من أصحاب المهن العمالية، ولكنه ربما يؤدي على الأقل إلى دفع سوق الأوراق المالية إلى أعلى نقطة على الإطلاق. وبطبيعة الحال، سيظل ترمب يدعي أن اقتصاد الولايات المتحدة من الممكن أن ينمو بمعدل 4%، حتى برغم أن جميع خبراء الاقتصاد المنتمين إلى التيار الرئيسي، بما في ذلك بعض الجمهوريين، يتفقون على أن معدل النمو سيظل عند مستوى 2% تقريبا، بصرف النظر عن سياسات ترمب.

مهما حدث، سوف يستمر ترمب في إطلاق تغريداته بجنون، فيروج لقصص إخبارية وهمية، ويتفاخر بأن الاقتصاد الأميركي هو "الأكبر والأفضل" على الإطلاق. وفي القيام بذلك، ربما يخلق حتى سيركا يستحق الإمبراطور الروماني. ولكن إذا كان الخطاب الفارغ وحده لا يكفي، فربما يقرر اتخاذ موقف هجومي، وخاصة على الصعيد الدولي. وقد يعني هذا الانسحاب حقا من اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية، أو اتخاذ تدابير تجارية ضد الصين وغيرها من الشركاء التجاريين، أو زيادة حدة سياسات الهجرة القاسية.

وإذا لم تكن هذه التدابير مرضية لقاعدته الانتخابية، فسوف يظل أمام ترمب خيار أخير، استخدمه الأباطرة الرومان وغيرهم من الطغاة خلال أوقات الصعوبات في الداخل. وعلى وجه التحديد، يمكنه أن يحاول "تشتيت الانتباه" من خلال اختلاق تهديد خارجي أو الشروع في مغامرات عسكرية لإلهاء أنصاره عن ما يفعله هو والجمهوريون في الكونجرس.

على سبيل المثال، في أعقاب النهج المجنون في التعامل مع السياسة الخارجية، ربما يبدأ ترمب حربا مع كوريا الشمالية أو إيران. أو ربما ينشر المزيد من التغريدات التحريضية عن شرور الإسلام، فيدفع بالتالي أفرادا مختلين ومهمشين إلى أحضان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) أو غير ذلك من الجماعات المتطرفة. وهذا من شأنه أن يزيد من احتمالات الهجمات المستلهمة من داعش ــ على سبيل المثال، إقدام "ذئاب منفردة" على تفجير أنفسهم أو قيادة شاحنات عبر مناطق مزدحمة بالمشاة ــ داخل الولايات المتحدة. ومع مقتل العشرات، إن لم يكن المئات، ربما يلف ترمب نفسه بالعلم ويقول "ألم أقل لكم". وإذا ساءت الأمور بالقدر الكافي، يستطيع ترمب أن يعلن حالة الطوارئ، ويعلق الحريات المدنية، ويحول أميركا إلى دولة استبدادية يحكمها أثرياء شعبويون حقا.

يدرك المرء أن القلق بات مستحقا عندما يذهب الجمهوري المحافظ بوب كوركر، رئيس لجنة مجلس الشيوخ للعلاقات الخارجية، إلى التحذير علنا من أن ترمب ربما يشعل حربا عالمية ثالثة. وإذا لم تكن مقتنعا، فما عليك إلا أن تتأمل تاريخ روسيا وتركيا الحديث؛ أو تاريخ الإمبراطورية الرومانية في عهد كاليجولا أو نيرو. كان الحكام الأثرياء الشعبويون يحولون الديمقراطيات إلى دكتاتوريات بالاستعانة بنفس كتيب التعليمات لآلاف السنين. ولا يوجد من الأسباب ما قد يجعلنا نتصور أن هذا قد يتوقف الآن. بل ربما يكون عهد الإمبراطور ترمب قاب قوسين أو أدنى.

* نوريل روبيني، أستاذ في كلية ستيرن لإدارة الأعمال في جامعة نيويورك، والرئيس التنفيذي لشركة روبيني ماكرو أسوسياتس، كبير الاقتصاديين للشؤون الدولية في مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض خلال إدارة كلينتون
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق